أناس يعيشون بيننا ولا نعرف عنهم شيئًا، نصادفهم فى الشوارع والأزقة والممرات، حين يقترب أحدهم منا قد تدفعنا هيئته للخوف منه أو النفور على أقل تقدير، يمثل كل واحد منهم عنوانًا لقصة إنسانية مأساوية تصلح لأن تكون موضوعًا لفيلم درامى، وربما مسرحية عبثية. مأساة حقيقية تعيشها السيدات والفتيات المشردات فى الشوارع، جميعهن خرجن من منزل الأسرة لأسباب كثيرة فى مقدمتها المرض النفسى، الزهايمر، الشيخوخة، وفى مقرهن الجديد (الشارع) تعرفن على القوانين الجديدة، قوانين غير مكتوبة ولا تعرف الرحمة، يتعرضن فيه لكافة الانتهاكات الجسدية والنفسية، والأقسى من ذلك حين تعيدهن المؤسسات الاجتماعية للأسرة فيواجهن الجحود والنكران ويرفض الأهل تسلمهن إما بحجة الفقر أو دعاوى الشرف. فى السطور التالية تتناول روزاليوسف قصص مجموعة من السيدات المشردات اللائى نجح فريق التدخل السريع فى إنقاذهن وإيداعهن فى دور الرعاية التابعة لوزارة التضامن الاجتماعى، فى الدور قام على تأهيلهن نفسيًا واجتماعيًا فريق من الشباب المتخصصين ونجحوا فى أن يعيدوهن إلى أسرهن، بعد سنوات من التشرد والضياع. 56 سنة فى الشارع الحكاية الأولى بطلتها صاحبة أطول فترة تشرد بالشارع، الحاجة «فريدة» تبلغ من العمر 75 عامًا، عاشت تتنقل بين الشوارع «56» عاما، بعد أن خرجت من بيت أسرتها وعمرها «19» عامًا، حين طلقها زوجها وأخذ منها ابنتها الوحيدة، وطردها من المنزل، ما تسبب لها فى حالة نفسية جعلتها تخرج للشارع ولا تعود إلى بيت عائلتها. عاشت فريدة طوال هذه السنوات على أمل وحيد وهو أن ابنتها سوف تكبر وتأتى إليها لتأخذها إلى بيتها، عبارة وحيدة كانت تقولها لجميع من يحاولون الاقتراب منها أو إقناعها بترك الشارع «بنتى جاية دلوقتى تاخدنى للبيت» وترفض أن تنتقل إلى مكان آخر. قضت الحاجة «فريدة» فترة كبيرة بشارع محمد محمود بجوار الجامعة الأمريكية، فكان كثير من طلبة الجامعة الأمريكية يعرفونها ويحرصون على الحديث معها باستمرار والاطمئنان عليها ومساعدتها، والتصدى لأى أحد يحاول المساس بها، فكانت تتعرض لمضايقات من السائقين وعمال المحلات وساسة الجراجات بالشارع. يقول محمود وحيد مسئول دار معًا لإنقاذ الإنسان؛ وهى الدار التى انتقلت إليها الحاجة «فريدة»: بعد محاولات عديدة نجحنا فى إقناعها بأن تذهب معنا إلى مقر الدار بالدقى بعد أن صدقت أننا سوف نصل لابنتها، وعندما انتقلت معنا قمنا بإجراءات النظافة اللازمة لها، ونقلناها للمستشفى فقد كانت تعانى من قرح فى أماكن متفرقة من جسمها نتيجة عدم النظافة والعيش بالشارع لسنوات، علاوة على إصابات قديمة نتيجة لتعرض لحادث سيارة، بالإضافة بعض أعراض مرض الشيخوخة، ثم عدنا بها إلى الدار وبدأنا مرحلة العلاج النفسى والتأهيل الاجتماعى. استطاع الأخصائيون النفسيون والاجتماعيون بالدار التعرف منها على بعض التفاصيل الحياتية، وأنها كانت تعيش مع زوجها السابق بالعباسية، وبالفعل ذهب الفريق الميدانى إلى المنطقة ومن خلال البحث تأكدوا أن أسرة بالمواصفات التى ذكرتها كانت تعيش هناك وعلموا أن أعضاء الأسرة انتقلوا إلى غمرة. ذهب الفريق الميدانى إلى غمرة واستطاعوا الوصول لزوج ابنتها وكانت المفاجأة أن ابنتها أصبحت جدة، وأخيرًا تم اللقاء بعد 56 عاما، فى البداية رفضت الأم أن تصدق إن هذه ابنتها، فكان لديها اعتقاد أنها