بينما اتجهت أنظارُ العالم تتابع عبر كل الفضائيات لقطات نادرة فى المشهد الدولى حين وطأت قَدَمَا البابا «فرنسيس» أرض العراق.. حَمَلَ كل مَشهد فى الزيارة رموزًا وإشارات تستدعى التوقف عندها بعيدًا عن المُعلَن.. لما تكشفه طقوسُ مراسم حج البابا إلى أرض الرافدين وفقًا للتعبير الذى استخدمه البابا «آتيكم حاجًّا». قبل الانتقال إلى العراق، يجدر التوقف عند إشارة صدرت من مصر فى بيان فضيلة شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب» الذى وصف الزيارة بالتاريخية والشجاعة. الصياغة الدبلوماسية للبيان تحمل بين كلماتها رسالة واضحة أقرَّتها كامتداد لوثيقة الأخُوَّة الإنسانية من أجل السلام العالمى والعَيش المشترك التى تم توقيعها فى أبوظبى عام 2019 بين شيخ الأزهر والبابا.. بعد مرور عامَين على هذه الخطوة التاريخية التى جمعت بين الإمام الأكبر للإسلام السُّنِّى وأرفع شخصية دينية مسيحية.. التقى البابا بأكبر مرجعية شيعية والمَرجع الدينى الأعلى فى العراق السيد «على السيستانى» فى تأكيد صريح، كون النجف مَقر المرجعية الدينية للطائفة الشيعية فى العالم الإسلامى بعد سجال أعوام حول المَقر الرسمى، لعل أبرز رموز اللقطة التى رصدت اللقاء اكتمال صورة التلاقى بين أبرز الشخصيات الدينية الثلاثة، «البابا فرنسيس - الشيخ أحمد الطيب - السيد السيستانى»، والرسالة التى تحملها للمسلمين حول التقاء وتوحد الحضارات والطوائف فى مواجهة الإرهاب وإقحام الدين كذريعة لعمليات العنف، بالإضافة إلى ما ظهر من تدهور الحالة الصحية للسيستانى الذى تجاوز التسعين عامًا، ما سيطرح عدة علامات استفهام حول الأسماء الثلاثة حول «السيستانى».. إسحاق الفياض «أفغانى»، بشير النجفى «باكستانى»، محمد سعيد الحكيم «عراقى». إلى إشارات أرض الرافدين التى حرصت أمام فضائيات العالم على إظهار صور التلاحم بكل رموز الكلمة.. بداية من اللقطة الأولى التى جمعت فى المطار بين التراتيل الكنسية والفولكلور العراقى، والجمع بين رقصة «الدّبْكة» البغدادية أمام نظيرتها الكردية. اللقطات بالإضافة إلى تعبيرها بصدق عن نبض الشارع، إلّا أنها تحمل بُعدًا سياسيّا.. البابا مع مكانته الدينية هو رئيس دولة مَعْنِىٌّ بتضمين رسالة زيارته التشديد على فكرة أن مسيحيى العراق هم جزء أساسى من نسيج مجتمعاتهم وبلادهم؛ خصوصًا أن كنائس الطوائف المسيحية العراقية «آشور - كلدان - سريان» تُعتبَر الأعرق فى الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تعرُّض هذه الطوائف للنصيب الأكبر من وحشية تنظيم «داعش» خلال احتلاله أراضى العراق. خلال زيارة قمت بها للعراق منذ عامَين حرصتُ على جمع شهادات العديد من أسَر مسيحية هجرت منازلها ومُدنها هربًا من تنكيل التنظيم التكفيرى.. اتفقت الإجابات على إطلاق صفة «المافيا» على «داعش»؛ حيث كانت كلمة السّر هى المساومات على المبالغ التى دفعتها هذه الأسَر للتنظيم نظير السماح لهم بالمغادرة تجاه العاصمة. هدف الزيارة تجاوز تسليط الضوء على معاناة المسيحيين إلى كل الأقليات والطوائف التى تشكل «موزاييك» النسيج العراقى، وهو ما عَبّرتْ عنه حالة الترحيب الجماعى فى الشارع العراقى. الإشارة الثالثة تنطلق من مدينة النجف إلى محافظة ذى قار التى تضم مدينة آور مسقط رأس النبىّ «إبراهيم». اختيار يبدو متسقًا مع طبيعة البابا «فرنسيس» المنحازة إلى الفقراء والمهمشين، إذ تعتبر المحافظة الأكثر فقرًا وتهميشًا بين محافظاتالعراق. حج البابا إلى آور يؤكد أن وعد سَلفه «يوحنا بولس الثانى» لايزال حاضرًا، وحرص البابا الحالى على استكمال تحقيق حلم سَلفه حين ألغيت عام 2000 زيارة آنذاك للبابا «يوحنا بولس» إلى العراق، التى كانت ضمن جدول رحلته إلى الأراضى المقدسة فى الشرق الأوسط. رُغم إدراج زيارة مسقط رأس النبى «إبراهيم» فى برنامج الرحلة لما تحمله من دلائل دينية؛ خصوصًا أن شخصية النبى «إبراهيم» تحمل صفة جامعة كونه (أبو الرسالات السماوية الثلاثة)؛ فإن الحكومة العراقية آنذاك اعتذرت عن الزيارة نتيجة ظروف الحصار الاقتصادى وعدم إمكانية تدبير الإجراءات الأمنية المطلوبة للزيارة. بَعد 20 عامًا نجحت مبادرات شخصيات كنسية عراقية لإحياء الفكرة بالتنسيق مع السفير البابوى فى العراق «ميتجا ليسكوفار»، وهو من الشخصيات المحورية فى الإعداد للزيارة على المستوى الدبلوماسى واللوجستى رغم إصابته بفيروس «كورونا».
