دائمًا ما يتحدث بسعادة وحنين عن ذكرياته فى مصر وكأنها حدثت بالأمس القريب.. كما يلفت انتباهى خفة ظله وقفشاته وملامحه المصرية الصميمة التى تشبه وجوه المصريين الذين نشاهدهم على المقاهى بالأحياء الشعبية.. إنه «سمير البسيونى» عُمْدَة مدينة (واشنطن تاون) بولاية نيوجيرسى..وأول عُمْدَة مصرى بأمريكا، يخبرنى بمرَح وفخر بأنه كان يعمل وهو طفل صغير بمصر.. كصَبى نجّار وصَبى فرّان بحى دار السلام الشعبى الذى وُلد به.. كما كان يعمل سمسارًا لشقق المصايف حين يسافر لخاله بالإسكندرية..ويعمل «مشرفَ دودة» حين كان يذهب عند جدّه فى كفر سعد بالدقهلية. وقد ترك مصرَ وعمره أربعة عشر عامًا..حين أرسل أبوه الذى يعمل بأمريكا تذكرَتَىْ سَفر له هو وشقيقه الذى يكبره بعامَين، وكان ذلك فى إجازة المَرحلة الإعدادية.. ويتذكر «سمير» أنه عندما نزل مع شقيقه فى مطار نيويورك وجدا أباهما فى انتظارهما.. سأل سمير والدَه بدهشة واستنكار: هى دى أمريكا؟!! وكثيرًا ما يتذكّر هذا التعليق الاستنكارى (هى دى أمريكا؟!!) الذى طرحه على والده حين وجد السيارة تسير على أسفلت عادى مثل السيارات فى مصر.. وكأنه كان يرسم صورة أخرى خيالية لأمريكا أوكان متوقعًا أن يشاهد كوكبًا آخر يثير دهشته وخياله!!. يومها ابتسم الأبُ.. وظل يوضّح لابنه أن جمال أمريكا وتميّزها يكمن فى النظام والقانون.. وأكمل «سمير البسيونى» تعليمه بأمريكا وتخرَّج فى كلية الطبخ، وعمل بالمطاعم ك«شيف» لعدة سنوات، ثم فتح مطعمًا مستقلّا بعد ذلك.. وكان من بين الزبائن الذين يترددون على مطعمه باستمرار عضو مجلس مدينة (واشنطن تاون) ويُدعى «جون».. وكان كثيرًا ما يحب أن يتحدث مع «سمير» فى القضايا السياسية ويستمع لآرائه وأفكاره باهتمام فيثنى عليه ويبدى إعجابه به.. حتى إنه قال له: «أنت تصلح لمنصب العُمْدَة، لديك أفكارٌ جيدة وعقلية بنَاءَة». وقرّر «البسيونى» أن يدخل مجال السياسة بهدف تحسين صورة المسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر؛ ليثبت للأمريكان أن العرب والمسلمين ليسوا بتلك العقلية الهمجية والأفكار الدموية كما يعتقدون.. وبدأ «سمير البسيونى» مشوارَه السياسى بترشيح نفسه لمجلس مدينة واشنطن تاون بولاية نيوجيرسى عام 2006، وكان لا بُدّ أن يتقدّم فى الانتخابات، إمّا عن الحزب الديمقراطى أو الحزب الجمهورى.. وهو ينتمى للحزب الجمهورى.. ويفوز بعضوية مجلس المدينة لمدة ثلاث سنوات. وبعد انقضاء السنوات الثلاث يقوم بترشيح نفسه عُمْدَة للمدينة نفسها.. رُغْمَ أن المدينة لا يسكنها إلّا شخصٌ عربىٌ واحدٌ، ورُغم ذلك انتخبه الأمريكان ونجح باكتساح.. وكان المنصبُ الجديد يحتاج منه كثيرًا من التفرُّغ، ولكنه فى حاجة للعمل؛ خصوصًا أنه يتقاضَى راتبًا رمزيّا مقابل أداء مهام عمله كعُمْدَة للمدينة يصل إلى 3200 دولار.. وكان فى ذلك الوقت يمتلك مطعمًا يستهلك كل وقته فقرّرَ أن يبيعه.. والتحق بوظيفة بالعلاقات العامة بإحدى الجامعات. ويؤكد «البسيونى».. أن مَهامَ العُمْدَة فى المُدن الأمريكية تشمل كل شىء خاص بمدينته مثل الأمن والتأمين الصحى والبوليس والمطافى والضرائب والمرافق. كما يخضع عُمْدَة المدينة لرقابة الولاية التى يتبعها ولا بُدّ أن يرسل تقريرًا بكل الأموال التى جمعها وبكل النفقات التى صرفها إلى الولاية؛ حيث تكون هناك رقابة مشدّدة على أداء العُمْدَة. كما أنه مسئول عن أى مشكلة تواجه سكانَ المدينة، سواءٌ فى المرافق أو فى الخدمات ويقوم بحلّها