خلية نحل لا تهدأ مملوءة بالأسرار والكفاح.. ورش لا تتعدى مساحتها 20 مترًا.. جدرانها سوداء، أرضها ما زالت مصنوعة من الحجارة الأسمنتية..تتناغم أصوات الماكينات والأفران مع أصوات إذاعة أغانى أصل الطرب.. لا يوجد مكان للراحة.. هنالك من يحمل قوالب أسمنتية والآخر مهمته الأساسية أمام الفرن وثالث مسئول عن تبريد ولحام المعادن، بمنطقة الدرب الأحمر.. هى ورش سباكة المعادن وأخرى للنحاس.. أغلب من يعملون بها تتراوح أعمارهم بين 40 إلى 60 عامًا، منهم من لا يزال محتفظًا بقوته الجسدية والعضلية، ومنهم من أُجهد من حرفته وأذابت حرارة الفرن قوته العضلية. على طاولة خشبية مليئة برمال سوداء وقف رجل شاب يفصل ألواحه المعدنية من قوالبها الأسمنتية، تحتل ابتسامته وجهه الذى جُعد من عمله الشاق، وتشققت يداه من آثار قوالبه، كانت ابتسامته كفيلة بجعل الجميع يرضى عن عمله معه، عم على صاحب ورشة لسباكة المعادن يبلغ عمره 59 عامًا.. بدأ العمل بهذه الورشة مع أبيه وجده منذ أن كان طفلًا صغيرًا يبلغ من العمر أحد عشر عامًا، استمر بالعمل فى نفس الورشة التى يمتلكها هو وإخوته ليكملوا درب أبيه وأجداده، إلا أنه أحس بأن هذه الصنعة بدأت تندثر عامًا وراء الآخر نظرًا لكثرة المشاكل التى تواجههم وكان أهمها ارتفاع سعر الألومنيوم، وأوضح بأن سعره قديمًا كان يتراوح بين 2 ل 3 جنيهات للكيلو أما الآن فسعره من 20 إلى 25 جنيهًا، وأضاف بأن استخدامهم الأساسى ليس على الألومنيوم كمادة خام، إنما على خردة الألومنيوم وإعادة استخدامها وتدويرها، وأضاف عم علي أنه يستطيع عمل أى منتج من خلال خردة الألومنيوم وأن المنتج يظهر على حسب الفورمة التى يوضع فيها. أما العمالة وقلة الصنايعية بالحرفة كان السبب الثانى الذى يواجه عم علي، وأضاف بأن أكثر من يعملون بهذه الحرفة هم كبار السن محافظين على صنعتهم وتراثهم ولكن الشباب دائمًا ما يبحثون عن ما يفيدهم مستقبلًا، وأضاف قائلًا: «الشغلانة دى بتهدنا وبتهد صحتنا احنا طول اليوم بنشيل وبنكسر وبنسيح في ألومنيا واحنا بنسيح معاها»، أيضًا عدم وجود زبون مستمر يعتبر إحدى المشكلات التى تضايقه. استطاعت ورشة عم على عمل عصارات وطاسات للسيارات وصوانى للشواء وأوانى معدنية والكثير من المنتجات المصنوعة من مجرد خردة لا تستخدم، وكانت إنتاجيته فى اليوم تتراوح بين40 إلى 50 قطعة. أما عن مراحل التصنيع، فيبدأ بتسييح الألومنيوم فى أفران مخصصة ثم يبدأ بوضع الألومنيوم المنصهر داخل قوالب أسمنتية تحتوى على «فورمة وشكل» الشكل المطلوب إنتاجه، لتبرد ثم يبدأ بفصل القوالب عن المنتج فى رمال سوداء ثم تنتقل إلى ماكينة حدادة لردها وتشكيلها مرة أخرى. «ربنا يعدينا منها على خير» الأمل والرجاء الذى طلبه عم محمد، الأخ الأصغر