فنان الشعب سيد درويش - (17 مارس 1892 - 15 سبتمبر 1923) - الأب الشرعى للموسيقى والغناء المصرى الحديث والمعاصر، واحد من رموز الحداثة المصرية وأبرز رموزها فى مجال الفن، يعود ليحضر حضورا متجددا فى واحدة من حلقات علو الأثر وخلود الذكر وفى إشارة مهمة إلى حيوية الثقافة المصرية التى تستعيد بهجة رموزها وإبداعهم وعبقريتهم واختياراتهم ومواقفهم. فى رهان شديد الذكاء اختار المخرج أشرف عزب ود.عادل عبده رئيس البيت الفنى للفنون الشعبية أن يكون نجم الموسم الصيفى على مسرح البالون بالقاهرة فنان الشعب سيد درويش، وهو رهان على الوعى العام للجمهور المصرى، فمنذ فترة طويلة لم يشهد مسرح البالون هذا الاهتمام بالحضور من الجمهور العام، الذى جاء رغم كورونا والإجراءات الاحترازية لمشاهدة مسرحية غنائية استعراضية من ألحان خالد الذكر سيد درويش وعن قصة حياته، إنه درويش النجم المعاصر القادر على استدعاء الجمهور. ولذلك ذهبت لمشاهدة مسرحية سيد درويش التى كتبها السيد إبراهيم لأسعد بالحيوية المصرية لجمهور من الطبقة المتوسطة المصرية يدعم بالحضور هذا الاختيار الفنى. المسرحية تقدم بتركيز واضح السنوات الأخيرة من حياة خالد الذكر سيد درويش وتتعرض لسفره للشام مع أمين عطا الله وتعرض بداياته فى الغناء فى أسواق العمل وليالى الفرح المصرية، ثم الانتقال للقاهرة وفترة تأليف الموسيقى للمسرح الغنائى، والتفاعل مع القضية الوطنية وثورة الشعب المصرى فى 1919 . والمسرحية تنقسم من حيث التركيب الخارجى إلى فصلين، وتستخدم صيغة واقعية فى صياغة سيرة سيد درويش الحافلة بالأحداث والإبداع والتفاصيل الكثيرة، وهى حياة قصيرة من حيث الزمن عميقة من حيث الأثر، فهندسة الزمن المختزل دقيقة فى حياة العبقرى إبداع بلا حدود نذكر منه مائة وثلاثين طقطوقة وأربعين موشحا وثلاثين أوبريتًا، غير العديد من الأدوار والمواويل (والديالوج) وهو الحوار الغنائى بين شخصين، والمونولوج وهو فن طريف مستمر للآن به الكثير من الظرف والنقد الاجتماعى والأناشيد الوطنية، وأبرزها النشيد القومى المصرى بلادى بلادى لك حبى وفؤادى. وحياة حافلة بالسفر والسهر والنهار الحافل بالكدح والعمل وليل السمر واحتفاء رجولى بالمرأة، قصص حب وزيجات أربع، وأبناء ثم أحفاد، وأثر بارك الله فيه لحنان فى سيرته، ولعطف على الضعفاء والفقراء، ولاختيار وجودى فى البقاء المنتمى للطبقة الشعبية المصرية البسيطة سر وجوده واستمراره. سيد درويش يحمل ملاحظة خاصة لم يلحظها الكثيرون فى المزاوجة بين صفتين: الشيخ والموسيقار، وهى مزاوجة دالة على مصالحة وجدانية ومجتمعية مصرية خاصة آنذاك بين الأمرين، حيث يتفق الهدف النهائى بين الدين والفن فى الارتقاء بالإنسان والانحياز للأخلاق والقيم الجمالية وصفاء النفس والدفاع عن الكرامة الإنسانية والانحياز للفقراء والضعفاء والمهمشين، والذوبان عشقا فى الوطن. ثم المزاوجة بين الشارع المصرى العفوى العميق، وعبقرية المصريين البسطاء، وبين العلم. فالموسيقار الكبير كان قد تعلم - وهى مسألة من ثوابت سيرته الذاتية - أصول الموسيقى، فهو الذى علم نفسه العزف على آلة العود، وتعلم كتابة وقراءة النوتة الموسيقية فى أحد المعاهد العلمية الأهلية التى كان يديرها الأجانب فى الإسكندرية التى كانت آنذاك ذات طابع عالمى يجمع جاليات من كل أنحاء العالم المتحضر. فالمعرفة الحقيقية بالبلاغة والاختزال القادمة من الدراسة الأزهرية الأولية، والاقتراب من دولة التلاوة القرآنية والابتهالات الدينية، والانغماس فى جوهر فلسفة المصريين فى العيش والبهجة والاستمرار والانتصار على اليأس، هى مصادر شديدة الإلهام ومنابع للفهم والتعلم والإدراك. وبعيدا عن الإنجاز التاريخى للتعددية اللحنية فى الغناء الشرقى والصياغة اللحنية التعبيرية فى إبداعه الموسيقى التى أنقذت الموسيقى والغناء فى مصر والوطن العربى من التطريب والتكرار وأبواب الغناء التقليدية المعبرة عن الروح الفردية. تظهر عنده عبقرية مصدرها غناء المصريين، غناء العمال، الفلاحين أهل البحر.. غناء أهل الحرف والطوائف، وهذه العبقرية صهرها سيد درويش فى روحه الصافية وإدراكه العميق لموسيقاه الداخلية، التى تعود للتكوين الاجتماعى وللموهبة التى أودعها الله عز وجل فى شخصه المتوهج عشقا للحياة. إن سيد درويش هو الخروج من الصوت الغنائى الفردى إلى غناء الجماعة المصرية، ولذلك تبقى مسرحياته الغنائية لتنوعها الدرامى ولتعدد التعبير، صالحة للعرض للجمهور العام المعاصر، بل وستبقى للمستقبل، لكونها التعبير الحى عن روح الجماعة المصرية. وهو الأمر الذى يظهر أيضا فى ألحانه الغنائية الملحنة لمطرب أو لمغنية، فحتى ألحانه المكتوبة للصوت المفرد، هى تعبير الفرد عن صوت الجماعة المصرية. ولذلك رغم سلاسة المعالجة الدرامية؛ فإن المبالغة فى التركيز على علاقة سيد درويش فى المسرحية التى تحمل اسمه وتعرض الآن على مسرح البالون بزوجته جليلة والتى كانت تعمل مطربة وراقصة يأتى أمرًا على سبيل المبالغة ويحتاج للنظر، خصوصًا أن رؤية المصريين لذلك النوع من أهل السمر والسهر والليالى الملاح آنذاك، كان يحمل فى سياقه التاريخى، وفى رؤية الإسكندرية عالمية الطابع نظرة تفهم وإدراك وقبول اجتماعى. لا شك أن معالجة السير الذاتية فى مصر والوطن العربى تحتاج لمساحة من الفهم والقبول، لأن العباقرة والرموز بشر يخطئ ويصيب، وثبوت وجود متلازمة الإبداع وعشق المرأة لدى سيد درويش مسألة ممكنة فى إطار موضوعية السيرة الذاتية، إلا أنها أخذت مساحة درامية كبيرة، خصوصًا مع أداء نجمة المسرح العائدة له لقاء سويدان لهذه الشخصية. أما محمد عادل الممثل الموهوب صاحب الصوت العذب فهو مفاجأة فى نطاق المسرح الاستعراضى المصرى. استعراضات وفيق كمال الجمالية الطابع، والإخلاص المهنى لمصمم المناظر محمد عبدالرازق، والحضور الرائع للفنان سيد جبر صاحب الخبرة المسرحية فى دور عامل المقهى صديق البطل، وخبرة الفنان محمد عنتر فى دور أمين عطاالله، ومجموعة العمل المتناغمة، قدموا لنا عملاً مسرحيًا يستحق المشاهدة والمناقشة وإن كنت أنتظر تنفيذًا موسيقيًا أكثر ثراءً لألحان العبقرى المصرى سيد درويش.