في 5 بنوك.. سعر الريال السعودي مقابل الجنيه بأول أسبوع بعد إجازة العيد    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الجمعة في الأسواق (موقع رسمي)    الإسكان: 900 حملة لمنظومة الضبطية القضائية للتأكد من المستفيدين لوحداتهم السكنية    أوكرانيا: ارتفاع قتلى الجيش الروسي ل457830 جنديا منذ بدء الحرب    مسؤول إسرائيلي: الهجوم داخل إيران رسالة عن قدرات تل أبيب على ضرب عمق البلاد    "18 لاعبا".. شوبير يكشف أسماء مصابي منتخب مصر والعائدين منهم قبل تصفيات كأس العالم    "الزمالك مش أول مرة يكسب الأهلي".. إبراهيم سعيد يهاجم عمرو الجنايني    جنوب سيناء تتعرض لرياح شديدة محملة بالرمال- صور    بسبب سرعة الرياح.. وقف رحلات البالون الطائر في الأقصر    ميرنا نور الدين تخطف الأنظار بفستان قصير.. والجمهور يغازلها (صورة)    مراسلة «القاهرة الإخبارية» بالقدس: الضربة الإسرائيلية لإيران حملت رسائل سياسية    تعديلات على قانون المالية من نواب الحزب الديمقراطي    «القابضة للمياه» تطلق حملات توعية للمواطنين لترشيد الاستهلاك بالشرقية    ألونسو: مواجهة ريال مدريد وبايرن ميونخ ستكون مثيرة    مساجد شمال سيناء تتحدث عن منزلة التاجر الصدوق    المشاط: أكثر من 900 مليون دولار تمويلات تنموية ميسرة لدعم منظومة التأمين الصحي الشامل    "التعليم": "مشروع رأس المال" بمدارس التعليم الفني يستهدف إكساب الطلاب الجدارات المطلوبة بسوق العمل    أزمة نفسية.. تفاصيل إنهاء فتاة حياتها بحبة الغلة في أوسيم    إصابة جنديين إسرائيليين بجروح جراء اشتباكات مع فلسطينيين في طولكرم بالضفة الغربية    إيرادات قوية ل فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة (مفاجأة)    مخرج «العتاولة» عن مصطفي أبوسريع :«كوميديان مهم والناس بتغني المال الحلال من أول رمضان»    طلب إحاطة لوزير الصحة بشأن استمرار نقص أدوية الأمراض المزمنة ولبن الأطفال    وزير المالية يعرض بيان الموازنة العامة الجديدة لعام 2024 /2025 أمام «النواب» الإثنين المقبل    انخفاض الأسهم الأوروبية مع تراجع أداء قطاعي البناء والصناعة    «التوعوية بأهمية تقنيات الذكاء الاصطناعي لذوي الهمم».. أبرز توصيات مؤتمر "تربية قناة السويس"    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 19 أبريل 2024.. «الدلو» يشعر بصحة جيدة وخسائر مادية تنتظر «السرطان»    جدول مباريات اليوم.. ظهور مرموش.. افتتاح دوري "BAL" السلة.. ولقاء في الدوري المصري    أمريكا تعرب مجددا عن قلقها إزاء هجوم إسرائيلي محتمل على رفح    «العشرية الإصلاحية» وثوابت الدولة المصرية    بسبب ال«VAR»| الأهلي يخاطب «كاف» قبل مواجهة مازيمبي    الدولار على موعد مع التراجع    أخبار الأهلي : موقف مفاجئ من كولر مع موديست قبل مباراة الأهلي ومازيمبي    أحمد كريمة: مفيش حاجة اسمها دار إسلام وكفر.. البشرية جمعاء تأمن بأمن الله    طلب عاجل من ريال مدريد لرابطة الليجا    مخرج «العتاولة»: الجزء الثاني من المسلسل سيكون أقوى بكتير    شريحة منع الحمل: الوسيلة الفعالة للتنظيم الأسري وصحة المرأة    فاروق جويدة يحذر من «فوضى الفتاوى» وينتقد توزيع الجنة والنار: ليست اختصاص البشر    مسؤول أمريكي: إسرائيل شنت ضربات جوية داخل إيران | فيديو    منهم شم النسيم وعيد العمال.. 