لم أكن من المهووسين بالولايات المتحدةالأمريكية ولا من أرباب الحلم الأمريكى.. ولم تبهرنى الدولة العظمَى التى يقال إنها تحكم العالم فى المرّتين اللتين زرتها فيهما من خلال المشاركة فى مؤتمرات رسمية. ولم تكن أمريكا فى اللحظات التى قررت فيها الهروب من الضغوط والآلام التى حاصرتنى بعد وفاة والدتى سوى دولة أملك تأشيرتها.. أعلم أن الأمر ليس باليسير، وربما يحملنى ما لا أطيق من الناحية المادية.. لكن لا يهم أبدًا.. المهم أن أسافر.. أن أحاول أن أصنع أى جديد.. أن تهب رياح التغيير على حياتى الرتيبة.. تهبط الطائرة فى مطار (نوارك ليبرتى) بولاية نيوجيرسى.. وقلبى يزداد انقباضًا.. أقف فى الطابور الذى تتراص فيه الجنسيات المختلفة ما بين البيض والسود والآسيويين والأوروبيين من مختلف الأشكال والأعمار لإنهاء إجراءات الدخول..كان مطارًا صغيرًا مختلفًا تمامًا عن مطار نيويورك(كنيدى جى فى كيه).. الذى نزلت فيه خلال الزيارتين السابقتين للولايات المتحدةالأمريكية..
تقترب منّى سيدة ربما تكون فى الستين من العمر أو أكثر قليلا وتقول بلهجة مصرية وهى تمد لى يدها بورقة: والنبى يا بنتى اكتبى لى دى (..) فعند الوصول للمطار نتسلم استمارة لملء بياناتنا وأسباب زيارتنا والعنوان الذى نتوجّه إليه حين نخرج من المطار. كانت السيدة مصرية وتحمل على يدها لفافة كبيرة يبدو أنها حلوى.. لمحت عليها اسم محل حلويات مصرى شهير. أنظر إليها بود وأنا أبتسم لها محاولة أن أطمئنها، فكانت ملامحها لا تخلو من قلق واضطراب. أتناول الاستمارة الخاصة بها.. وأسألها وعيناى على الطبق الذى تحمله.. هل سيسمحون بدخول الحلويات؟ ترد بلهجة طيبة واثقة: نعم.. لقد جئت مرّتين من قبل لحضور ولادة ابنتى المتزوجة فى مدينة بايون.. وكنت دائمًا أدخل بالحلويات. وتخبرنى أنها جاءت لحضور ولادة ابنتها.. وأن ابنتها وزوجها ينتظرانها فى صالة الوصول.. أحاول ملء الاستمارتين؛ استمارتى واستمارة الأم المصرية.. تقابلنى بعض الخانات لا أفهمها ولا أستطيع ملأها.. أقف فى الطابور خلف السيدة ننتظر ختم الدخول من موظف الجوازات.. تصل السيدة أمام موظف الجوازات وتختم جوازها وتخرج قبلى.. ويجىء دورى ويختم الموظف الجواز بسهولة بعد أن سجلت بصمة العين.. ويمنحنى تصريح دخول بستة أشهُر لو تعديتها دون العودة لمصر أو دون مدّها من الجهات الرسمية بالولايات المتحدة ستة أشهُر أخرى أكون قد كسرت التأشيرة وخالفت القانون ولا يُسمح لى بدخول أمريكا مرّة أخرى. ينتظرنى أمام باب الخروج أحد معارفى وقد جاء بصحبة زوجته المصرية المحجبة..كانت الأمطار غزيرة والجو باردًا كئيبًا.. يصافحنى ويحمل عنّى حقائبى إلى سيارته.. وتعانقنى زوجته بحفاوة. نصل إلى الشقة التى استأجرتها بمدينة (جيرسى سيتى)، تلك المدينة التى تضم تجمعًا مصريّا كبيرًا حتى إنهم يطلقون عليها (شبرا أمريكا).. كانت الشقة تقع بالدور الأرضى فى بيت مكون من ثلاثة طوابق. خوف وبكاء ينصرف الزوجان بعد أن اطمأنا على وصولى.. لأجد نفسى بمفردى فى بيت غريب وبلد بعيد وقارة بعيدة فى ليلة شديدة البرودة والكآبة.. حتى إننى ظللت أبكى بحرقة طفل صغير فقد أمّه.. لقد شعرت فى هذه اللحظة باليُتم الحقيقى.. صحيح ماتت أمى وسبقها أبى بعشرين عامًا وصرت يتيمة الأبوَين ولكن يظل اليُتم الذى يسببه غياب الأوطان أقسى أنواع اليُتم.. كنت أشعر بهذا اليُتم فى تلك اللحظات. ..