لعم علي، ذو ال 50 عامًا، بدأ العمل فى الورشة مع أبيه بعدما انتهى بدراسة الدبلوم، حيث إن أباه كان دائمًا ما يرى بأن هذه المهنة هى المستقبل، وأشار بأنه هو وجميع إخوته عملوا مع أبيهم قائلًا: «خلانا كلنا نشتغل معاه لحد ما بقينا كلنا فى الهم واحد مفيش حد يشيل التانى» معبرًا عن أن مشاكلهم تدور حول قلة العمل وقلة الزبائن، «السوق نايم» كما وصفه. أوضح عم محمد بأن عملهم أصبح متوقفًا وقال: «احنا بنشتغل يوم وعشرة لأ» وأصر على أن هذه المهنة قد تنقرض بسبب قلة العمل فيها والاتجاه للمنتجات الصينى التى نافستهم بقوة أيضًا، وأضاف بأن مهنة أبيه وأجداده ستستمر رغم قلة زبائنها. عمرو حسنى صاحب ورشة لسباكة النحاس، ورث المهنة عن أبيه الذى بدأ بالعمل معه بعدما انتهى من كلية الهندسة المعمارية، يبدأ بالعمل بالورشة الساعة السابعة صباحًا إلى 3 مساءً، كانت أصوات ألحان الطرب لوردة وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ هى ما يهون عليه إرهاق العمل وصعوبته، مشيرًا إلى أن الشغل اليدوى للمسابك النحاس أفضل من المنتجات المصنوعة بواسطة ماكينات قائلًا: «الفرق ياما.. الشغل اليدوى ده حرفة وصنعة وفيه روح أما شغل المكن خفيف وشكل واحد»، وأشار بأن منتجاته من النجف والأبليكات والكوالين والمقابض النحاسية وكل ما يتعلق بالأثاث يمكن أن يصنع بالنحاس. استطاع عمرو تجديد الكثير من الأشكال وعمل «اسطنبات جديدة» لتطوير منتجاته وأشكالها، بالإضافة إلى أنه استخدم الغاز بدلًا من المازيوت والجاز ليكون صديقًا للبيئة. نظرات الرضا والأمل كانت تملأ وجه عمرو حسنى مما دفعه لإكمال طريق والده ورؤيته بأن هذه المهنة ستنقرض من قلة صانعيها ليس إلا، وأشار بأن المشكلة فى قلة الصنايعية وهى أنهم دائمًا ما يلجأون إلى سواقة «التكاتك» بدلًا من العمل بحرفة معينة، وأضاف بأن أجر اليومية يتراوح بين 80 إلى 120 جنيهًا إلا أن العمال يفضلون العمل على التوك توك. أشار عمرو إلى أن إنتاجيته فى اليوم فى حدود 50 كيلو، شارحًا بأن عملية التصنيع تبدأ بتسييح النحاس الذى يستغرق حوالى ساعتين ثم تنقيته من الشوائب ثم يبدأ بصبه فى قوالب تحتوى على «الاسطمبة» ثم يبدأ بتلميعه وتحديده، وفى حالات معينة يذهب لورشة خراطة إلى أن يبدأ بتوزيع منتجاته فى الأسواق والمعارض، وأضاف بأنه يعمل هو وعامل آخر، وأهم ما يقابله من مشكلات كانت مشكلة الحروق، بسبب انصهار النحاس، وهم بجوار الأفران. أما عن أسعار الكيلو فقد أوضح بأن سعر النحاس الخردة ب70 جنيهًا ويبدأ ببيعه ب85 جنيهًا بعد التصنيع والتشكيل، وأشار عمرو حسنى بأن هذه الورشة لن تغلق ولن يتركها بالرغم من كافة المشاكل اللتى تواجهه قائلًا: «أنا مش هسيب الورشة أنا بحب الشغلانة دى ومتعلمتش غيرها».