حين عرف المسلمون فى مصر «الصنبور» لأول مرة فى تاريخهم ثار جدل فقهى كبير حول شرعية استخدامه فى الوضوء، حينها اعتبره أغلب علماء الدين «بدعة» وتعللوا فى رفضه بأنه يتسبب فى وجود برك فى الشوارع، فيما أجاز أصحاب المذهب الحنفى (نسبة إلى أبى حنيفة النعمان) دون غيرهم استخدام «الاكتشاف الجديد» فى الوضوء، ومن هنا شاعت تسمية الصنبور ب «الحنفية» نسبة لأصحاب المذهب، مرت السنوات حتى وصلنا إلى عصر لم يعد مقبولًا وجود مسجد أو منزل من دون «حنفيات». هكذا كان حال المسلمين مع كل أمر يستجدّ على حياتهم، يتوقف رجال الدين ليحددوا موقف الشرع من الأمر المُحدَث، وبطبيعة الحال ينقسم هؤلاء إلى مؤيد ومعارض، وتمضى الأيام ولا يبقى إلا ما ينفع الناس ويجعل حياتهم أسهل، وينحصر دور المعارضين بدعوى الدفاع عن صحيح الدين فى سطور تحكى قصتهم تبقى فى بطون الكتب ربما لا يلقى أحد لها بالًا إلا نابشو جحور التراث بحثًا عن تقليد مهجور يسعون لتطبيقه فى غير أوانه فينغصون به على الناس حياتهم. ما إن طالب الرئيس عبدالفتاح السيسى ببحث قضية «الطلاق الشفوى» لإيجاد آلية تحد من تزايد معدلات الطلاق فى المجتمع خلال السنوات الأخيرة وتحفظ حقوق الزوجة والأطفال حتى انتفضت رموز المؤسسة الدينية وكأن حربًا أريدت بالإسلام، فخرجت فى اليوم التالى هيئة كبار العلماء ببيان كأنه مكتوب فى العصور الوسطى تدافع عن صحة الطلاق الشفوى وتقول إن التوثيق لن يقلل من حالات الطلاق. لم تكتف الهيئة بذلك، بل ناشدت فى بيانها «جميع المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها» الحذر من الفتاوى «الشاذة» التى ينادى بها البعض، حتى لو كان بعضهم من المنتسبين للأزهر؛ لأن الأخذ بها يوقِع المسلمين فى الحُرمة وأهابت بكل مسلم ومسلمة التزام الفتاوى الصادرة عن الهيئة، والاستمساك بما استقرت عليه الأمة؛ صونًا للأسرة من الانزلاق إلى العيش الحرام! «سعودية - تونسية» على التجديد منذ يومين قررت السلطات فى المملكة العربية السعودية منع الرجل من تطليق زوجته إلا فى حضورها أمام القاضى للحصول على صك الطلاق، وقال وليد الصمعانى وزير العدل السعودى: إن قضايا الأحوال الشخصية لها اعتبارات اجتماعية، ولذلك فإن المسائل المتعلقة بالانفصال بين الزوجين وما يتعلق بها من حضانة ونفقة والزيارة يمكن أن تتم من خلال تطليق الرجل لزوجته غيابيًا ودون علمها ودون أن يحفظ لها حقوقها من نفقة وحضانة. وأضاف وزير العدل أنه سيصدر تعديلاً للوائح المرافعات الشرعية، الذى يشتمل على عدم إمكانية إثبات أو توثيق الطلاق، أو دعاوى الطلاق التى ترفعها المرأة إلا بحضور الطرفين معًا، على أن يُصدر التعديل خلال أقل من شهر. وإذا كان هذا هو حال المملكة التى ظل الجميع ينظرون إليها حتى سنوات قليلة مضت على أنها مركز الأفكار المحافظة، فإن الحال فى دولة مثل تونس لا يختلف كثيرًا، فقبل نهاية العام 2018 صادق مجلس الوزراء بإشراف رئيس الجمهورية السابق الباجى قايد السبسى، على مشروع قانون الأحوال الشخصية يتضمن أحكامًا بالمساواة فى الإرث بين الرجل والمرأة، مع ترك حرية الاختيار للمورث إن أراد قبل مماته قسمة التركة وفق المنظومة الحالية أو وفق أى تصور آخر. بالنظر إلى الخريطة شرقًا وغربًا يبدو الأمر محيرًا: هل يملك رجال الدين فى هذين البلدين نصوصًا دينية غير التى لدينا، أم أن لديهم عقولاً مختلفة فى التعامل مع هذه النصوص؟.. الإجابة واضحة. نحن هنا أمام عقول تمتلك الجرأة على إعادة قراءة النصوص الدينية فى ضوء واقع متغير واستنتاج أحكام تحقق مصالح المجتمع، وتجعل من الدين أداة لتيسير أمور الناس لا عرقلة حياتهم، استنادًا لمقولة الإمام ابن القيم: «حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله». التجديد بات غامضًا وملتبسًا»
