بادرني صديق أثناء حوار هاتفي معه بسؤال مفاجئ: هل تري أن شرعية يوليو 1952 قد انتهت؟ وقبل أن أتمكن من الإجابة سألني مرة أخري: ممَ يستمد الرئيس مبارك شرعيته؟ أجبت: من انتصار أكتوبر ومن بكاء أهل مصر ولهفتهم علي سلامته بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا. سألني: ومن كونه الرئيس المنتخب؟ لم أجب هذه المرة. قال لي: كنت أفكر قبل اتصالك بي في مدي صحة القول بأن مشروعية يوليو 1952 قد انتهت وبدأ عهد جديد تمنح فيه الجماهير المصداقية. قلت له: بالتأكيد، فجمال عبدالناصر هو الذي منح نائبه السادات تلك الشرعية التي منحها لنائبه مبارك التي حكم بسببها منذ 1981 حتي الآن، ولكنه لا يستطيع أن يمنحها لأحد، لأن صاحب مشروعية الحكم الآن هم الجماهير العريضة. قال لي: اكتب، قلت له: أنت تمنحني فكرة رائعة. وبدأت أقلب أفكاري وما تحت يدي من كتب ومعلومات، وسط متابعتي لتطور الأحداث السريع. •• إنني أكتب الآن مع أول ساعات الأربعاء 2 فبراير ولا أستطيع أن أقرأ ما هو ممكن يوم صدور المجلة السبت المقبل، فقد أصبحت الأحداث لا يصدقها عقل، كأنها الأحلام، إلا أنه وحتي السبت يوم الصدور، إذا كان نظام مبارك قد رحل فقد حدث التغيير. وإذا بقي فلابد أنه قد حدثت نقلة نوعية في مصر ومكاسب لا يمكن خسرانها، وقد سجلها التاريخ بحروف من نور لهذا الشعب العظيم الذي نفض عن هويته وإرادته كل ما شابها من علل، ونهض قويا فتيا رائعا يستعيد لنا الفخر، لكوننا نحمل الجنسية المصرية، أما علي صعيد التفكير الجماعي العام للجماعة الشعبية الوطنية في مصر، فقد انقسم لأمرين: الأول: إصرار غير مسبوق واستعداد للاستشهاد والفداء من أجل الحصول علي الحرية. والثاني: حزن شفيف عاطفي عميق لدي البسطاء الذين لا يريدون للرئيس مبارك رحيلا غير كريم وهو يعبر عن فكرتين: الأولي: هي غياب فكرة الرئيس والحياة السياسية عن تفكير معظم تلك الشريحة، حيث يقوم النظام الأبوي محل النظام السياسي في الذهنية العامة، وهو تفكير شرقي أصيل نظرا لعاطفيتنا ولغياب الممارسة الديمقراطية الحقيقية علي أرض الواقع، ولغياب الوعي بالدستور والإجراءات القانونية التي يحدث عبرها التسليم السلمي للسلطة، مما يجعل غياب الرئيس الأب يحدث خوفا مجهولا وإحساسا بالتمرد علي كبير العائلة، وهو المفهوم الذي كرسه الرئيس السادات.. الذي استمد مشروعية حكمه من الرئيس عبدالناصر الذي صاح في المنشية: أنا من علمتكم العزة.. أنا من علمتكم الكرامة.. إنه أيضا الوالد/ المعلم/ القائد العسكري الذي نسي كل كفاح الشعب الكريم قبل الثورة وحيوية التعدد السياسي وتأجج الروح الوطنية التي مهدت وصنعت ودعمت حركة الجيش في يوليو .1952 وتصور أنه هو معلم العزة والكرامة. •• والثانية هي أن مبارك والسادات وعبدالناصر جميعهم قيادات وطنية جاءت من المؤسسة العسكرية وقدمت مشروعيتها ووثقت محبة الجماهير لها بعدد من الإنجازات لها بعدد من الإنجازات الوطنية أبرزها فكرة الكرامة الوطنية والحقوق الاجتماعية المتكافئة والعزة لمصر الكبيرة القائدة المركزية التي جعلت منه نعيما خالدا، ومشروعات كبري كالسد العالي ومجانية التعليم وتوطيد أركان الدولة الحديثة، وأيضا فكرة التعددية السياسية التي أعادها السادات بغض النظر عن اكتمال تحققها إلا أنها أعادت لنا الفكرة حتي لو علي المستوي الشكلي ثم انتصار أكتوبر الذي لا أصدق أبدا أنه انتصار منقوص، كما يحلو لبعض من المثقفين أن يصفوه، وهو الانتصار الذي صنعه وشارك فيه المقاتل العنيد قائد القوات الجوية المنتصرة في أكتوبر 1973 محمد حسني مبارك. ثم استعادة طابا ومحاولات مضنية لإعادة بناء المرافق والخدمات الأساسية ووصلها بما يدور في العالم من حولنا. إلا أن الرؤساء في مصر ومنذ 1952 قد عملوا وفقا لفكرة الأب الذي لا يؤمن بحرية الأبناء، فكان أكثر ما جاء بمصر للانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والعلمية هو غياب الحريات العامة، والذي انعكس علي الإخلاص لفكرة المواطنة، وكرس للاعتقاد بأبدية القيادات مدي الحياة وساهم في غياب الأدوار الحقيقية للمجالس الشعبية والنيابية