بنفسه.. وقام العُمْدَة المصرى «سمير البسيونى» بترشيد الإنفاق فى مدينته من خلال (شراء البوليس الأمريكى)، بمعنى أنه اشترى المعاش الخاص ببعض الضباط؛ حيث أعطاهم قيمة معاشهم مقابل أن يتركوا الخدمة؛ حيث يتقاضون رواتب كبيرة والمدينة صغيرة ولا تحتاج لكل هذه الأعداد الكبيرة من البوليس؛ خصوصًا أن كل مدينة مسئولة عن رواتب البوليس الخاص بها، وبهذه الطريقة وفَّرَ مبالغ كبيرة تصل إلى خمسة ملايين دولار.. كما أنه قام بإدخال أربع مدن فى محكمة واحدة بدلًا من أن تكون لكل مدينة محكمة، وبهذه الطريقة وفّرَ 720 ألف دولار.. وتعتمد ميزانية المدينة على الضرائب التى تجمعها المدينة.. ولذلك من حق العُمْدَة أن يحددَ قيمة الضرائب ويتم توزيع حصيلتها على الخدمات التى تقدمها المدينة؛ حيث يخصص 55 % من قيمة الضرائب للمدارس، و15 % للمدينة، و30 % لفرع الولاية التى تتبعه المدينة.. وقد قام «البسيونى» بتشجيع المستثمرين فى المدينة على فتح كثير من المتاجر والمولات؛ لتقديم الخدمات التى يحتاجها سكانُ المدينة، وحققت هذه المشاريع رواجًا اقتصاديّا أدّى إلى زيادة أرباح المستثمرين، وبالتالى إلى زيادة فى الضرائب التى يدفعونها عن أرباحهم.. ما دفع العُمْدَة المصرى إلى تخفيض الضرائب على سكان المدينة إلى15 % بدلًا من 20 %.. كما يقوم العُمْدَة بتعيين القاضى ورئيس النيابة لمدة ثلاث سنوات.. وحين تولى «سمير البسيونى» منصب عُمْدَة مدينة واشنطن تاون لم يُغَيّر القاضى؛ لأنه كان ذا سُمعة طيبة وأداء متميز لكنه قام بتغيير رئيس النيابة.. والقرارات التى يتخذها عُمْدَة المدينة لا بُدّ أن تكون بالتشاور مع المجموعة الحاكمة للمدينة أو أعضاء مجلس المدينة، وعددهم أربعة والعُمْدَة الخامس، فإذا وافق ثلاثة منهم يتم تطبيق القرار وإذا رفضت الأغلبية لا بُدّ أن يعدل العُمْدَة عن قراره.. القرارُ الوحيدُ الذى لا بُدّ أن يوافق عليه جميعُ الأعضاء حتى يتم إجازته هو ما يتعلق بحصول المدينة على قرض من البنوك. أمّا القراراتُ التى يتخذها العُمْدَة بمفرده؛ فهى ما تتعلق ببناء البيوت. ويتمنى «سمير البسيونى» أن ينتقل هذا النظام إلى مصر ويراه يصلح للتطبيق فى المدن المصرية وسيكون وسيلة جيدة لتنمية المدن والأحياء؛ حيث تكون هناك منافسة بين روساء المدن كى يثبت كل منهم كفاءته وتميزه وسيعطى فرصة للتطوير والتحديث. ويتذكر «البسيونى» لقاءَه بالرئيس «باراك أوباما» فى عام 2011 بعد قيام ثورة 25 يناير حين قدّم نفسَه له على أنه مصرى الأصل..وأكد له الشأن الداخلى لمصر يخص الشعبَ المصرى فقط هو الوحيد الذى له الحق فى تقرير مصيره. وجاء رَدّ «أوباما»؛ ليؤيده فى رأيه وأنه يحترم حرية الشعب المصرى وحقه فى التغيير واختيار رئيسه، كما أكد له أن الولاياتالمتحدة صديقة لمصرتحافظ على علاقتها بها. ويحلم «سمير البسيونى» أن يكون له دورٌ حقيقى فى خدمة الوطن الأم مصر، ولذلك رفض أن يرشح نفسَه للمرّة الثالثة كعُمْدَة لمدينة (واشنطن تاون)، فهو يرى أن وجوده فى منصب يتبع الحكومة الأمريكية يعوقه أن يقوم بدور تجاه مصر، الذى يتطلب أن يكون مستقلّا ومتحررًا من أى ارتباطات رسمية مع الولاياتالمتحدة، ويؤكد أن عمله بالسياسة الأمريكية واحتكاكه المباشر بالساسة الأمريكان أكسبه خبرة كبيرة فى التعامل مع الحكومة الأمريكية، فأصبح يدرك جيدًا منهجهم السياسى ويستطيع التعامل معهم بلغتهم وطريقتهم، وأنه لو كُلف بأى مهام من الحكومة المصرية سينفّذها على أفضل وجه.