«تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية»، ظلت هذه هى الجملة الأكثر جدلًا حتى بعد مرور 64 عامًا إذ أعلنها الرئيس جمال عبدالناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية، خلال الاحتفالات بالذكرى الرابعة لثورة 23 يوليو، رغم تأييد الشعب وقتها لذلك القرار بإعلان السيادة المصرية على المجرى الملاحى الأهم؛ كان هناك من قرر التنظير، خاصة بعد العدوان الثلاثى على مصر باعتبار أن التأميم كان سببًا أساسيًا لهذا العدوان. أصحاب هذه الطريقة فى التفكير ممن يرفعون شعار «لو لم تستطع المقاومة فاستمتع» أرادوا تسويق رأيهم بطريقة أخرى، بأن تأميم قناة السويس كان قرارًا متسرعًا بهدف لفت الأنظار فقط، وأننا كان يمكننا الانتظار حتى انتهاء الامتياز سنة 1968 لتعود القناة بالكامل لمصر من دون كل هذا العناء. الجدل بين قرار التأميم وانتظار انتهاء الامتياز ويختلط الأمر على الكثيرين، إذ إن حقوق الامتياز كانت تمثل 25 % فقط، منها 10 % تذهب لفرنسا و15 % كان من المفترض أن تعود لمصر، لكن الخديو إسماعيل كان قد باعها سابقًا للإنجليز، بينما بقية الأسهم تظل مدولة عالميًا فى بورصات العالم «شركة مساهمة عالمية» مملوكة لأفراد دوليين. بالتالى يكون الادعاء بأن تأميم القناة لم يكن تطورًا فى المجرى الملاحى لأن الامتياز سينتهى بعد عدة سنوات عارٍ عن الصحة تمامًا، فشركة القناة كانت تعمل لصالح أصحاب الأسهم سواء انتهى الامتياز أم لا والدليل على ذلك حفر تفريعة فاروق 1949 إذ كانت بداية لازدواج القناة. فشل خطة الملك لإدارة القناة من جهة أخرى كان هناك من يتبنى الحل طويل المدى بشراء أسهم القناة لتصبح تحت إدارة مصرية بفرض الأمر الواقع، لكن هذا ما حاول فعله الملك فاروق بالفعل فى عشرينيات القرن الماضى دون جدوى، إذ بدأ الشراء لأسهم القناة السويس لتمتلك مصر عند اندلاع ثورة يوليو 32 % فقط من أسهم قناة السويس، إضافة ل 12 % يمتلكها الأفراد ليصبح إجمالى الأسهم المصرية فى القناة 44 %، وكان مصر لها 4 أعضاء فقط فى مجلس إدارة القناة من أصل 9 أعضاء، وهو ما يجعل أمر الإدارة المصرية صعبًا، حتى مع وجود 100 % من العمال وأكثر من 65 % من المهندسين والمرشدين والإداريين مصريين، فالقرار السياسى هو الأهم. الظرف السياسى وقت التأميم كان أحد العوامل المهمة أيضًا، ونحن لسنا بصدد تقييم حكم الرئيس عبدالناصر إيجابًا أو سلبًا، لكن لا يمكن رصد توابع قرار التأميم مجردًا من ظرفه السياسى، فتمصير وتأميم مجرى التجارة والصناعة الذى استأثر به الأجانب لم يكن بالأمر السهل على الإطلاق. الانتصار السياسى بعد العدوان الثلاثى بالرجوع إلى تاريخ إنشاء القناة، نجد أن الفراعنة قاموا بإنشاء قناة مشابهة تربط بين نهر النيل والبحر الأحمر عام 1850 ق.م، فالتفكير فى ربط النيل بالبحر الأحمر والمتوسط كان ملحًا منذ زمن بعيد، ليأتى بعد ذلك المقترح الفعلى لبناء القناة عام 1854م من قبل فرنسا، ويكون ذلك بداية النزاع على القناة إذ اعتبرت بريطانيا ذلك محاولة لهدم سيطرتها على حركة التجارة العالمية. برزت أهمية ذلك المجرى الملاحى، حتى إنها ظلت محورًا للصراع العالمى طوال الوقت سعيًا من قوى العالم العظمى للسيطرة على المنطقة الاستراتيجية المهمة، فحجم التجارة العالمية التى تعبر من خلالها يتراوح ما بين 8 % إلى 12 % من إجمالى حركة التجارة العالمية. اتخذت الدول العظمى قرار التأميم ذريعة للعدوان الثلاثى، لكنها لم تكن السبب الرئيسى، فالرئيس عبدالناصر كان قد قرر قبل ذلك تنويع مصادر سلاح الجيش المصرى، وهو ما كان أمرًا مثيرًا وقتها أن ترغب مصر فى التحرر من القبضة الأمريكية، مما أدى لفرض العقوبات عليها ومنع تمويل السد العالى رغبة فى تعجيز الاقتصاد المصرى. تبع قرار التأميم اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث (أمريكاوفرنساوبريطانيا) فى لندن أغسطس 1956م، وأصدروا بيانًا عارضوا فيه قرار التأميم، وقالوا بأن القناة كانت لها دائمًا صفة دولية، وأنه يجب لهذا الغرض ضمان دوليتها بصفة مستديمة، واقترحوا عقد مؤتمر دولى للدول الموقعة على معاهدة الآستانة والدول الأخرى، وفى الوقت ذاته قامت حكومتا بريطانياوفرنسا بعدد من الإجراءات العسكرية مثل دعوة الاحتياط، وتحركت قواتهما إلى شرق البحر المتوسط. الرد المصرى كان واضحًا إذ رفضت حضور مؤتمر لندن واعتبرته تدخلاً فى شئونها الداخلية، وأبدى الاتحاد السوفيتى تأييدًا كاملاً للموقف المصرى خاصة بعد تعهد مصر باحترام حرية الملاحة فى القناة، وبدفع تعويض لحملة الأسهم. العدوان الثلاثى يبدو للوهلة الأولى أنه هزيمة ساحقة، لكن ما تبعه من انتصارات مصرية على الجانب السياسى لا يمكن تجاهله، إذ صدر قرار جمهورى فى أول يناير عام 1957 بإلغاء اتفاق 19 أكتوبر عام 1954 بشأن قاعدة قناة السويس، ليمنع عودة القوات البريطانية إلى قاعدة القناة. مكاسب التأميم عودة قناة السويس إلى مصر وتطهيرها وإعادة فتحها للملاحة فى 29 مارس 1957، ونجاح مصر فى إدارتها من جديد وتطويرها لصالح الملاحة الدولية، كان المكسب الأول لقرار التأميم وتبعه بعد ذلك مكاسب كثيرة ما زلنا نحصدها إلى الآن. فرض السلطة المصرية على القناة وتحولها لمرفق وطنى شجع الكثير من دول العالم الثالث على اتخاذ إجراءات مماثلة، حيث جرت سلسلة من تأميمات المصالح الأجنبية فى هذه الدول، فأصبح تأميم شركة القناة سابقة مهمة وقدوة لعشرات الدول. المعركة المصرية فى استرداد حقها الأصيل أصبحت رمزاً لكل حركات التحرير فى إفريقيا وآسيا، آخذين من كلمات الرئيس عبد الناصر: «إن هذه القضية ليست قضية مصر فحسب، بل هى قضية جميع الدول التى تناضل فى سبيل الحرية والاستقلال» شعارًا لهم، مما أدى إلى قيام الحركات المناهضة للأنظمة الموالية للدول العظمى الاستعمارية، ورفض هيمنتهاعلى مقدرات العالم الثالث. امتدت المكاسب إلى وقتنا الحاضر، فالحديث عن إيرادات قناة السويس وما تمثله من أهمية فى الاقتصاد المصرى ليس أهم المكاسب المصرية، ففى سبتمبر 2013 أعلن الرئيس الصينى مبادرة جديدة تهدف لتعزيز التعاون الاقتصادى ودعم حركة التجارة من خلال إنشاء شبكة الممرات البحرية القديمة وخلق طريق الحرير البحرى. قناة السويس تعد ركيزة أساسية، من خلال وقوعها بين أهم محطتين (أثينا – نيروبى) فى الطريق البحرى ضمن مبادرة الحزام والطريق، مما يجعل مصر مركزًا استراتيجيًا واقتصاديًا مهمًا فى المنطقة والعالم وسيفتح الطريق أمامها لشراكات وتحالفات اقتصادية مهمة تجعلها دولة فاعلة فى التجارة الدولية ومعبرًا لمرور حركة التجارة من التنين الصينى لمختلف دول العالم، من خلال قناة السويس العالمية. الدور المحورى للمجرى الملاحى فى مبادرة الحزام والطريق، الذى يعظم بدوره الاستفادة المصرية ويجعلها مركزًا لوجيستيا للسفن والبضائع، إضافة لزيادة عدد السفن المارة بالقناة ويحقق إيرادات إضافية من رسوم مرورها فضلاً عن فرص العمل وتحقيق التنمية الاقتصادية. المكاسب المصرية لم تكن لتتحقق لولا الصمود أمام السيناريوهات الرافضة للتأميم سواء كان ذلك بتدويل إدارة القناة، أو باغتصاب الحق المصرى فى إدارتها بالقوة فى العدوان الثلاثى الذى صمدت فيه القوات المصرية جيشًا وشعبًا دفاعًا عن حقهم الأصيل واستكمال مسيرة التنمية المستمرة إلى الآن. ويبقى قرار التأميم، كعادة كل الأمور التاريخية، محل جدل بين مؤيد ومعارض وآخر يرى أنه كان من الممكن أن يتم بشكل أفضل، لكن لا يستطيع أى من الأطراف أن ينكر حجم المكاسب التى جنتها مصر سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى وحتى المستوى الأمنى والاستراتيجى.