يمثل التطور الجديد الذى شهدته قضية الأنبا سوريال، أسقف ملبورن المستقيل، نقطة فارقة فى مسار الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لأكثر من سبب، رغم كون واقعة الاستقالة لم تكن الأولى من نوعها فى تاريخ المؤسسة الدينية المسيحية، إذ سبق أن قبل البابا الراحل شنودة الثالث استقالة الأنبا متياس أسقف المحلة الكبرى، وذلك بعد خلافات كثيرة انتهت برحيل الأخير عن العمل الكنسى نهائيًا. ما حدث هو أن الكنيسة أعلنت قبول استقالة الأنبا سوريال رسميًا لتصبح ملبورن تابعة لإشراف البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية شخصيًا ومعه لجنة خاصة للمتابعة المستمرة لها. إعلان الكنيسة القبطية قبول استقالة أسقف ملبورن بأستراليا جاء ليحمل رسائل ودلالات كثيرة؛ أهمها تأصيل المبدأ الذى اعتمده البابا تواضروس ولا يزال يسير عليه وهو المكاشفة وعدم التستر على مخالفات، وهو منحى جديد تتخذه الكنيسة يحمل رسالة واضحة «لن نتوانى عن الإقرار بالخطأ حتى وإن كان المتورط أسقفًا»، وقد سبق أن أقر هذا المبدأ فى واقعة مشابهة وهى قضية مقتل الأنبا إبيفانيوس، عندما أعلن البابا أن الكنيسة بها يهوذا الذى أسلم سيده لقاتليه فى إشارة واضحة بأن القاتل من الداخل. بيان الكنيسة تضمن إشارة إلى ديون كبيرة تحملتها الإيبارشية جاءت نتيجة مشروعات كثيرة؛ مشيرًا إلى أنه احترامًا للقوانين الأسترالية تم استبعاد الأنبا سوريال منها، وهو ما يؤكد ما أثير سابقًا حول وجود مشكلات قانونية معه قد تحول دون استمراره فيها، وليس كذلك فحسب، بل أكد البيان أن الأنبا سوريال قد قدم استقالته بشكل «غير لائق» عبر موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك». عدَّد البيان أخطاء الأسقف تجاه إيبارشيته والتى تعد حسب القانون الكنسى «زوجته»، مشيرًا إلى غيابه لفترات طويلة تتجاوز ال6 أشهر وغيرها من تجاوزات أدت إلى قبول الاستقالة، كما لو أن الكنيسة أرادت إعلان أسباب تطليق الإيبارشية من أسقفها. فى نهاية البيان أعلنت الكنيسة انتهاء علاقة الأنبا سوريال بإيبارشيته لينتقل للخدمة فى أمريكا تحت كنف الأنبا سرابيون مطران لوس أنجلوس؛ مما يحمل تساؤلات كثيرة لم يوضحها البيان خاصة عن كيفية قبول خدمته فى إبراشية أخرى وعن إذا ما كان يستخدم بصفته أسقفًا أم راهبًا أم فقط ستكون خدمته مقصورة على صلوات القداسات فقط. البيان أغفل نقطة مهمة وهى أنه لم يوضح حقيقة الصيغة التى سينتقل وفقها الأسقف المستقيل لمكان خدمته الجديد فى لوس أنجلوس، فمن قوانين الكنيسة أنه لا يجوز انتقال الأسقف من إيبارشيته للخدمة فى مكان آخر. قبول استقالة الأنبا سوريال بهذه الطريقة ولتلك الأسباب يمثل تطورًا مهمًا فى تعامل البابا مع القوانين الكنسية، وهو ما طالب به الأنبا دانيال أسقف المعادى فى وقت سابق؛ حيث تحدث عن استقالة الأساقفة فى حالة عدم قدرتهم على الخدمة مع تقدم السن أو لأسباب مرضية وهى أسباب معمول بها فى طوائف أخرى. يفسر «هانى رمسيس» المحامى بالنقض» قبول استقالة الأنبا سوريال بقوله: الكنيسة تواجه طوفانًا من التطور المحيط بكنائس المهجر بعد أن ظلت لسنوات طويلة لا تعرف أى علاقة بحدود خارج مصر، وعندما خرج آباء الكنيسة إلى المهجر وتطورت الأمور تم إنشاء أديرة وظهرت الأجيال الثالثة والرابعة، أصبحت هذه الأجيال تنتمى للكنيسة كعقيدة وليس كجنسية، وأصبحت الكنيسة محاطة بقوانين الدول المقامة فيها وثارت أسئلة جديدة منها مثلاً ما يتعلق بجواز ترشيح أحد أبناء الكنيسة فى الخارج للكرسى البابوى وأصبح عليها استحداث أمور إدارية وتنظيمية تناسب الواقع الجديد. المفكر القبطى كمال زاخر يقول: «الكنيسة منذ عصر الرسل وحتى الآن يتبلور فيها هيكل إدارى يقف على قمته أسقف الكنيسة يعاونه كهنة وشمامسة، وحين بدأت موجات هجرة الأقباط إلى الغرب فى التزايد أصبح الأمر يتطلب وجود عدد كبير من الإكليروس لتغطية احتياجات هذه المناطق، مما استدعى المسارعة فى الرسامات، التى جاءت على حساب التدقيق، وربما التسكين المناسب فى عديد من المواقع، حتى إن البعض لم يمكث بالدير سوى شهور أو على الأكثر سنتين، وانعكس هذا على مستوى الخدمة وبروز العديد من