13 يوم إجازة مدفوعة الأجر في مايو 2024 للموظفين (تفاصيل)    محمود عاشور يفتح النار على رئيس لجنة الحكام.. ويكشف كواليس إيقافه    #شاطئ_غزة يتصدر على (اكس) .. ومغردون: فرحة فلسطينية بدير البلح وحسرة صهيونية في "زيكيم"    انهيار منزل من طابقين بالطوب اللبن بقنا    تعديل ترتيب الأب.. محامية بالنقض تكشف مقترحات تعديلات قانون الرؤية الجديد    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    الإفتاء تحسم الجدل بشأن الاحتفال ب شم النسيم    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    أحمد الطاهري يروي كواليس لقاءه مع عبد الله كمال في مؤسسة روز اليوسف    سكرتير المنيا يشارك في مراسم تجليس الأنبا توماس أسقفا لدير البهنسا ببني مزار    بسبب معاكسة شقيقته.. المشدد 10 سنوات لمتهم شرع في قتل آخر بالمرج    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء للمريض في ساعة استجابة يوم الجمعة.. من أفضل الأوقات    جريمة ثاني أيام العيد.. حكاية مقتل بائع كبدة بسبب 10 جنيهات في السلام    إصابة 4 أشخاص فى انقلاب سيارة على الطريق الإقليمى بالمنوفية    وزير الخارجية الأسبق يكشف عن نقاط مهمة لحل القضية الفلسطينية    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    شعبة الخضر والفاكهة: إتاحة المنتجات بالأسواق ساهمت في تخفيض الأسعار    أخبار 24 ساعة.. مساعد وزير التموين: الفترة القادمة ستشهد استقرارا فى الأسعار    فحص 1332 مواطنا في قافلة طبية بقرية أبو سعادة الكبرى بدمياط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إحسان ولدى رئيسًا للتحرير!

الآن وأنا أجلس فى مكتبى لأكتب الحلقة الأخيرة من هذه الذكريات أرى كلما انفتح باب غرفتى.. إحسان فى غرفة مكتبه الزرقاء قد خلع الجاكتة، وفك الكرافات، وعلى وجهه تلك «التكشيرة» التى يلبسها إذا استغرق فى العمل، كأنه يعصر ذهنه، أو كأنه يريد أن يذوب فى الورق الذى أمامه.. ولا أملك نفسى حين أنظر إليه من الابتسام، وخاطرى تطوف به عشرات من الصور والأحداث التى كان إحسان موضوعها، أو كان بطلها، وتقف ذاكرتى واجمة ساهمة عند حادث صغير، وإحسان لم يزل ابن ستة شهور.
كنت فى ذلك الوقت لاأزال شابة صغيرة السن، همى كله منصرف فى المستقبل الذى أحلم به، واسمى الذى أريد أن أبنيه، والنشاط الذى يكاد أن ينسينى نفسى،وبيتى،وكل ما يتعلق بحياتى الخاصة.
وفجأة خرجت المرضعة التى كانت تعتنى بإحسان.. واضطررت إلى أن أستخدم فى طعامه اللبن العادى الذى يباع فى الأسواق.. وإذا به يصاب بتلبك فى المعدة خطير، فهو يشحب ويهزل وتسكن حركته، ويضعف الخيط الذى يربطه بالحياة.
ووجدت نفسى أنسى العمل الذى أنهض به، والمجد الذى أبحث عنه، وأنسى كل شيء إلا أننى أم، وأن ابنى فى خطر، وتضاءلت كل الأحلام الرائعة التى تطوف بى أمام حلم هو أن يعيش ولدى،وتبدد كل نشاطى للعمل الكثير غير عمل واحد هو أن أعنى بهذا الابن، وأن أبذل له كل ما أملك.
وأسرعت به إلى الطبيب، وكان الدواء الذى وصفه له يقتضى منّى أن ألازمه خمسة وثلاثين يومًا لا أبعد فيها عن فراشه شبرًا واحدًا، ولم أشعر بضجر من البقاء فى البيت طيلة هذه الأيام الخمسة والثلاثين، ولم أشعر بفراغ وأنا أنسى مشاكل الحياة العامة لأحصر تفكيرى فى هذا الفراش الصغير.. لقد اكتشفت أن العناية بابنى لا تقل خطرًا ولا جلالاً عن الإيمان بمبدأ العمل لأى غاية كبيرة، لأن الكفاح من أجل حياته وصحته ومستقبله لا يقل شرفًا عن الكفاح عن أى عقيدة أخرى.. ومن يومها والبيت يشغل من اهتمامى قدر ما يشغله عملى وجهدى وكل متاعبي!.