ما حَفّز البابا إلى إفشال كل التكهنات التى راهنت على إلغاء الزيارة- خصوصًا أن هناك عدة دول أوروبية لم يقم حتى الآن بزيارتها- ورُغم تصاعُد وتيرة العنف فى العراق بعد التفجيرات الانتحارية فى ساحة الطيران وسط بغداد وقصف مطار أربيل، أصَرَّ البابا على استكمال برنامج الزيارة من بغداد - النجف - سهل آور – اربيل - مدينتى الموصل معقل تنظيم «داعش» سابقًا، وقرقوش روح وقلب الكنيسة الكاثوليكية فى محافظة نينوى التى تعرضت طوائفها للنصيب الأكبر من وحشية «داعش». سياسيّا وأمنيّا، العراق حاليًا فى أشد الحاجة إلى الشعار الذى حملته الزيارة المقتبس من إنجيل مَتَّى «أنتم جميعكم أخْوَة».. رسالة فى التوقيت المناسب مع تصاعد العنف والهجمات الإرهابية مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابى فى شهر أكتوير المقبل وتفاقم العوامل المُعرقلة المتجذرة عبر عُقود داخل المشهد السياسى، والتى كشفت زيف خصومة حاول الطرفان «إيران - داعش» الترويج لها فى الماضى، بينما الواقع بالأدلة أكد أنها كانت تُخفى تحالفًا وطيدًا بينهما.. تحديدًا عند استخدام التنظيم من قِبَل إيران لأغراض سياسية وتوظيفه لخدمة الأطماع المتصارعة بين تركياوإيران على أرض الرافدين.. ما فَجَّرَ مَشاعر سخط الشارع العراقى نتيجة التدخلات السافرة التى تهدد يوميّا استقلال القرار السياسى العراقى وتعمل على إفشال المهام الصعبة التى يسعى رئيس وزراء العراق «مصطفى الكاظمى» على مواجهتها بقرارات حاسمة وسريعة انحيازًا إلى المَطالب المشروعة للشارع العراقى الذى عكس ترحيبه الجارف بزيارة البابا ما لمسه من استجابة لمطالبه التى نجح فى تحقيق نسبة محدودة منها لايزال العراق بحاجة لاجتياز الكثير من المعوقات فى ملفات مثل المواطنة والعيش المشترك، الاستقلال الأمنى والسياسى، الفساد . رُغم امتلاك البابا قوة معنوية مؤثرة فى العالم نابعة من رمزية مُؤَسَّسَة الفاتيكان ومرجعيته الأخلاقية وتأثيره على الدبلوماسية الدولية؛ فإن الإفراط فى الأمنيات وحده لا يكفى إذا ما استمرت الممارسات الإقليمية فى مخطط إبقاء العراق داخل دائرة الفوضى والتبعية، فى المقابل اكتسب الشارع العراقى عبر تجاربه الكارثية منذ عام 2003 خبرة فى تظاهر التقاعس الدولى.. الآن بعدما وَجَّه إلى العالم مختلف الرسائل وهو يفرض مطالبه المشروعة، هو فى انتظار تجاوب حقيقى ومؤثر فى شكل إجراءات وقرارات توفر مقومات النجاح للاستحقاق الانتخابى المنتظر كى لا ينتهى مصيره إلى مجرد حلقة أخرى فى سلسلة الفشل المتتالى الذى أحدثته نخب سياسية فاسدة منذ عام 2003. 2 3