أرقام مهمة جدًا كشف عنها طارق عامر محافظ البنك المركزى خلال المؤتمر الصحفى الذى عقده نهاية الأسبوع الماضى، منها أن 80 % من مدخرات المصريين فى البنوك بأكثر من 4 تريليون جنيه ودائع ويجب أن تستثمر فى الاقتصاد وهو ما سيحدث طفرة كبيرة فى الأداء الاقتصادى للدولة، ومنها أن الديون المتعثرة كانت فى 2004 تصل إلى 45 % لكنها وصلت الآن إلى 5 % فقط، وأن عدد أصحاب الشهادات الادخارية من الأفراد وصل إلى 28 مليون حامل شهادة. تعكس هذه الأرقام بوضوح وجود أزمة مزمنة يعانى منها المجتمع المصرى وهى أن 80 % من قدرته معطلة سواء بقرار من الأفراد الذين لجأوا إلى البنوك كمنفذ آمن للاستثمار أو من جانب البنوك التى تقاعست عن القيام بدورها فى تحريك عجلة الاقتصاد بضخ هذه المدخرات فى عروق الاقتصاد. من المفترض أن تنعكس سياسة خفض الفائدة التى اتبعها البنك المركزى المصرى خلال الفترة الأخيرة، على مجالات الاستثمار فى القطاعات المختلفة، بعد أن كان الناس فى مصر يتجهون بمعظم استثماراتهم ومدخراتهم للبنوك فى ظل سوق تمر بأوضاع تدعو للريبة والترقب وعدم اليقين. وفى هذا التقرير نسلط الضوء، على أهمية قرار خفض سعر الفائدة وآثاره على الاقتصاد بشكل عام، إضافة إلى إمكانية توجه المدخرات والاستثمارات إلى قطاعات أخرى غير البنوك. سعر الفائدة قررت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزى قبل أسبوع، خفض أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض للمرة الثانية على التوالى، وللمرة الثالثة خلال العام الجارى، وذلك بنسبة 1 %، لتسجل 13.25 % على الإيداع، و14.25 % على الإقراض، وقبل شهر كان البنك المركزى خفض أسعار الفائدة بنسبة 1.5 % فى اجتماع لجنة السياسة النقدية فى 22 أغسطس الماضى، ليصل مجموع ما خفضه البنك فى أسعار الفائدة خلال العام الحالى إلى 3.5 %، وإلى 5.5 % منذ بداية عام 2018 وحتى اليوم. وكان البنك المركزى رفع الفائدة 7 % بعد تعويم الجنيه فى نوفمبر 2016، من أجل دعم الجنيه والحد من الدولرة ومواجهة التضخم المتوقع بعد خسارة الجنيه لنحو نصف قيمته، ومن المنتظر أن يسير البنك المركزى على هذا النهج خلال الفترة القادمة، ليصل للمستويات التى كانت من قبل تتراوح ما بين 9 و10 %، وذلك لتحقيق العديد من الأهداف الاقتصادية، أهمها تحفيز الاقتصاد، والحد من عجز الموازنة. شهادات استثمار البنوك تعد البنوك أهم وجهات الاستثمار بالنسبة للمواطن المصرى بكافة مستوياته الاجتماعية، لذلك اتخذت البنوك عدة إجراءات لمنع تسرب المدخرات التى لديها من قبل قرار خفض معدل الفائدة الأخير، وسعت البنوك العامة الأربعة، الأهلى ومصر والقاهرة وقناة السويس، لاستحداث أوعية ادخارية جديدة لجذب أموال حصيلة شهادات قناة السويبس الذى تحدد موعد استحقاقها فى الخامس من الشهر الماضى، وهى الشهادات التى كانت تصل حصيلتها 64 مليار جنيه. وطرحت البنوك الأربعة الأكبر شهادات ادخارية مختلفة سواء بعائد ثابت أو متغير بأسعار تنافسية على مستوى الجهاز المصرفى أمام جميع عملاء شهادات قناة السويس، فى حال رغبتهم فى إعادة استثمار أموال هذه الشهادات مرة أخرى، ونظرًا لارتفاع معدل فائدة هذه الشهادات فمن المتوقع أن تحافظ البنوك بهذه الأوعية على مركزها، كأهم الوجهات بالنسبة للمدخرين خلال الفترة المقبلة، بالرغم من انخفاض سعر الفائدة. تعد شهادات الاستثمار والادخار من أهم الأدوات المالية التى تجذب بها البنوك مئات المليارات من أموال المودعين وقد أصدرت البنوك الأربعة مؤخرًا أنواعًا مختلفة من الشهادات الادخارية بآجال سنة وثلاث وخمس سنوات بقيم فائدة تتراوح بين 14 % و14.75 % وتختلف كل منها بحسب المدة ودورية صرف العائد عليها (شهريًا أو كل 3 أشهر). الهروب من جنة الدولار فى ظل انخفاض سعر الدولار منذ فترة أمام الجنيه المصرى، ووسط سياسات الرئيس الأمريكى الذى يسعى لإضعاف العملة الأمريكية لخفض العجز التجارى، يبقى قرار الاستثمار فى العملة الخضراء بعيدًا شيئًا ما، وبعد الإجراءات التى اتخذها البنك المركزى خلال السنوات الخمس الماضية، والتى أدت إلى القضاء على السوق السوداء للدولار، انخفضت التجارة فيه، إذ أصبحت