ترجمة - رولا عادل رشوان فى عام 1949، قام جورج أورويل، المؤلف الذى ابتدع فكرة «الأخ الأكبر» فى إشارة إلى اضطهاد الحكومات الديكتاتورية ومراقبتها للمواطنين، بكتابة قائمة ضمّت فى نسختها النهائية 38 اسمًا، أطلق عليهم «شيوعيو الهوى المتخفّون» و«رفاق الدرب». سلّم أورويل القائمة إلى دائرة حكومية شبه سريّة وقد أدّى اكتشاف هذا الأمر مؤخرًا محاولات عديدة لإعادة تقييم ومراجعة تراثه الأدبى فى ضوء التناقض بين محتواها ومعتقداته التى دعته إلى الإقدام على مثل ذلك الفعل. اقترب جورج أورويل من مكانة المفكّر القدّيس ذى الميول العلمانية فى نظر المطّلعين على أدبه وإسهاماته فى مجال السياسة. ولد إيريك آرثر بلير الذى اشتهر باسم جورج أورويل عام 1903 فى ولاية بيهار الهندية، تحدّى أورويل مساوئ الإمبريالية والرأسمالية وفضح زيفها، وقاتل كجندى فى الحرب الإسبانية الأهلية وأصيب فى حنجرته بطلقة قنّاص فاشى، وكان له الفضل فى تعريف الجمهور الغربى بأهوال الشيوعية الستالينية. توفى أورويل عام 1950 إثر تداعيات إصابته بالسُلّ، وقد ساهمت وفاته فى عمر صغير نسبيًا فى شهرة تراثه الأدبى والاحتفاء به، كما يبدو أن الموت قد أنقذه من خوض كثير فى سيرته ومباحثات طالت أفعاله التى بدت متناقضة أحيانًا. اعتاد الجميع ذكر محاسن أورويل كرجل «عبقرى، وأعظم كاتب سياسى فى القرن العشرين»، ويتم الإشارة دائمًا لشخصيته وتحرّى صفاته الطيّبة بدلالة توحيدها الأهداف السامية للمؤسسة التى تحمل اسمه. من خلال جائزة أورويل، تسعى مؤسسة أورويل إلى «الاحتفاء بالكتابة الصادقة والحكى عن دواخل المهمّشين، ومواجهة الحقائق المزعجة وتعريتها، وتعزيز قيم أورويل الداعية للنزاهة واللياقة والإخلاص للحقيقة». ومع هذا، تتعارض هذه السيرة الناصعة مع حقيقة أو تعقيدات أثيرت مؤخرًا عن جورج الكاتب القدّيس. ظل هذا السرّ مخفيًا حتى عام 1996 عندما كُشف عن ملف رقم «فو 111/189» بعد أن مرّت على وجوده بالأرشيف المدّة القانونية اللازمة للاحتفاظ به تحت بند السرية. يتّضح من أوراق الملف أن الكاتب العظيم قد تواصل عام 1949 عن طريق صديقته سيليا كيروان، بوِحدة شبه سرية تختصّ بأمور الدعاية الحكومية، تُسمى وحدة البحوث الإعلامية «إرد» وقد سلّمها جورج ما عُرف فيما بعد ب«قائمة أورويل». أبلغ أورويل السلطات البريطانية بقائمته عن أسماء 38 شخصية عامة اعتقد هو أنه ينبغى على الحكومة التعامل معها بحذر لكونهم «شيوعيين متخفين» أو ينتمون فى الغالب إلى طائفة «رفقاء الدرب» الذين يوجّهون تعاطفًا وميلًا مريبًا نحو مبادئ ستالين والاتحاد السوفيتى. أثار نشر القائمة الكاملة فيما بعد عام 2003 الكثير من الغضب والحزن تجاه أفعال أورويل المتناقضة، ولم يهتمّ أحدٌ فى ذلك الوقت بتحليل الأمر ووضعه فى نصابه والتحقيق فى ماهيته، وأصبح جورج أورويل، الذى كان بطلًا مغوارًا