ستعود وترى ابنتها كما تركتها، وبعد أن تبادلتا الحديث حول أفراد العائلة من مات منهم ومن لايزال على قيد الحياة تأكدت الأم أنها ابنتها. ويضيف محمود وحيد: أن الحاجة فريدة تعيش الآن أفضل حياة، ونحن نتابع حالتها باستمرار مع أسرتها، موضحًا أنها من عائلة ميسورة الحال، وهذا يؤكد أن التشرد بالشوارع ليس بالضرورة نتيجة الفقر كما يعتقد البعض لكن بعضهم قد يقعون تحت ضغوط نفسية نتيجة مشاكل مع أسرهم. الحاجة «سيدة» صاحبة ال 66 عامًا، بطلة حكاية مأساوية أخرى فقد عاشت بجوار مستشفى الدمرداش لمدة 12 سنة، لأنها لا تملك بيتًا تعيش فيه بعد أن انفصلت عن زوجها السابق وكانت تعانى من عجز فى إحدى ساقيها عاقها عن الحركة نهائيًا، فكانت تستعطف الناس بالأيام حتى يقبل أحدهم أن ينقلها لتنام على جنبها الآخر، وكانت تقضى حاجتها بالشارع، ورغم كبر سنها، فإنها كانت فى حالة وعى تامة ولا تعانى من أى أمراض نفسية. وبحسب محمود وحيد مسئول دار معا لإنقاذ الإنسان؛ فإن الحاجة سيدة كانت من أكثر الحالات التى دخلت الدار تأثيرًا على كل العاملين فى الدار، فكانت تقول دائما إن كل آمالها فى الحياة تتلخص فى النوم على سرير ودخول الحمام بطريقة طبيعية، خاصة عندما روت لهم المأساة التى عاشتها فى الشارع وكيف أنها كانت تمتنع عن الأكل حتى لا تحتاج لقضاء حاجتها. ويقول وحيد: نجحنا فى لم شمل عائلة سيدة داخل الدار بعد أن وصلنا شقيقها الذى يعمل بائعًا متجولًا، لكن لم نستطع تسليمها له، لأنه غير قادر على توفير لها المعيشة المناسبة نظرا لسوء حالتها الصحية، فأصبح هو وبعض أفراد أسرتها يأتون إليها فى الدار باستمرار، حتى توفيت منذ عام وتم دفنها فى مدافن العائلة. من القاهرة إلى أسفل كوبرى بالدقهلية الحالة الثالثة أنقذها فريق التدخل السريع بالدقهلية قبل أيام عندما تمكنوا من لم شمل أسرة مكونة من أم وأب وخمسة أبناء، بعد شهور من غياب الأم وطفلتها الصغيرة، لقد أقامت الأم وطفلتها بالشارع أسفل كوبرى ميت غمر زفتى، وبناء على بلاغ أحد الأهالى تحرك التدخل السريع، واكتشف أن الأم تعانى من اضطرابات نفسية. وبناء على معلومات وصل إليها الأخصائيون فى الدار وفريق التدخل السريع، تبين أن الأم من القاهرة، ولديها أربعة أبناء غير الابنة الصغرى الموجودة معها، بالفعل تم التواصل مع الزوج والأبناء، الذين كانوا فى حالة بحث دائم عن الأم منذ اختفائها، وتم تسليمها للأسرة بعد التعهد برعايتها. أقامت الحاجة «هويدا» صاحبة ال65 عاما لسنوات بالشارع، إذ كانت تعانى من مرض «الزهايمر»، قبل أن يصل إليها أعضاء فريق التدخل السريع، وبعد جلسات اجتماعية ونفسية معها، لم يصل الأخصائيون لشيء، لكن بعد فترة طويلة اكتشفوا أنها تخفى بطاقة شخصية، وتبين من بياناتها أنها من القاهرة متزوجة ولديها أبناء، ومن خلال عنوان البطاقة استطاع الفريق الوصول إلى زوجها وأبنائها، بالفعل جاء ابنها ووقع إقرارًا بعدم نزولها الشارع مرة أخرى بمفردها. طريق العودة يبدأ من الإنترنت استطاع فريق التدخل السريع إعادة سيدات إلى أسرهن، عن طريق نشر صور الحالات على صفحة المفقودين الخاصة بدور الرعاية، أو من خلال المعلومات التى يصل اليها الأخصائيون الاجتماعيون والنفسيون بالدار من خلال النقاش مع الحالات نفسها، ويقول محمود وحيد: هناك حالات عادت إلى أسرها بعد إقامة عام وعامين معنا