نجحت ثورة الشباب 25 يناير في إزاحة نظام حكم استمر زهاء ثلاثين عاما ببساطة شديدة رغم الثمن الفادح الذي دفعه من حياتهم شهداء المظاهرات، لم يكن أكثر الناس اعتقاداً بأن النظام غير ثابت الدعائم يتصور أو يتخيل أن تكون النهاية هكذا فيتخلي رئيس الدولة عن سلطته بأوامر مباشرة من الشارع الغاضب عليه وعلي السياسات التي أدت إلي تلك النتيجة المذهلة. المشهد الآن يتغير، فمنذ انتقال السلطة في البلاد إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة تفرعت ثورة الشباب للإطاحة بالنظام إلي تيار رئيسي وتيارات أخري فرعية، فأما التيار الرئيسي فهو مستمر في متابعة تعهدات القوات المسلحة التي قطعها علي نفسه المجلس الأعلي، وعلي تعهدات السياسية بمتابعة الإصلاح الدستوري والتشريعي الذي يضمن عدم الارتداد إلي النظام السابق، هذا الارتداد الذي أصاب البعض بالقلق بعض الوقت، ولكن الشواهد حتي الآن تسير في طريق التزام القادة الجدد بالتخلي عن الأفكار الشمولية التي تؤدي إلي تركيز السلطة في يد الرئيس أو المجموعة الحاكمة أيا كانت تلك المجموعة. -- البيانات المتتالية للقادة الجدد فهمنا منها أن ثورة الشعب دفعت الفكر السياسي إلي مسار الديمقراطية وتداول السلطة مما يعني النهاية الفعلية والحقيقية للنظام الشمولي المباشر الذي ساد في عهد الرئيس عبدالناصر، ثم الشمولية المستترة في عهد الرئيس السادات ثم الانتكاسة التي حدثت لمسار الإصلاح السياسي في عهد الرئيس مبارك وأدت إلي سيطرة الانتهازية السياسية بشكل غير مسبوق خلال العقد الأخير من تلك الحقبة. يبدو من الملامح التي تظهر وإن كانت مبكرة للغاية أن الاتجاه يسير إلي الدولة البرلمانية الديمقراطية التي يتقاسم السلطة فيها الرئيس ورئيس الوزراء، والأهم من ذلك ضمان نزاهة الانتخابات وهي الطريق الطبيعي لوصول سلطة مدنية إلي الحكم. مما يبشر بذلك تشكيل اللجنة التي أعلن عنها المجلس الأعلي للقوات المسلحة لتعديل الدستور برئاسة المستشار طارق البشري نائب رئيس مجلس الدولة السابق، ويحظي البشري القاضي المتقاعد، باحترام في الأوساط القانونية لآرائه المستقلة، وهو مؤيد قوي لاستقلال الهيئة القضائية. وتضم اللجنة أعضاء مرموقين من بين سلة اختيارات كانت مهملة تماما في العهد السابق مما يعطي انطباعا بأن المجلس الحاكم يتجه إلي اقتراح دستور ديمقراطي حقيقي يسد الثغرات التي نفذت منها الشمولية إلي نظام الحكم الذي سقط بفعل الثورة. -- أما التيار الفرعي لثورة الشباب فقد تبلور في حركة مطلبية واسعة النطاق متعددة الجوانب، منها مطالب فئوية كزيادة الأجور والحوافز وغيرها لتحسين ظروف العمل، وهي تحركات كانت قد بدأت قبل ثورة الشباب ولكن انفلات القبضة الأمنية فتح الباب واسعا لكي يخرج الجميع تقريبا يطالبون بتحسين الأوضاع المعيشة وإيجاد حل لمعضلة الأجور والأسعار بما في ذلك أعضاء من هيئة الشرطة ذاتها من أمناء الشرطة والضباط وهو احتجاج غير مسبوق في مصر باستثناء التمرد الشهير في معسكرات الأمن المركزي منذ سنوات. الحركة المطلبية الجماهرية تضمنت أيضا، كشف الفساد وتعرية الفاسدين وسرعان ما امتلأت وسائل الإعلام بقصص تبعث علي الذهول حول سادة الأمس الذين تحولوا إلي أعداء للشعب أمام ثورة الشباب، قصص خيالية حول وقائع نهب خيالية كانت حبيسة الألسنة والصدور والمكاتب انطلقت من عقالها لتؤدي إلي حالة من الهستيريا لدي بسطاء الناس الذين طلبوا القليل من قبل فقيل لهم «نجيب لكم منين» وتلك قضية مهمة وخطيرة للغاية حيث انهالت البلاغات التي تتهم بالفساد كل من شغل وظيفة عالية أو تولي مسئولية في إدارة شئون الدولة، وهذا الوضع ينقلنا مباشرة إلي العنصر الثالث من الحركة المطلبية وهو مطلب الانتقام والتنكيل. -- أخطر ما يواجه المجتمع هو مطلب الانتقام والانخراط في محاسبة النوايا والتفتيش في الضمائر عن من أيد ومن عارض، ويعني ذلك سقوط في حفرة عميقة القرار لا يري فيها المجتمع النور الذي أضاءته الثورة علي الظلم، فلم يزيل الظلم الذي كان ظلماً جديداً باسم المحاسبة والانتقام، وإن ما يزيل الظلم هو إقامة العدل ووضع أسس وآليات لمحاسبة المفسدين لتجنب تشويه الثورة بلطخات من الانتقام والتشفي.