قبل أيام من القرار السعودى كان الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر يعتلى منصة مؤتمر «تجديد الفكر الإسلامي» مؤكدًا فى كلمته أن «موضوع تجديد الفكر أو الخطاب الدينى واسع الأرجاء ومترامى الأطراف، وأصبح مفهومًا غامضًا وملتبسًا؛ نظرًا لكثرة تناوله دون دراسة»، وحتى لا يكون الأمر ملتبسًا، فإن علينا أن نسجل بوضوح وبساطة المقصود على وجه التحديد من مطالب التجديد التى على المؤسسة الدينية المصرية الأخذ بها. الحقيقة أن المؤسسة يتعين عليها بموجب مسئولياتها الدينية والاجتماعية والوطنية أن تحدد بوضوح موقفها من أمرين: الأول هو قضايا الواقع التى تمثل الفتاوى الفقهية طرفًا فيها وتؤدى دورًا معطلًا للمجتمع، أما الثانى فهو قضايا الماضى التى تمثل جزءًا من التراث وتتخذها بعض التيارات ذريعة لممارسة جميع أشكال الشذوذ الفكرى والسلوكى، بحيث ترفع المؤسسة غطاء الشرعية الدينية عن كل ممارسة يتخذ أصحابها الدين مطيّة لتحقيق أهدافهم على حساب المصلحة العامة. وإذا كانت دار الإفتاء أعادت نشر رأى فضيلة الإمام الطيب، عندما كان مفتيًا للديار المصرية فى عام 2002 الذى يقول فيه إن التجديد فرض على العلماء؛ لأن المفاهيم تتغير من عصر لآخر وفقًا لطبيعة التعايش فى المجتمع بين المسلمين وغير المسلمين ووفقًا لما يستجد من أحداث فى الحياة على مر العصور، فإن عليه مثلاً أن يتصدى لقضية تحريم البعض لتطعيمات الأطفال فى دولة مثل إنجلترا بدعوى أن تركيبتها يدخل فيها جيلاتين حيوانى يؤخذ من دهن الخنزير؛ لأن قضية كهذه تمثل ضررًا بالغًا لملايين البشر ليس فى المملكة المتحدة وحدها وإنما حول العالم. موقف حاسم من قضايا الماضى على مدار عدة سنوات ظل قانون نقل وزراعة الأعضاء البشرية حبيس الأدراج فى مجلس النواب المصرى بسبب وجود بعض الآراء الفقهية التى تحرم نقل عضو من جسد إنسان لآخر سواء فى حياته أو على سبيل التبرع بعد وفاته، وكلما حاول بعض النواب إخراجه سرعان ما شق طريقه للأدراج مرة أخرى، وإلى يومنا هذا لم تزل جهود الدولة للحد من الزيادة المضطردة فى الكثافة السكانية معطلة بسبب فتاوى ترى فى تنظيم النسل أمرًا غير جائز شرعًا، وكذلك الحال بالنسبة لفوائد البنوك وغيرها من عشرات القضايا. حسنًا فعل الإمام فى ختام المؤتمر الأخير حين أصدر البيان الختامى متضمنًا موقف الأزهر من مجموعة كبيرة من القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية، وإن كان الأمر يستحق ما هو أكثر من مجرد بيان ختامى ولتكن وثيقة عامة تمثل رؤية شاملة لجميع القضايا التى يمثل الجانب الفقهى ركنًا أصيلًا فيها لقطع الطريق على كيانات وجماعات وأفراد يروجون أحكامًا فقهية رديئة الاستنتاج بين الناس. تزخر كتب التراث بالعديد من القضايا الشائكة والنصوص التى تخالف أبسط ثوابت العقل والمنطق وتصطدم بالقواعد العلمية الأساسية ولا يتطلب التعامل معها وتنقيحها جهدًا كبيرًا فى ظل ما أتاحته وسائل التكنولوجيا الحديثة، فبضغطة زر واحدة يمكن لأى كمبيوتر تحديد وتصنيف وفهرسة عشرات الآلاف من النصوص والملفات ولا يتطلب الأمر سوى إرادة حقيقية فى اتخاذ موقف حاسم والتصدى له بكل حزم. إن شيخ الأزهر حين يتصدى لهذه المهمة الملحّة بشكل حقيقى يكون بذلك قد أدى الأمانة التاريخية والدينة التى أوكلت إليه، وسبقه إلى حسن التعامل معها عدد من مشايخ المؤسسة كالإمام محمد عبده والشيخ محمود شلتوت وغيرهما، كما أنه سيقطع الطريق على المتربصين والمزايدين من جميع التيارات ويكون بذلك قد حمى الدين حين يضعه فى خدمة الناس لا فى مواجهة - محسومة مسبقًا - مع تطور المجتمعات. وختامًا فإننا إذا تصورنا أن فضيلة الإمام الأكبر كان طرفًا فى الجدل الفقهى الذى ثار حول شرعية استخدام ماء الصنبور فى الوضوء، فإننا لا يمكننا بحال من الأحوال أن نتصوره منحازًا للرأى القائل بعدم شرعية استخدامه.