ولست أنسى يوم فتح إحسان فمه لأول مرة ليبكى بعد أن أسكته المرض هذا الزمن الطويل، وجريت إلى الطبيب أقول، إنه يبكى.
فقال لي: أبشرى.. إنها علامة الشفاء.
لقد شعرتُ بعدها أن أبهر أحلامى قد تحققت، وأن جهادى قد تكلل بالنجاح وامتلأت حياتى إلى آخرها، وصرتُ أفرح إذا بكى،وأقلق إذا هدأ.
ثم أذكره وقد أصبح تلميذًا فى المدرسة الابتدائية، يذهب إلى المدرسة ويعود منها فى بنطلونه القصير، وفى يمينه حقيبة الكتب، فإذا جاء يوم الجمعة أعطيته عشرة قروش لينفقها فى نزهته وهى عشرة قروش ظل يتمسك بأخذها كل أسبوع حتى بعد أن كبر، وتزوج وأصبح يكسب مئات الجنيهات.
وكان إحسان وهو فى هذه السن يجد كل الأمهات مقيدات فى البيوت ما عدا أمه.. وكان هذا يدهشه، فكلما رآنى أتهيأ للخروج مع الصباح سألني:
- أنت رايحة فين؟
- رايحة الشغل.
وأرى أنه يغضب لذلك، فأقول له:
- بكره لما تكبر وتخلص تعليمك تبقى تشتغل مطرحى وأنا أقعد فى البيت.
ولم يكن فى سن تتيح له أن يدرك هذا، ولكن هذه الكلمة كانت حافزًا دائمًا له على الاجتهاد فى دراسته.. والاحتفاظ بالنجاح كل عام، حتى ينتهى من الدراسة ويعمل بدلاً منى،ومازلت أحتفظ بخطاب أرسله إلى وأنا على سفر وهو فى سن السابعة، يعتذر فيه عن إرسال خطابات ويقول: «أرجو أن تعرفى أنى أريد أن أكتب لك كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة ولكن المدرسة والمذاكرة اللى على شانك أنا مجتهد فيهم بيعطلونى وكل يوم أقول النهاردة أذاكر، وبكره أكتب الجواب لماما العزيزة التى أحبها أكثر من كل شيء».
وقد ظلت هذه الفكرة مسيطرة عليه حتى كبر فأصبحت عقيدة وأصبح من رأيه أن المرأة للبيت فقط لا للعمل.
أما أول احتكاك له بالسياسة والصحافة فكان وهو تلميذ فى مدرسة فؤاد الأول الثانوية وكانت مظاهرات الطلبة سنة 1935 تجوب الشوارع هاتفة بائتلاف الزعماء وإعادة الدستور، وكنتُ جالسة بمكتبى بالجريدة اليومية حتى دخل عليّ وقد احتقن وجهه وعلى خده الأيمن آثار كرباج ذى ثلاث شعب، قد أزرقت خطوطه واحتبس خلفها الدم.. وسألته: ما هذا؟
فقال: عسكرى إنجليزى.
وعرفت أنه كان يسير فى المظاهرات فلم أعترض على ذلك، وجهدت ألا يبدو عليّ أننى اهتززت لرؤيته على هذه الصورة أمّا هو فلم يبك قط، وقد ورث هذه العادة عنّى.
ومن يومها بدأ يشترك فى نشاط الطلبة السياسى والوطنى وكان يجلس معى ويستمع إلى آرائى وإلى الأنباء السياسية ثم يعود فى الصباح التالى إلى مدرسته ليشعل ثورة.
أمّا أول اشتغاله بالصحافة.. فقد حدث أن سافرت فى العطلة الصيفية إلى الإسكندرية وتصادف أن مرض مراسل «روزاليوسف» فى الإسكندرية فجأة فى حين أن النشاط السياسى كله مُركز هناك، فاتصلت بإحسان تليفونيًا وطلبت منه أن يحاول الحصول على بعض الأخبار، وأن يرسلها إلى فورًا.