تقتصر على العاملين فى الخارج، والذين غالبًا ما يحتفظون بجزء من مدخراتهم فى صورة دولارات، أملًا فى ارتفاع أسعاره مرة أخرى. لكن تبقى سعر الفائدة العالية نسبيًا محفزًا لحائزى الدولار على الاستثمار فى شهادات البنوك المصرية وأدوات الدين الحكومية، نظرًا لأنه رغم انخفاض سعر الفائدة، إلا أن مصر لا تزال ضمن أعلى الدول فى العالم فى معدل سعر الفائدة. ولهذا من المنتظر أن تبقى التدفقات النقدية الأجنبية المستثمرة فى مصر فى حالة ديمومة، إضافة لاستمرار ارتفاع تحويلات المصريين العاملين بالخارج المحولة للجنيه، للاستفادة من هذه الأسعار، خاصة أن معدلات الفائدة فى الدول التى يعملون بها لا تتعدى 3 %. البورصة لعبة الكبار مع الاضطرابات التى تضرب سوق المال المصرى خلال العام الجارى، ونتيجة الانخفاضات الكبيرة والارتدادات غير المنطقية، تبقى البورصة بعيدة تمامًا كهدف للاستثمار من قبل صغار المستثمرين من أبناء الشعب المصرى. فيما تبقى ملعبًا لكبار الكيانات من الشركات وصناديق الاستثمار المصرية والعربية والأجنبية، والتى لها خبرة طويلة فى السوق، تؤهلها من مراقبة الأسعار وفرص الاستثمار، لذلك فمن المتوقع أن ترتفع قيم استثمار الأجانب فى البورصة خلال الفترة المقبلة، خاصة الذين سيفضلونها كبديل لأذون وسندات الخزانة بعد خفض سعر الفائدة عليها. العقارات أكبر المستفيدين رغم الركود النسبى وحالة التشبع التى يبدو أنها ما زالت تسيطر على سوق العقارات فى مصر، غير أن سياسة خفض سعر الفائدة، تجعل هذا القطاع أكبر المستفيدين منه، فبعد أن كانت البنوك تتجه بمعظم استثماراتها فى أدوات الدين خلال السنوات الخمس الأخيرة، من المتوقع أن تغير البنوك هذا الاتجاه فى ظل انخفاض سعر الفائدة، لتبدء فى الاتجاه فى تمويل المشروعات والشركات الخاصة والعامة مرة أخرى، وهو ما سينعكس على قطاع العقارات. وبعيدًا عن تمويل البنوك، فلا يزال القطاع العقارى، أحد أهم القطاعات الجاذبة للاستثمار بالنسبة للمدخرين فى مصر، لكن الأمر سيحتاج إلى استفادة هذا القطاع من معدل التضخم الضئيل الذى وصل إلى 7 % الآن، خاصة انخفاض أسعار مواد البناء وأسعار الوحدات السكنية بشكل عام إذ إنها لا تتناسب تمامًا مع الدخول الصغيرة لمعظم فئات الشعب التى تبحث عن سكن ملائم. الذهب ملاذ آمن دائمًا يصنف الذهب على أنه أحد أهم الملاذات الاستثمارية الآمنة، غير أنه لا يتناسب فى الغالب إلا مع ذوى الدخول الكبيرة وأصحاب محافظ الاستثمار المتنوعة، والذين غالبًا ما يتوجهون إليه فى ظل الظروف السياسية والاقتصادية المضطربة. وفى ظل تزايد أسعار الذهب عالميًا ومحليًا، ومع ارتفاع تكاليف المعيشة، يظل قرار الاستثمار فى الذهب، مستبعدًا من قبل المدخرين، لاسيما المتعاملين مع البنوك حيث إن الذهب يبقى استثمارًا طويل الأجل، إذ لا يتميز بالسيولة العالية. وعلى المستوى الدولى، يشهد سعر الذهب انخفاضًا، نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، وتشير التوقعات إلى أن الفترة المقبلة سوف تشهد ارتفاعًا فى سعر الذهب فى ضوء الحرب التجارية الدائرة بين الصين وأمريكا. الصناعة والزراعة من المفترض أن يكون النشاط الصناعى والزراعى هما أكبر المستفيدين من سياسة خفض الفائدة، نظرًا لأن هذين النشاطين يمثلان الاقتصاد الحقيقى، غير أن اتجاه المدخرين والمستثمرين لاستثمار أموالهم فى أنشطة صناعية وزراعية لا يزال يواجه الكثير من المشكلات، حيث إن في هذين القطاعين لا تزال استراتيجيات المشروعات الصغيرة والمتوسطة غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع. فعلى الرغم من المبادرات التى تقوم بها بعض الوزارات وكثير من البنوك لدعم هذا القطاع، إلا أن قطاع المشروعات الصغيرة يحتاج إلى أن يكون ضمن استراتيجية تشرف عليها الدولة بنفسها، بحيث تفتح الطريق أمام الشباب لإقامة مشروعات زراعية وصناعية محددة، تضمن التسويق لها. ولعل مشروعًا مثل المليون ونصف المليون فدان من أهم المشروعات التى يمكن أن يأتى ضمن أهم المشروعات التى تنطبق عليها هذه الشروط، غير أنه ينبغى على الدولة البحث عن مشروعات متناهية الصغر تتناسب مع إمكانيات الشباب المادية والمهنية.