والنقابية، وكرس للاستبداد والتسلط حتي داخل مؤسسات الحب والزواج، وعلاقات العمل في الدوائر الخاصة والحكومية، والتي تعيد إنتاج ذهنية النظام الأبوي Fatherhood System لتسحبه علي جميع مناحي الحياة، مما أثر علي غياب الحريات الشخصية بالإضافة للحريات العامة. ومما لاشك فيه أن السنوات الأخيرة في مصر قد شهدت حريات واسعة في دائرة حرية الرأي والتواصل الإعلامي والإلكتروني عبر شبكة الإنترنت، مهدت لذلك الوعي العام الذي انتقل من المطالب الجزئية كالعمل والسكن والطعام والعلاج والأجور إلي المطالب السياسية الكبيرة التي ساهمت الحكومة الأخيرة بصمتها الطويل عن محاسبة الفساد والاستجابة للمطالبات الاحتجاجية، والوقوف عند ديمقراطية قل ما تشاء وسنفعل ما نشاء، وعدم تنفيذ أحكام القضاء، مما أفرز نوعا من الانفجار الثوري العفوي التلقائي الثابت عند موقف وطني يختار الموت كبديل لليأس، ولا يرفع شعارا دينيا ولا يعمل كتنظيم سري ولا يعرف أن كل من قتل في سبيل الحرية هو حي يرزق شهيد كريم عند ربه. جيل جديد نجح في تحلق الشعب بكل فئاته وطوائفه حوله، وتجاوز النخبة الباحثة عن هويات سياسية أو دينية أو الباقية في زمن مضي تحاول استعادته بشكل عبثي. وأصبح هؤلاء هم أصحاب منح شرعية الحكم في مصر. •• إذن لقد انتهت شرعية يوليو 1952 مع الرئيس مبارك، دعني إذن أستعيد معك يا صديقي محمد هاني و مع القارئ الكريم البيان الأول لثورة يوليو 1952 عندما كان اسمها حركة الجيش، كما أطلقت هي علي نفسها وهو يقول: «إن حركة الجيش ترمي إلي احترام الدستور، وإعادة الحياة الدستورية السليمة وإطلاق الحريات العامة، التي طال حبسها عن الشعب، حتي يستطيع التعبير عن رأيه والاشتراك بحكم نفسه بنفسه». فهل حدث ذلك؟! لا، فحتي 27 يوليو 1952 وفقا لكتاب السادات «يا ولدي هذا عمك جمال»، ووفقا لخالد محيي الدين في مجلة الطليعة 5791،ئ؟ سأل عبدالناصر مجلس قيادة الثورة: إلي ماذا ننحاز الديمقراطية أم الديكتاتورية؟! ولم يمنح أحد الديمقراطية وعودة البرلمان صوته إلا عبدالناصر مقابل سبعة أصوات، وهدد عبدالناصر بالاستقالة، لكنه عاد ليحكم قبضته ويسير بالسفينة، كما يريد بحثا عن المستبد العادل وكان التطبيق العملي، لذلك هو قتل «خميس والبقري» في كفر الدوار لتعبيرهما عن حريتهما وبدون محاكمة عادلة وبمحكمة عسكرية في الحياة المدنية. •• أما حكايات المعتقل السياسي التي دونها الكثيرون، ومن أظرفهم مذكرات محمود السعدني ولويس عوض فهي تدخل في باب الكوميديا السوداء، فقد لجأ نظام يوليو للاعتماد علي البوليس منذ .1952 وخاصة البوليس السياسي الذي كان قائما قبل 52 والذي تحول إلي المباحث العامة، ثم مباحث أمن الدولة، التي تدخلت في كل شئون الحياة في مصر في الثلاثين سنة الأخيرة، خاصة مع ازدهار الفتنة الطائفية والجماعات الدينية التي زرعها السادات علي يد محمد عثمان إسماعيل منذ 1972/1971 وقت أن كان رئيسا للجنة الأمن في الاتحاد الاشتراكي لضرب الولاء الاشتراكي والمفاهيم الناصرية، حيث ظهرت في الجامعة لافتات تقول: «حزب الله في مواجهة حزب الشيطان»! وليتراجع التدريب الديمقراطي في الجامعة وليسحب نفسه علي المجتمع الذي بدأ يلجأ للعنف كبديل عن الحوار. ولتتراجع الجامعة كمصنع لأحلام الحب والزواج والثقافة والفنون، مما أثر علي تألقها وعلي دورها التعليمي فيما بعد وتتواصل تلك المحاولات حتي الآن، وتتم إعادة إنتاج أحداث الزاوية الحمراء والخانكة السبعينية بصور مختلفة، حتي حادث كنيسة القديسين بالإسكندرية. ثم يبدأ زواج السلطة ليستمر فيما بعد، ويعيد إنتاج زواج السلطة ببنات الأرستقراطية والبرجوازية المنهارة في الستينيات، ويشتعل الفساد للفوارق الكبيرة في الدخول، ويتوحش الاحتكار وينهار التعليم وتتراجع الثقافة المصرية، وتفسد الأخلاق، وتلتبس المواقف ويحدث الاكتئاب القومي، ثم يعلن الجدد الطازجون الواعون الذين يعرفون العدو من الصديق الصابرون المبهجون أن شرعية يوليو 1952 قد انتهت وأن فصام المستبد الأب العادل قد انتهي، وأن دستورا جديدا سيحدث وأن انتخابات حرة نزيهة قادمة وأن مصر الكبيرة عادت.