وعرفت بعد ذلك القصة.
فقد ذهب من فوره إلى فندق وندسور الذى كان ملتقى كبار الساسة فى ذلك الوقت.. ووجد أمامه الدكتور حسين هيكل جالسًا فتقدم إليه وحياه ثم قال له ببساطة:
أنا عايز أخبار.
ودهش الدكتور هيكل من هذا التلميذ الصغير الذى يطلب منه أخبارًا بهذه الطريقة وقال له: أخبار إيه يا ابني؟
فقال إحسان: ماما قالت: هات أخبار!
وزادت دهشة الدكتور هيكل، حتى علم أنه ابنى.. فضحك كثيرًا ورحّب به.. وأرسل لى يومها أخبارًا كثيرة.. ملأت سلة المهملات.
وبدأ فى هذه المرحلة يكتب من حين لآخر قصة، أو حادثة أو شيئًا من هذا القبيل، كنت أختار الصالح منه وأنشره له تشجيعًا، بإمضاء «سونة» فهو أول توقيع صحفى له.
وصار إحسان كلما اقترب من نهاية دراسته يزداد حماسه لهذه النهاية.. فكان فى كلية الحقوق إذا اقترب الامتحان حبس نفسه فى البيت وحلق شعر رأسه كله حتى يضمن ألا يخرج ويترك دراسته مهما كانت المغريات.. وكنت إذا سألته لماذا يحلق شعره هكذا، قال ضاحكًا: علشان البنات متعاكسنيش يا ماما.
وفرغ إحسان من امتحان الليسانس وعاد من الكلية مسرعًا قبل أن تظهر النتيجة فاحتل مكتبًا فى المجلة، وأعلن نفسه رئىسًا للتحرير.. ولما اعترضتُ على ذلك قال لي: أما أنا كنت بتعلم علشان إيه؟ مش علشان أشتغل بدالك وأنت تستريحى.
وحاولت أن أقنعه بأنه لابُدّ له من بعض التمرين قبل أن يرأس تحرير المجلة ولكنه أبَى ورفض أن يعمل فى «روزاليوسف» إلا رئىسًا للتحرير.. ولما أخذت عليه هذا العناد، قال لى كالعادة: هوّه أنا جايب العناد من برّه؟
وكأنه أراد أن يثبت لى أنه يستطيع أن يمضى بمفرده، وأنه لا يطالب بذلك لمجرد أنه ابن صاحبة المجلة، فذهب إلى التابعى الذى كان يصدر «آخر ساعة» فالتحق بها، وكنت أعطيه لقاء تمرينه فى «روزاليوسف» ستة جنيهات فأعطاه التابعى خمسة وعشرين.
وانتظرتُ أن يعود بعد قليل.. ولكنه لم يعد، فقد نجح هناك وبرز، وأصبح عنصرًا مُهمًا.. واتصلتُ بالتابعى بالتليفون أعاتبه- أو بالأصح أتشاجر معه- لأنه يغرى ابنى على العمل معه.. وقلت له: إننى أستطيع أن أعطيه المرتب الذى تدفعه له وأكثر، ولكننى أريده أن يتمرن.
وأعترف بأننى كنت أهاجم التابعى بشدة على تمسكه بإحسان وأنا مسرورة فى دخيلة نفسى.. فقد كنت أمام دليل قاطع على أن ابنى قد نجح، وأنه يستطيع أن يقف على قدميه.. ولم يبق هناك أكثر من شهرين، ثم عاد.
وفى سنة 1945 عاد إحسان إلى «روزاليوسف» وكتب فيها أول مقال نُشر فى الصحف المصرية ضد اللورد كيلرن، وكان النقراشى رئيسًا للوزارة فصادر المجلة وقبض على إحسان وأودعه السجن، وقد حاولت أن أتحمل المسئولية نيابة عن ابنى وأن أدخل السجن بدلاً عنه، ولكن إحسان ثار، وشهد مكتب وكيل النيابة مناقشة حادة لا أعتقد أن تاريخ الصحافة فى العالم شهد مثلها.. مناقشة بين أم وابنها كل منهما يريد أن يتحمل المسئولية، وكل منهما يريد أن يدخل السجن.
