امرأة سجلت اسمها بحروف مضيئة فى سجل الرائدات المصريات؛ لتصبح رمزًا لنضال المرأة المصرية من أجل الحصول على حقوقها، رُغم المصاعب والعقبات، وتصنع مجدًا منقطع النظير، بعدما بات اسمُها علامة على كفاح المرأة المصرية، ليس فقط لأنها السابقة فى مجالها، لكن لتشجيعها آلاف النساء من بَعدها على العمل فى مهنة كانت غير مألوفة بالنسبة للمرأة حتى منتصف القرن الماضى. إنها «مفيدة عبدالرحمن»، إحدى رائدات مهنة المحاماة فى مصر، وأول محامية بالعالم العربى تترافع أمام المحاكم العسكرية العُليا، وأول محامية مصرية تقيد بمحكمة النقض، بالإضافة إلى كونها أول امرأة ترفع دعوَى أمام المحاكم فى صعيد مصر. البداية كانت فى حى الدرب الأحمر بالقاهرة، عندما وُلدت «مفيدة» فى عام 1914 لأب كان يعمل خطاطا للمصحف الشريف، والذى ألحق ابنته بمدرسة داخلية للبنات وهى فى سن الخامسة، ثم مدرسة السنية ومنها حصلت على البكالوريا، ورُغم أنها كانت فى مقتبل حياتها تحلم بدراسة الطب؛ فإنها تخلت عن هذا الحلم من أجل الزواج والإنجاب، إلا أن الأقدار كانت تخبئ لها إنجازًا آخر يُكتب باسمها بين صفحات التاريخ. ولأن وراء كل امرأة عظيمة وناجحة رجلًا محبّا وزوجًا متفهمًا ومشجعًا، فقد شجعها زوجها الكاتب الإسلامى «محمد عبداللطيف» على الالتحاق بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول عام 1935، ودعمها بكل قوة لتحقق ما كان مستحيلا وقتها فى نظر الكثيرين؛ خصوصًا أنها فوجئت بعد تقديم أوراقها برفض عميد الكلية قبولها، بعد علمه أنها زوجة وأم؛ حيث أصر على مقابلة زوجها للحصول على موافقة كتابية منه، وهنا ظهر زوجها مساندًا وداعمًا لها، ونجح فى إقناع العميد الذى استغرب من إصراره على دخولها الكلية؛ لتصبح أول فتاة تدرس الحقوق فى مصر، وأيضًا أول أمّ وزوجة تدخل الجامعة، لتحصل على ليسانس الحقوق عام 1939، وتتخرج وهى أُمّ لأربعة أطفال. بلا تردد، اقتحمت «مفيدة عبدالرحمن» مهنة المحاماة بعد تخرجها، والتى كانت حكرًا على الرجال حتى خطت قدماها قاعات المحاكم، وكانت أول قضية تولت الدفاع والترافع فيها، هى قضية «قتل غير متعمّد»، واستطاعت الفوز بها وتبرئة موكلها، لتنال شهرة كبيرة فى الأوساط القضائية والاجتماعية المصرية، كأول امرأة مصرية تخوض عالم المحاماة، وتتوالى عليها القضايا فى بر مصر؛ حيث بدأ الموكلون يطلبونها بالاسم، ولم يمنعها أى شىء من القيام بدورها مَهما كان صعبًا، حتى إنها كانت تذهب أحيانًا للترافع فى بعض القضايا وهى حامل. توازيًا مع دورها الرائد فى المحاماة، كانت «مفيدة» تفعل كل ما فى وسعها من أجل نصرة المرأة، واختيرت للدفاع عن «درية شفيق» والتى تمكنت من جمع 1500 امرأة سرًا من مجموعتين نسائيتين رائدتين فى مصر، هما بنت النيل والاتحاد النسائى المصرى؛ لتنظيم مسيرة تنادى بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمرأة، لكن المحامية الشابة أرادت أن تضاعف دورها المحورى بين بنات جيلها، لتبدأ رحلتها تحت قبة البرلمان فى عام 1959، وتصبح عضوًا فى مجلس النواب عن الغورية والإزبكية، طوال 17 عامًا على التوالى، وكانت المرأة الوحيدة التى شاركت فى عمل لجنة تعديل قوانين الوضع للمسلمين التى بدأت فى الستينيات. ولم تكتفِ «مفيدة» بنجاحها الباهر تحت قبة البرلمان وفى ساحات المحاكم، وشغلت عدة مناصب مهمة، ومنها عضوية مجلس إدارة بنك الجمهورية ومجلس الاتحادات الجامعية والمؤتمر الوطنى للاتحاد الاشتراكى والاتحاد الوطنى ومجلس هيئة البريد، وشغلت عضوية مجلس نقابة المحامين، ولم تكن المحاماة المضمار الوحيد الذى سبقت إليه بنات جنسها؛ فاتجهت كذلك إلى الاقتصاد فكانت أول سيدة تشغل منصب عضو بمجلس إدارة بنك فى عام 1962، كما عملت مع الأممالمتحدة فى مضمار تنظيم وتوجيه الأسرة، وتولت منصب رئيس جمعية نساء الإسلام حتى وفاتها عام 2002. تحدثت «مفيدة» عن قصة كفاحها ودور زوجها فى نجاحها، قائلة: «الحقيقة مشوارى طويل جدّا.. عشته بسعادة رُغم المتاعب والمشكلات العويصة لكن إيمانى بالله سبحانه خفّف عنّى كل هذه المتاعب.. وكان زوجى صاحب فضل كبير فى تعليمى.. كان يعاوننى فى العناية بالصغار حتى أتمكن من المذاكرة ثم دعمنى فى عملى بالمحاماة.. وكان لا يغار بل كان يحفزّه نجاحى.. لهذا أنا مدينة لزوجى بالقسط الأكبر من النجاح.. لذلك عندما نجحت وصرت عضوة فى البرلمان وفى مؤسَّسات كبيرة كنت أعدّ لزوجى ملابسه وأمسح حذاءه بنفسى.. وكنت أرى فى ذلك فخرًا لى». رحلت «مفيدة عبدالرحمن» عن عالمنا، تاركة بصمتها الواضحة فى التاريخ المصرى بشكل عام، وفى تاريخ العمل النسائى على الأخص، لتثبت أن الإرادة هى سر النجاح، مَهما كان حجم الصعوبات والعقبات.