المشاكل بين الرعية والكهنة ومع بعض الأساقفة، أو بين الإكليروس وبعضه، وامتد الأمر إلى رسامات الداخل، لنجد من يصلح لتدبير تجمع رهبانى يقام على إيبارشية، ومن يصلح لأسقفية عامة فكرية يرسم على إيبارشية بالصعيد، فظهر طيف آخر من الأزمات. وعلى جانب آخر تشهد الأديرة تراجع الشيوخ وذوى الخبرة مع تزايد قاصدى الرهبنة، لتتراجع الأديرة، وتتراجع المعاهد الإكليريكية، ليزداد الأمر التباسًا». وتابع زاخر: الأقباط حين هاجروا حملوا معهم كل متاعب وذهنية وأسلوب تعامل ومعيشة وصراعات بلد المنشأ، خاصة فى الموجات الأخيرة، أجيال الأزمة، وعلى رأسها الذهنية الفردية التى لم تختبر العمل الجماعى أو روح الفريق، ربما لذلك لم تنجح فى الائتلاف فى تجمعات مؤثرة، فى مجتمعاتها الجديدة. لم تكن هناك رؤية فى ترتيب منظومة الرعاية واعتمد الأمر على الرؤية الفردية لصاحب القرار، وانعكس هذا على الاختيارات والتكليفات، فجاءت بعض الاختيارات من باب المجاملة رغم عدم إجادتهم للغة البلد الموفد إليها، أو دراسة طبيعته وثقافته وطرق المعيشة به، واعتبر البعض أن الاختيار بمثابة مكافأة لموقف أو ربما مكافأة نهاية خدمة فى مزاحمة فجة لمهام الخدمة الأساسية. ولعل أبرز التحديات التى يواجهها كثير من الإكليروس فى بلاد ومجتمعات المهجر افتقار القدرة على التواصل الذهنى والاجتماعى والإصرار على نقل الخبرة المحلية وفرضها على مجتمعات الهجرة، وغياب الإعداد الجيد روحياً وإدارياً وعلمياً، لغياب المعاهد أو حتى الأقسام المتخصصة للقيام بهذا سواء فى الأديرة أو الإكليريكيات. ويطالب زاخر باعادة هيكلة الهرم الإكليروسى مع استقرار وتوسع إيبارشيات المهجر، فى الغرب الأمريكى الأوروبى، وفى أمريكا اللاتينية وكذلك أستراليا، وفى العمق الأفريقى أو الآسيوى، تبرز ضرورة إعادة هيكلة وتصميم الهرم التدبيرى الكنسى، وهى خبرة اجتازتها كنائس تقليدية أرثوذكسية أخرى وقبلها الكنيسة الكاثوليكية. وعلى عكس ما يبدو، فإن من يقرأ تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية سيجد أنها تمتعت فى فترات تاريخية سابقة بمرونة كبيرة فيما يخص القرارات الإدارية والتنظيمية والكنسية أيضًا، فقد أصدر البابا بطرس السادس البطريرك ال104 قرارا بإبطال الطلاق تمامًا ومنعه لأى سبب كان، حيث أخذ منشور من الخليفة ينص على عدم طلاق الأقباط إلى أن جاء البابا مكاريوس الثالث البطريرك ال114 وقام بوضع قوانين الأحوال الشخصية، حيث أجاز الطلاق لعلة الزنى. البابا كيرلس الرابع أبو الإصلاح البطريرك ال110 أيضًا أحدث طفرة فى قوانين الزواج منها منع إجراء عقد الأملاك عند إجراء الخطوبة حتى تترك فترة للتعارف بين الخطيبين؛ كما حذر الكهنة من تزويج القاصرات وتزويج المترملات المتقدمات فى السن من الشباب الصغار ليكون النواة لتحديد فارق السن بين الطرفين فى تلك الحالة التى لا تتعدى 5 سنوات، كذلك حث الكهنة على الحصول على موافقة الزوجين قبل الزواج وأقام مدارس خاصة بالبنات، وذلك فى القرن التاسع عشر والتى كانت المرأة فى الخارج لا تستطيع أن تذهب للمدرسة. أما البابا يؤانس السابع عشر البطريرك ال105 فكان صاحب الفضل فى تنسيق العلاقات مع الكنيسة الكاثوليكية بعد انتشارها فى مصر، حيث اتفق مع الطائفة الكاثوليكية على عدم نشر المذهب بين المصريين، وكذلك التزم هو أيضًا بذلك مؤكدًا أنه لكل شخص حرية اختيار الكنيسة التى ينتمى إليها، كما أصدر قرارا بأن كل من تزوج من الطائفة الكاثوليكية يجوز أن يحضر القداسات فى أى كنيسة منهما، ولكن فى المقابل قام بمنع إتمام أى زيجات بين الطائفتين نهائيًا. أما البابا يؤانس الطوخى البطريرك ال103 فقد أصدر قرارًا صادمًا فى وقته، حيث سمح بممارسة سر التناول فى المنازل، وذلك للمرضى والمقعدين والذين لا يستطيعون الذهاب للكنيسة لأى سبب أيًا كان، وقطعًا مثل هذا القرار فى تلك الحقبة الزمنية كان يعد صدمة كبيرة للتيار التقليدى إلا أنها تتم الآن بمنتهى الانسيابية والهدوء. وفى النهاية يبقى السؤال الأهم: كيف تطلب الكنيسة من رعاياها فى الداخل أن تتفهم طبيعة المهجر وهم فى الأساس يفتقرون للمرونة الكافية لتقبل متطلبات التطور على المستوى الداخلى؟