وانتصر وكيل النيابة لابنى وحمّله المسئولية وأودعه السجن وعندما خرج عينته رئىسًا للتحرير وأقمت له فى هذه المناسبة حفلة كبيرة سمحتُ له خلالها أن يدخن أمامى.. للمرّة الأولى.
وفى هذه المناسبة- مناسبة تولى ابنى رئاسة التحرير- كتبتُ له خطابًا مفتوحًا نُشر فى نفس الأسبوع نصه:
«ولدى رئىس التحرير
- عندما اشتغلت بالصحافة وأسستُ هذه المجلة كان عمرك خمس سنوات، وقد لا تذكر أنى حملت العدد الأول ووضعته بين يديك الصغيرتين وقلت:
«هذا لك»!
ومرّت عشرون عامًا قضيتها وأنا أراقب فى صبر وجلد نمو أصابعك حتى تستطيع أن تحمل القلم، ونمو تفكيرك حتى تستطيع أن تقدر هذه الهدية التى كونتها بدمى وأعصابى خلال سنين طويلة لتكون اليوم لك.
والآن وقبل أن أضعك أمامى لأواجه بك الناس، دعنى أهمس فى أذنيك بوصية أم إلى ابنها ووصية جيل إلى جيل:
- مهما كبرت ونالك من شهرة، لا تدع الغرور يداخل نفسك.. فالغرور قاتل.
- كلما ازددت علمًا وشهرة فتأكد أنك مازلت فى حاجة إلى علم وشهرة.
- حافظ على صحتك، فبغير الصحة لن تكون شيئًا.
- مهما تقدمت بك السّن فلا تدع الشيخوخة تطغى على تفكيرك.. بل كن دائمًا شاب الذهن والقلب وتعلق حتى آخر أيامك بحماسة الشباب.
- حارب الظلم أينما كان، وكن مع الضعيف على القوى ولا تسأل عن الثمن.
- حاسب ضميرك قبل أن تحاسب جيبك.. ولعلك فهمت.
- كن قنوعًا، ففى القناعة راحة من الحسد والغيرة.
- ثق أنى دائمًا معك بقلبى وتفكيرى وأعصابى.. فالجأ إليّ دائمًا.
وأخيرًا.. دع أمك تسترح.. قليلاً!».
ولا أذكر بعد ذلك إن إحسان خالفنى فى رأى،فنحن متفقان عادة فى الآراء السياسية، وقلّ أن نختلف إلا فى التفاصيل التى لابُدّ فيها من الخلاف، ولقد يحدث أن يشتد بيننا النقاش فأثور عليه وأستعمل سلطة الأم وأقول له: أنا عايزة كده! وهنا يستسلم إحسان ويقول: حاضر يا ماما!
وتقع هذه الكلمة فى نفسى موقعًا سعيدًا، لا شك تعرفه كل أم، ولربما أرجع إلى نفسى فأجده على صواب، فأترك له حرية التصرف.
وإذا قلت إننا متفقان فى كل المسائل المهمة، فإننى أستثنى من ذلك مسألة واحدة، هى قضية المرأة، فمازال إحسان يعتقد أن المرأة للبيت وأنها لا تستطيع أن توفق بين بيت وعمل وأنها مهما تعلمت وتحررت ونجحت فإنها آخر الأمر فى حاجة إلى رجل تتبعه، وتكرّس حياتها له.
وكثيرًا ما أناقشه فى ذلك.. فإذا ضربت له مثلاً بنفسى قال وهو يضحك: أنت راجل يا ماما.
فأحتج على ذلك، وأقول له: كما قال مصطفى كامل: لو لم أكن سيدة لوددت أن أكون سيدة!
