يظل اسم المخرج الكبير «يسرى نصرالله» مرادفًا للجودة، فهو على مدار مسيرته الفنية الطويلة ظل قابضًا على الجمر، لا يقدم إلا ما يراه نابعًا من قناعاته ومعبرًا عن أفكاره حتى لو كلفه ذلك أن يغيب عن الساحة السينمائية سنوات طويلة، لكن تبقى أفلامه بمثابة تاريخ مصور لهموم بشر من لحم ودم، مَهما اختلفت جنسياتهم ودياناتهم وثقافاتهم.. حول مشاريعه المؤجلة والضائعة.. وكلام خاص جدّا عن السينما التسجيلة والأعمال التليفزيونية.. كان لنا معه هذا الحوار.. كيف ترى تجربتك فى رئاسة لجنة تحكيم مهرجان الإسماعيلية؟ - لقد عرضتُ فى هذا المهرجان قبل سنوات طويلة فيلم (صبيان وبنات)، لكن هذه هى المرّة الأولى التى أحضر فيها المهرجان بالكامل، وهو مهرجان ممتاز، وقد شاركتُ فى لجان تحكيم الأفلام التسجيلية ثلاث مرّات من قبل، فى مهرجانات «كان ومارسيليا وبياريتز»، وشاركت مرّات عديدة فى لجان تحكيم أفلام روائية، وبلا شك إن المشاركة فى لجان التحكيم تجربة قاسية لأننا نشاهد أفلامًا كثيرة، وعندما تكون الأفلام الروائية غير جيدة تكون التجربة أشبه بالعذاب، لكن السينما التسجيلية حتى لو لم تكن أفلامها على المستوى المأمول نجد بها أشياء نتعلمها، وهى ما تدفعنا لاستكمال الفيلم ومتابعته، فعالم السينما التسجيلية غير المعروف للناس بالشكل الكافى، هو عالم سينمائى عظيم يحكى عن الناس، رُغم أنه أحيانًا تكون هناك أعمال رديئة أشبه ب«التقارير» والأفلام الدعائية والسياحية، لكن السينما التسجيلية سينما كبيرة ومهمة، وفى مهرجانات الأفلام التسجيلية نجد أنفسنا أمام أفلام تقدم عالمًا حقيقيّا ومشبعًا جدّا سينمائيّا، وفى مهرجان الإسماعيلية من بين 12 فيلمًا تسجيليّا طويلًا شاهدناها كان هناك 9 أفلام رائعة والثلاثة الأخرى معقولة، لذلك التجربة كانت ثرية جدّا. ما رأيك فى الإنتاج المصرى للسينما التسجيلية والفيلم الروائى القصير؟ - بالنسبة للأفلام القصيرة هناك مجموعة أفلام أحبها جدّا ومخرجون متميزون، لكننى لم أشاهد عددًا كبيرًا منها، لكن وضع السينما التسجيلية فى مصر صعب، باستثناء أفلام «عطيات الأبنودى» التى تُعتبر الوحيدة التى أستطيع أن أقول إنها مخرجة تسجيلية، لكن الأفلام الأخرى التى قدمت فى الستينيات والسبعينيات كان بعضها جيدًا مثل (النيل أرزاق) ل«هاشم النحاس»، وأفلام «سعد نديم» كانت جميلة، لكن هذه الأفلام كانت دائمًا داخل «فورمات». فلا أستطيع الحديث عنها كهاجس لرصد واقع يلقى مخرجوها بأنفسهم داخله، بينما كانت «عطيات» تنقلنا لأماكن غريبة مع ناس غريبة لم نعتَد على رؤيتهم، وفى الفترة الأخيرة شاهدت أفلامًا مهمة، وفى مهرجان الإسماعيلية شاهدت 4 أفلام تسجيلية 2 منها طويل و2 قصير، وكلها مستواها رائع، وشعرنا أن لدينا مخرجين لا يقدمون هذه الأفلام لمجرد رغبتهم فى الوصول للسينما الروائية ولكن لأن لديهم «فورمة» حقيقية للتعبير السينمائى، وهذا شىء جميل فى الأفلام التسجيلية المصرية التى شاهدتها فى المهرجان. ومتى ستظل الأفلام التسجيلية من دون سوق أو توزيع؟ - سوق الأفلام التسجيلية فى العالم كله صعبة، فمثلا قناة «آرتيه»الفرنسية كانت تعرض أسبوعيّا أفلامًا تسجيلية، وكان هناك وحدة فى القناة لدعم إنتاج هذه الأفلام، لكن حتى ذلك بدأ يتراجع، والشكل الرائج حاليًا تقديم الأفلام التسجيلية التى تعتمد على الأرشيف وتحكى عن التاريخ، وكندا كان لديها أفلام تسجيلية عظيمة، فمثلا المخرجة «تهانى راشد» جاءت من مدرسة الأفلام التسجيلية فى كندا، وهناك أشياء تدعم الأفلام التسجيلية، فمثلا الأوسكار يمنح جائزة لأفضل فيلم تسجيلى، لكن هذا النوع من الدعم ليس موجودًا عندنا، فهذه الأفلام لا تعرض فى التليفزيون، وفى دور العرض السينمائى إلا بصعوبة شديدة لنجد عرضًا استثنائيّا لفيلم تسجيلى فى سينما مثل زاوية، وأعتقد أن ما قاله «د.خالد عبدالجليل» رئيس المركز القومى للسينما عن تخصيص المدارس المحيطة بالمركز فى منطقة الهرم حصة فى الأسبوع لتعليم الأطفال كيفية مشاهدة الأفلام، هو شىء مهم، فهذا سيواجه منظومة تخاف من أى شىء جديد، والتعليم بالنسبة لها يعتمد على الحفظ، وهذا ينعكس على الثقافة كلها وليس السينما التسجيلية وحدها، وفكرة خَلق أجيال تعرف كيف تشاهد الأفلام التسجيلية ليست موجودة، وفكرة التسجيل مخيفة؛ لأن صناعة الفيلم التسجيلى تواجه الكذب بشكل مباشر؛ لأنها تقول الحقيقة. لماذا لم تكرر تجربتك فى تقديم الأفلام التسجيلية بعد (صبيان وبنات)؟ - العمل فى (صبيان وبنات) استغرق ثلاث سنوات، منها سنة تعرفتُ فيها على كل الناس الذين ظهروا فى الفيلم؛ حيث شرحت لهم «أنا بأعمل إيه وليه»؛ لأنه لا يجوز أن أكذب عليهم، والفيلم استغرق تصويره ومونتاجه وقتًا طويلًا؛ حيث صورت نحو 80 ساعة، والمونتاج استغرق نحو 9أشهر، فمن الصعب أن نجد صيغة نحكى بها الحكاية من دون الغدر بالناس الذين تم تصويرهم؛ حيث كان يشغلنى أنهم فتحوا لى بيوتهم وقلوبهم وعقولهم ولا يجوز أن أستخدم ذلك لكى أثبت شيئًا أريد إثباته، والفيلم كان عن موضوع الحجاب وتركتهم يكشفوا لى هذا الموضوع دون أن أبدى رأيى فيه، وأنا لم أكرر التجربة لأننى لم أجد موضوعًا يلهمنى، فالأمر ليس مجرد قرار ولكنه تجربة حياتية. هل هذا ما يجعل هناك فترة زمنية طويلة بين أفلامك؟ - نعم، لكى يستهوينى الموضوع بشكل حقيقى وأقول إن هذا الموضوع يستحق أن أقضى 3 أو 4 سنوات من حياتى لكى أقدمه، وفى النهاية المخرج يبحث عن الحرية لكى يقدم الفيلم مثلما يريد بالضبط، دون أن يأتى أحد يطلب منه أن يستعين بممثل معين وأن يفعل كذا ولا يفعل كذا أو أن يغير النهاية، وهذا يتطلب وقتًا، وهناك من اندهش لأننى تعاملت مع السبكى، بعد تحمسه لمشروع فيلم (الماء والخضرة والوجه الحسن) الذى أردت تقديمه منذ عام 1995 وتحديدًا من بعد فيلم (صبيان وبنات)، والجميل أننى خلال تلك الفترة بقيت متحمسًا للمشروع وكذلك وجدت من يتحمس لتقديمه معى، ووقتها كان هناك من يقول «أنت عملت باب الشمس والمدينة وعايز تعمل فيلم عن الطباخين». ما مصير مشروع فيلمك الذى كنت تحضّر له مع المنتج «كريم السبكى»؟ - كان هناك مشروع فيلم أكشن كوميدى كتبه «عمرو الشامى»، ولكنه تعثر لسبب «عبيط جدّا» لكنه أساسى فى السينما المصرية وهو النجوم، فالفيلم يضم شخصيات كثيرة من بينهم شخصيتان أساسيتان وعندما نعرضه على نجم يقول «مش عايز أبقى مشارك»، وأنا طول مشوارى لم أواجه هذه المشكلة مع الممثلات إطلاقًا، وفيلم أكشن كوميدى مثل الذى كنا نحضر له يحتاج نجمين، وكل نجم له طلباته الغريبة، وأنا بأحبهم لكن لا أستطيع قبول ذلك، كما أنه من الصعب تقديم الفيلم بوجوه جديدة لأن تكاليفه الإنتاجية عالية والمنتج سيخاف من المغامرة. هل من الممكن أن يخرج هذا المشروع إلى النور؟ - ممكن، وهناك أفلام كنت أريد تقديمها فى بعض الفترات لكن لم يعد من الممكن تقديمها، منها سيناريو كتبته مع «ناصر عبدالرحمن» بعنوان (مركز التجارة العالمى) تدور أحداثه فى بولاق أبوالعلا، وهذا الفيلم لم يعد ممكنًا تصويره فى بولاق أبوالعلا، رُغم أننى وجدت الشارع والبيوت التى سنصور فيها لكن هذا كله لم يعد موجودًا، رُغم أنه سيناريو جميل جدّا، وهناك سيناريو آخر تدور أحداثه بين الثورتين، وقت أن كنا سنقدمه كان سيظهر بشكل طبيعى لكن حاليًا لا بُدَّ أن نعيد خَلق أجواء لم تعد موجودة، فهناك أشياء كثيرة جدّا تجعلنى متمسكًا بتقديم فيلم معين مَهما مَرّ عليه الزمن، وأحيانًا يكون السيناريو جيدًا لكن إن لم يقدم فى وقته لا أستطيع تقديمه. كيف ترى حال السينما المصرية الآن؟ - السينما حالتها سيئة، هناك احتكارات تتكون، وقيود رقابية تزيد، ومؤخرًا ظهرت قائمة بمحظورات جديدة على الأفلام، وهى أشياء تجعل هناك حالة من عدم الرغبة فى العمل. ما رأيك فى ظهور جيل جديد من المخرجين الجادين خلال الفترة الأخيرة؟ - رائعون، شاهدتُ أعمالهم وتجاربهم الجديدة، فهم يقدمون السينما التى تعبر عن العالم الخاص بهم ولا يدخلون فى القوالب الخاصة بشباك التذاكر والمواسم. هل الممكن أن تقدم عمل تليفزيونى؟ - ممكن أشتغل فى التليفزيون لكن ليس بهذه الشروط، أقل شىء أن يكون المسلسل مكتوبًا قبل التصوير، فكيف أجد نفسى مشغولًا فى التصوير والسيناريو لم ينته، فكيف سأجد أسلوبًا فى هذه الحالة، وكيف أحكى حكاية دون أن أعرف ما الذى سيأتى فى البداية وما الذى سيأتى فى النهاية. لكن موقفك من العمل فى التليفزيون تغير؟ - لأن الدراما التليفزيونية تغيرت، فظهرت مسلسلات مثل (ذات، سجن النساء، هذا المساء، العهد، واحة الغروب، نيران صديقة، بدون ذكر أسماء، موجة حارة وأفراح القبة)، كلها أعمال فنية نشعر أنها «مشغولة» بشكل حقيقى، وهذا يختفى الآن. مما يسير إلى كارثة أننا معرضون لعودة الركاكة مرّة أخرى.