بالدار، مثل الحاجة «زينب» التى عاشت معنا لمدة عامين، وكانت قد خرجت من منزلها وتاهت نظرًا لأنها تعانى من زهايمر وعمرها يتجاوز 72 عاما، وعادات لأسرتها بعد نشر صورتها على الإنترنت. الأمر نفسه، تكرر مع سيدة أخرى عاشت بالدار ثلاثة شهور، بعد تعرضها لحادث سيارة، وتم نقلها لمستشفى، وتبين أنها تعانى من من الزهايمر ونقلت للدار، وبعد نشر صورتها على صفحة المفقودين، جاء أبناؤها الذين قالوا أنهم كانوا يبحثون عنها، وعلمنا منهم أنها كانت فى الطريق إلى ابنتها الثانية. حالة أخرى وهى «ميرفت» عمرها 50 عاما، غير متزوجة كانت تعيش مع أشقائها الذين يقومون على رعايتها، وذات يوم خرجت إلى الشارع ولديها شعور أن أحد أسرتها سوف يقتلها إذ كانت تعانى من مرض الوسواس القهرى، هربت من البيت، وعاشت بالشارع لمدة أسبوع واحد، وعن طريق أطقم التدخل السريع تم نقلها إلى الدار. ونتيجة لأنها تعانى من الوسواس كانت لا تثق فى أحد بالدار خلال الأيام الأولى، وفى البداية تم منع أسرتها من الزيارة، حتى الانتهاء من العلاج النفسى الذى استمر 4 شهور بالدار، ومع الوقت سمحت الدار لأهلها بالزيارة، والآن هى تعيش مع أهلها، تحت متابعة مستمرة من الأخصائيين بالدار. أسرتها ترفض تسلمها حالة خاصة جدا تمثلها «الحاجة كوثر» وهى سيدة تبلغ من العمر 65 سنة من الشرقية، فقد خرجت إلى الشارع نتيجة إهمال الأبناء الذين تركوها تخرج للشارع وهى مريضة سكر وضغط، فكانت النتيجة أنها تاهت وأقامت بالشارع أكثر من شهر، حتى باتت عاجزة عن الحركة تماما، وعندما نقلها فريق التدخل السريع لإحدى دور الرعاية عاشت هناك 11 شهرًا، إذ كان من الصعب الحصول منها على أى معلومة عن أهلها ومكان إقامتها بسبب المشاكل النفسية التى تعرضت لها. بعد أن تم تأهيلها نفسيًا واجتماعيًا، استطاع الفريق الميدانى الوصول إلى رقم إحدى بناتها الأربع، لكن للأسف أبناؤها وكأنهم «ما صدقوا خلصوا منها»، فلم يتقدموا بأى بلاغ عن اختفائها ورفضوا تسلمها بحجة أنهم غير قادرين على رعايتها، مما دفع القائمين على الدار لتهديدهم بتقديم بلاغ ضدهم بتهمة ترك والدتهم بالشارع، وبالفعل وقعوا جميعا على إقرار الاستلام، وعدم إهمالها مرة أخرى ويقوم فريق العمل بالدار بمتابعتها والاطمئنان عليها بشكل مفاجئ حتى يتأكدوا من حسن معاملتها. الفتيات يتعرضن للاغتصاب لا تقتصر المآسى الإنسانية على السيدات وحدهن فهناك أيضا العديد من الفتيات واجهن مشاكل مماثلة بل قد تكون تجاربهن أكثر صعوبة، فبحسب مدير دار «معا لإنقاذ الإنسان» فإن فريق التدخل السريع، استطاع إنقاذ فتيات من الشوارع، وأغلبهن خرجن من دور رعاية الأيتام، بعد أن يبلغن 18 عاما، بالتالى كان الشارع هو الملجأ الوحيد لأغلب تلك الفتيات، وللأسف عدد كبير منهن تم نقلهن إلى الدار عن طريق التدخل السريع بعد تعرضهن للاغتصاب والحمل أحيانًا. منتهى القسوة أن يتنكر الأهل للفتاة التى تركت بيتها وهربت – قد يكون ذلك لأسباب نفسية - بعد أن ضاقت بها الدنيا ولم تجد لها ملجأ إلا الشارع، ويقول وحيد: لدينا بالدار حالة لفتاة تعانى من عدة مشاكل نفسية بعدما هربت من بيت أهلها فى منطقة ريفية، وبعد أن توصلنا لأهلها للأسف رفضوا تسلمها بحجة أنهم فلاحون واعتبروا ابنتهم ماتت بعد أن هربت من بيتها، موضحًا أنها ستعيش بالدار حتى تنتهى من العلاج وتوفر لها حياة بديلة.