اختتمت أمس فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الخامسة، هذا المهرجان الذي كان حلمًا لكل المسرحيين الذين تطلعوا منذ سنوات بعيدة إلي هذا الحدث الهام أسوة بالسينمائيين الذين أقاموا مهرجانهم القومي من فترة بعيدة، ويعتبر المهرجان فرصة لكل روافد المسرح المصري لتقديم أعمالها من مسرح الدولة إلي القطاع الخاص إلي تيار المسرح المستقل والهناجر وفرق الجامعات والشركات وفرق الأقاليم التي تعمل من خلال الهيئة العامة لقصور الثقافة. ويستطيع المتابع لعروض المسرح المصري المختلفة أن يلمس تعبيرًا عن اتجاهات وتيارات مسرحية مختلفة ومتباينة من عروض كلاسيكية إلي عروض تجريبية إلي عروض تعتمد الرقص الحديث وأخري موسيقية أي أننا نستطيع أن نجد في بانوراما المسرح المصري عروضًا تغطي كل أشكال الإبداع المسرحية باستثناء المسرح الغنائي الذي يندر أن تجد عرضا ينتمي إلي هذا النوع علي مدار دورات المهرجان الخمس ولو كانت هناك محاولات فهي لا تزيد علي عدد أصابع اليد الواحدة، المفارقة المحزنة في هذا الأمر هي الحقيقة التاريخية التي تؤكد ريادتنا كمصريين وكعرب في هذا المجال.. فمنذ قدم مارون النقاش عام 1848 مسرحية «البخيل» المأخوذة عن نص الكاتب الفرنسي الشهير «موليير» والتي قام النقاش بتعريبها حتي يضمن تقديمها في أجواء عربية من حيث الشخصيات والأجواء والأزياء ولغة الحوار في هذا العمل الرائد عمد صانعه إلي تطعيم المسرحية بالموسيقي والغناء حتي يقرب هذا اللون الجديد من الفنون إلي أذواق الجمهور الذي عرف واستجاب لسهرات قوامها الغناء والطرب، وما يمكن قوله عن الفنان اللبناني الرائد يمكن أيضا قوله عن نظيره السوري «أبو خليل القباني» الذي شحن أعماله التي قدمها في مسرحه بدمشق، بألوان من الغناء الفردي والجماعي، ولما انتقل بمسرحه من دمشق إلي الإسكندرية ثم القاهرة انضم إليه علمان من أعلام الغناء العربي في مصر - آنذاك - وهما المطرب الكبير «عبده الحامولي» والمطربة الشهيرة «المظ» واستمرت تجربته في مصر قرابة السبعة عشر عاما كان خلالها رائد المسرحية الغنائية القصيرة وهكذا شهدت بدايات المسرح في الشام وفي مصر الطابع الغناء الموسيقي حتي أصبح من الراسخ أن يقوم كل من يؤلف أو يقتبس أو يعرب عملاً دراميا أن يضمن المسرحية قصائد غنائية وعلي صاحب الفرقة تأمين من لديهم القدرة علي التلحين والغناء والرقص أحيانًا. ومضي المسرح الغنائي خطوات أوسع حيث كون اسكندر فرح فرقة اتجهت بالمسرح اتجاها غنائيا خالصًا، وأنشأ الشيخ سلامة حجازي مسرحه الشهير «دار التمثيل العربي» وكانت هذه هي البداية الحقيقية للمسرح الغنائي في مصر وهو المسرح الذي شهد روائع سلامة حجازي «هاملت» و«شهداء الغرام» و«صلاح الدين الأيوبي» و«غرام وانتقام» وغيرها من المسرحيات التي حققت نجاحًا فريداً.. هكذا كانت البداية التي تلتها مراحل مشرقة تألقت فيها ابداعات منيرة المهدية وسيدة درويش وكامل الخلعي وزكريا أحمد من خلال أوبريتات مصرية عظيمة. البدايات - إذن - كانت باهرة ومبهرة، صحيح أن مسيرة المسرح الغنائي شهدت مسارات متعرجة بين فترات صعود وفترات هبوط لكنها استمرت حتي بعد الثورة حين احتضنت وزارة الثقافة المسرح الغنائي من خلال روائع من نوعية أوبريت «يا ليل يا عين» الذي كان نواة لظهور فرقة رضا وأنشأت الوزارة المسرح الغنائي عام 1961 فأعاد تقديم «يوم القيامة» لزكريا أحمد وأوبريت «البروكة» لسيد درويش ثم اتجه إلي الأوبريتات العصرية فقدم «مهر العروسة» لعبدالرحمن الخميسي وبليغ حمدي و«هدية العمر» ليوسف السباعي ومحمد الموجي. وتألق مسرح البالون بأعمال من نوعية «حمدان وبهانة» و«الليلة العظيمة» و«وداد الغازية» و«الحرافيش» و«القاهرة في ألف عام» وهكذا تناوبت أجيال مختلفة رفع راية المسرح الغنائي المصري فلماذا عجزنا نحن عن مواصلة ما بدأه العمالقة الذين سبقونا؟ أعتقد أننا نملك أعداداً كبيرة من المبدعين في مختلف عناصر المسرح الغنائي في التأليف الدرامي والموسيقي والعزف والغناء والاستعراض أتصور أن علينا بدلاً من البكاء علي اللبن المسكوب أن نشرع في إحياء فرقة المسرح الغنائي التي تعمل في خطين متوازيين. الأول: إعادة تقديم روائع الأوبريتات المسرحية القديمة والثاني: تقديم أعمال جديدة ومعاصرة تنبع من تراثنا ومن واقعنا المعيش بكل تحدياته علي حد سواء ومقومات نجاح هذا المسرح مضمونه لأنه يأتي استجابة لمزاج المصريين الذي يعشقون الطرب ويطرب وجدانهم للغناء الجميل فالشعر والغناء أصيلان عند المصريين وقد كتب «عباس محمود العقاد» في هذا الأمر «حلقات الانشاد في الليالي القمراء بين ظلام النخيل. من شهد تلك الحلقات ومن سمع ذلك الغناء ومن لمس ذلك الجدل المخزون في قلوب أبناء مصر ومن سمع الأرغول يحن حنينه ويعول أعواله ويستخف في رزانة ويرزن في خفة ومن أحيا ليلة من ليالي الصيف القمراء.. بل من رأي فلاح الصعيد يسرع إلي تسجيل كل حادث في حياة القرية بالنظم والنشيد فإذا هو الشاعر وإذا هو الملحن وإذا هو المغني المنشد». فهل تشهد دورات المهرجان القومي للمسرح المقبلة الوجود المستحق للمسرح الغنائي.