لم أنم هذه الليلة ولم يغمض لى جفن؛ خصوصًا أنه كانت هناك حركة ودبيب خطوات أسمعها قريبة جدّا من أذنى فى غرفة نومى التى تتكون من سرير ومرتبة ودولاب حائط.. ربما تصدر من السقف أو الشقة التى تعلونى وعرفت بعد ذلك أنها طبيعة الأسقف الخشبية فى البيوت الأمريكية، التى تجعل الصوت والحركة ينفذان إلى الجيران وربما تسمع حوارًا يدور بين شخصين فى الطابق العلوى بوضوح. بومة وسنجاب وكانت المفاجأة السّارة فى تلك الشقة الصغيرة هى الحديقة؛ حيث كان ملحقًا بها حديقة جميلة بها شجرة كمثرى مثمرة ومائدة وكراسى وشواية.. يلفت انتباهى «بومة» تقف على السور الذى يفصل حديقتنا عن حديقة المنزل المجاور.. فى البداية ظننت أنها حقيقية وانتظرت أن تطير لكننى وجدتها ثابتة لا تتحرك، ولاحظت أنها محنطة فتبدو كما لو كانت حيّة بريشها ووجهها المستدير وعينيها اللامعتين.. وعرفت أن الأمريكان يتفاءلون بالبوم بعكسنا- نحن المصريين- نتشاءم من نعيقه.. كما أننى أرى سنجابًا يتجول فى الحديقة بذيله الطويل وحين يلمحنى يجرى ويختبئ. من دون خطة لم تكن الحياة سهلة كما يعتقدها البعض، فمن لا يعمل لا مكان له فى هذا المجتمع.. ويمكن أن تشاهد نماذج ناجحة جدّا حققت ثروات كبيرة ومكانة مرموقة.. ونماذج أخرى فاشلة جدّا رُغم وجودها فى المهجر منذ عَقد أو عَقدين.. والفرق بينهما أن الذى نجح استطاع أن يحدد هدفه ويرسم لنفسه خطة، بل وخططا بديلة.. كما أنه عمل طويلا واجتهد إلى أن تحقق الهدف.. أمّا النوع الآخر فلم يكن يحدد ماذا يريد وظل يتخبط دون اجتهاد حقيقى ولم يحقق شيئًا. وكنت أنا من النوع الثانى.. لقد ذهبت إلى أمريكا دون خطة أو خطط بديلة، ربما كنت أعرف أن هدفى هو التغيير وأننى سأعمل مراسلة للقنوات الفضائية التى اتفقت معها قبل قدومى!! لقد تمنيت أن أنقل للمواطن المصرى أمريكا التى لا يعرفها..أن أركز على النماذج الناجحة وعلى النقاط الإيجابية فى تلك الدولة التى تحيّر العالم. بقالة مصرية ظللت عدة أيام أخاف أن أخرج بمفردى من البيت حتى لا أتوه أو أضل طريقى أثناء العودة.. رُغم أن أحد معارفى هناك جاءنى فى اليوم التالى واصطحبنى للشارع ليُعَرّفنى كيف أتحرك وكيف أركب الأوتوبيس حتى إنه ركب معى الأوتوبيس ولا حظت أن المسافة بين بيتى فى شارع(لينكن) وموقف الأوتوبيس فى شارع(كيندى بوليفارد) دقيقتان سيرًا على الأقدام. كنت حريصة أن أعرف أجرة الأوتوبيس فأخبرنى أنها ثلاثة دولارات إلى نيويورك ودولار ونصف داخل شوارع جيرسى سيتى؛ حيث إن المسافة بين جيرسى سيتى ونيويورك نحو نصف ساعة.. وأصَرّ على أن يدفع هو الأجرة حتى ميدان «جورنال سكوير»، وكانت دولارًا ونصف للفرد.. وفى هذا الميدان فوجئت بعدد كبير من البقالات العربية والمصرية وعيادات الأطباء ومكاتب المحامين والمحاسبين العرب.. حتى إنه أشار لى على عمارة قديمة تضم عددًا من المكاتب وأخبرنى أنها ملك رشاد عثمان رجل الأعمال الذى أدين فى قضايا فساد فى عهد الرئيس السادات.. وكنت قد اشتريت خط تليفون اشتراكه الشهرى 40 دولارًا، وأعجبت كثيرًا بنظام الاتصالات؛ حيث تطرح عدة شركات خطوطا فى منافسة لصالح المستهلك تبدأ من 20 دولارًا فى الشهر إلى 60 دولارًا للخط شامل المكالمات غير المحدودة لأى ولاية فى أمريكا وكندا.. كما أن المكالمات مفتوحة وغير محدودة طوال الشهر.. كما يشمل الخط خدمة الإنترنت طوال 24 ساعة مجانًا.. كما كنت أشترى رصيدًا دوليّا بعشرة دولارات شهريّا يشمل مكالمات لمصر لمدة ساعتين. (يتبع)..