فى نظر الكثيرين، مجرّد خُدعة، ونال العديد من الألقاب منذ وقتها؛ «اشتراكى مزيف»، «رجعىّ واشى»، «خائن، ثعلب مكارثى» فى إشارة للمصطلح الذى يشير إلى الإرهاب الثقافى الموجه ضد المثقفين. ومع ذلك، عندما سألنا الكاتب دى جى تايلور مؤلف سيرة أورويل الأشهر «أورويل: الحياة»، واستشرناه بخصوص الحادثة، وجدنا لديه صدى أخفّ وطأة لا يحمل ذات المشاعر الغاضبة تجاه فعلة أورويل. يقول تايلور بنبرة معتدلة: «لا يثيرنى أمر القائمة فى الواقع إلى هذا الحد». «أنا شخصيًا لا أفسّر الأمر باعتباره خطأ أو ذنبًا ارتكبه أورويل». ويضيف «على الفرد فقط رؤيتها فى سياق الوقت الذى كتبها فيه أورويل» وهذا السياق كما يكشف تايلور، قد فُسّر له من قبل زعيم حزب العمل اليسارى السابق مايكل فوت، ومن المثير للدهشة أو السخرية أن فوت نفسه قد جاء اسمه ضمن قائمة أورويل. يتذكّر تايلور قائلًا: «أخبرنى فوت أن صعوبة الأمر فى ذلك الوقت كانت تكمن فى عدم الثقة؛ إذا كنت عضوًا فى حزب العمل اليسارى فى الأربعينيات من القرن الماضى، فكان عليك أن تقرّر تحديدًا أين موقع حلفائك من أعدائك. حينها كان من الصعب أن تعرف ما إذا كان البعض ممّن يستمع إليك موافقًا على خطبك ومبادئك، هو بالفعل هكذا أم أنه يتوجّه مباشرة بعدها إلى مقرّ الحزب الشيوعى البريطانى ويخبرهم بكل شيء ». بعد سنوات من إدراج أورويل للصحفى بيتر سموليت فى قائمته، مع ملاحظات على كونه يُعطى «انطباعًا قويًا بأنه عميل روسى»، كشفت وثائق أرشيف المخابرات الروسية أن سموليت كان بالفعل عميلًا روسيًا. وما زال الحديث لتايلور: «لقد كان أورويل اشتراكيًا ديمقراطيًا، ورأى أنه من الأفضل الاستعانة بالاشتراكيين الديمقراطيين، وليس الجناح اليمينى، فى كتابة مقالات داعمة لبريطانيا. أراد أورويل أن تُساهم الأقلام الصادقة فى الدعاية لبريطانيا من خلال هؤلاء الذين اكتشفوا وهم الدعاية السوفيتية وليس الذين لديهم ميل خفى لأفكار ستالين والمبادئ الشيوعية السوفيتية». يقول تايلور إن أورويل لم يكن يُلقى أحكامًا على الآخرين: «لم يكن مثلًا يكتب مقالات عامة فى الصحافة تقول «هؤلاء الناس شريرون». «لقد كان ما فعله بمثابة تقديم استشارة خاصة لصديق [سيليا كيروان] التى كانت تعمل لدى وحدة البحوث الإعلامية وأراد أن يعرّفها على الأسماء الواجب أن تتجنبها عندما تُقرّر الوحدة انتقاء أفراد لكتابة مقالات ومنشورات داعمة للحكومة». ويأتى رأى الصحافى جارتون آش الوارد فى مقالة نشرتها نيوريورك ريفيو مناهضًا لحديث تايلور المدافع عن وجهة نظر أورويل، يقول آش: « كتب أورويل عن غاندى قبل بضعة أشهر فقط من إرساله القائمة إلى سيليا قائلًا: «من المفترض دائمًا وضع القديسين موضع المُذنبين حتى تثبت براءتهم». أليس علينا إذن أن نطبّق هذا القول على أورويل نفسه ونتباحث فى دواعى براءته أو اتهامه بمعزل عن تراثه السياسى الأدبى البديع!». ويضيف «بحلول أواخر الخمسينيات، اكتسبت وحدة البحوث الإعلامية سمعة بأنها «قسم الحيل القذرة» فى وزارة الخارجية، حيث تضمّنت نشاطاتها اغتيال الشخصيات، وإرسال البرقيّات ذات المحتوى المزيّف، وغيرها من حيل الحرب الباردة. عندما أرسل أورويل قائمته إلى سيليا كيروان فى عام 1949، من الوارد أنه حقًا لم يكن يعلم أن هذه كانت توجّهات الوحدة، ولكن هذا ليس عذرًا كافيًا، ذلك أن مؤلف رواية 1984 الشهيرة، الذى كان له تصوّر عن أعمال الحكومات المُشينة والتى صورّها فى روايته تحت اسم «وزارة الحقيقة»، كان يجب عليه تصوّر خلفية مثل هذه المنظمة الحكومية التى تَواصل معها بكامل إرادته». مثل أى قديس، كانت لأورويل أخطاؤه. كانت عاطفته تميل لرعاية وتعضيد الطبقة العاملة، غير أنه فى الوقت ذاته، لم يستطع تحرير نفسه تمامًا من التحيّز لعصره وطبقته، بما فى ذلك ما بدا كأفكار معادية للسامية، ومن ذلك احتوت قائمته على أسماء صُنّف بعضها طبقًا للعِرق والديانة، مثل «شارلى شابلن» الذى وَضع إلى جانب اسمه ملاحظة تقول: «يهودى بولندى». تنقسم قائمة أورويل إلى خانات ثلاث؛ الاسم، الوظيفة، وملاحظات وضعها أورويل فى تعقيب على الشخصيات. يحتوى نَصّ القائمة على تعقيبات وملاحظات بالقلم الرصاص. يبلغ مجموع الأسماء الواردة فى القائمة قبل التعديل 135 اسمًا، تم شطب عشرة منها، إمّا لأن الشخص قد مات - مثل فيوريلو لا جوارديا، عُمدة مدينة نيويورك الأسبق - أو لأن أورويل قرّر أثناء المراجعة أنهم ليسوا شيوعيى الهوى أو رُفقاء درب. احتوت القائمة أيضًا على أسماء العديد من المشاهير فى مختلف المجالات؛ كالفيلسوف جون ماكموراى، وتشارلى شابلن والممثل البريطانى مايكل ريدجريف، والمخرج أورسن ويلز، والفيزيائى باتريك بلاكيت، والشاعر نيكولاس موور، وحتى الكاتب الأمريكى جون شتاينبك كان حاضرًا فى قائمة أورويل. قال أورويل فى رسالته التى أرفقها بالقائمة «أظن أن هذه القائمة لن تمنح أصدقاءك - أى أنه كان يعرف أن القائمة ستصل حتمًا للوحدة الحكومية التى تعمل بها سيليا معلومات عن أشياء لا يعرفونها بالفعل، ولكنه من الأفضل أن نتوخّى شديد الحذر فى اختيار الأشخاص الذين لن يضرّونا بأى من أقوالهم أو كتاباتهم المتأثرة بميولهم، فقط أتصوّر أن هذه القائمة ستُشهّر بأسماء بعينها أو تفضحهم حال نشرها، لذا أرجو أن تحرصى على إعادتها إلىّ فور الاستفادة من فحواها». إبان الحرب العالمية الثانية، رفضت دور النشر البريطانية الشهيرة فى لندن نشر روايته «مزرعة الحيوان» التى عادى فيها الأفكار الستالينية، مُعلّلين ذلك بأن الكتاب يُعدّ إهانة للسوفييت الذين كانوا من حلفاء بريطانيا فى ذلك الوقت، حادثة كتلك كان يجب أن تجعل أورويل يثق بأن الحكومات لا تُصادَق أو تُؤتمن حتى ولو كان الهدف نبيلًا. كتب آدام لاشر للإندبندنت البريطانية