وقد كانت آخر مناقشة لى معه فى ذلك بمناسبة قصته الأخيرة «أنا حرة»، فقد قدم لنا فيها صورة فتاة ذكية قوية الشخصية مستقلة الرأى جاهدت حتى تحررت من عبودية المرأة التى كانت شائعة منذ سنين، وجاهدت حتى رفضت أن تتزوج زواجًا لا خير لها فيه، زواجًا تكون فيه سلعة يشتريها رجل، وجاهدت حتى تعلمت وتخرجت فى الجامعة، وحتى التحقت بعمل ونجحت فيه نجاحًا مرموقًا.. ثم فجأة، إذا بنا نرى هذه الفتاة الذكية القوية تعدل فى خط حياتها كله لتهب نفسها لرجل، ولتحصر إيمانها فى هذا الرجل ولتصبح- وأستطيع أن أقول- عبدة لهواها بهذا الرجل.. حتى إنها لترضى بأن تعيش معه ثمانى سنوات بغير زواج.
ولم أتفق معه على هذه النهاية، التى رأيتها غير معقولة، ورفضت أن أسلم بأن فتاة بهذه الصورة ترضى آخر الأمر بهذه النهاية، وأقرب إلى المنطق أن تحب الرجل إذا أحبته، حب الزميل المساوى لزميله فى الحقوق، وأن تجمع بين عملها وبيتها وأن تكون علاقتها برجلها شرعية لا تخجل منها ولا تستخفى بها.
وليس فى هذا الرأى كما يرى البعض أى إنكار أو تقليل من أهمية الرسالة التى تضطلع بها المرأة فى البيت، فإن مسئولية البيت وتربية الأبناء ومسئولية العمل فى رأيى واحدة، وهى مسئولية الحياة والنهوض بالمجتمع، وارتفاع المرأة إلى مستوى الرجل فى حقوقه يرفع من قيمة عملها فى البيت، لأنه يجعل عملها فيه عمل الشريكة لا عمل التابعة.
وأترك للقراء أن يحكموا فى هذا الخلاف بينى وبين ابنى..
وبعد.. فماذا أقول وأنا أختم هذه الذكريات؟
إن العمل السياسى لذيذ، ونبيل.. لذيذ لأنه حافل بالتقلبات والتطورات بل الدراسات.. فأنت فيه تدرس الأشخاص والأشياء والموضوعات.. تدرس الأفراد والمجموعات.. تدرسهم نفسيًا وفكريًا واجتماعيًا.. لتستطيع أن تسوسهم وأن تتأثر بهم وأن تؤثر فيهم.
والذين يقولون إن السياسة شيء قذر مخطئون ، فإذا كان هناك ساسة قذرون فإن هذا لا يشين السياسة نفسها، ولا يلوثها، وماذا تكون السياسة، أليست هى خدمة الوطن والمجتمع فى أعلى صورة وأشملها؟.. أليست السياسة صراعًا يدور حول حريات الناس وحقوقهم.. وكفالة العيش الرغيد والكرامة الموفورة لهم؟ أليس التعليم والإنتاج والتعمير والإصلاح.. بل الترفيه أيضًا.. أليست كلها أشياء يجب أن توجهها سياسة؟
أمّا الصحافة.. فإنها اليوم سلاح السياسة الأول.. وما قلته عن السياسة ينطبق على الصحافة.. فالصحفى القذر لا يمكن أن يسيئ إلى المهنة ذاتها، والرأى العام يميز بسهولة بين أنواع الصحفيين والكُتّاب، ولربما أقبل على قراءة ما يكتبه أحدهم، دون أن يتأثر به، لأنه لا يحمل له فى نفسه أى ثقة أو احترام، وقد أثبتت الصحافة دائمًا أنها أقوى مما يظن الكثيرون.
على أننى يجب أن أذكر أن الصحافة لم تتقدم فى جوهرها بالنسبة التى تقدمت بها فى طباعتها وإخراجها وصناعتها.. وأكبر ما يفت فى عضد الصحافة اليوم هو ما يدب بينها أحيانًا من خلاف، والمنافسة التى كثيرًا ما تخرج عن حدود الزمالة إلى دائرة الحسد والمهاترات، ولو اختفى ذلك لأصبحت الصحافة ماردًا عملاقًا لا تقف أمامه قوة أخرى.
ثم..
ثم إننى أحب أن أعترف بأنى لم أكتب فى هذه الذكريات كل شيء، وبأن ما تركته منها كثير، ومن يدري؟ لعل الظروف فى المستقبل تتيح لى أن أعود إلى هذا الحديث، أو لعلى أترك هذه البقية ليكتبها لكم إحسان..
الفصل الأخير من كتاب
«ذكريات.. بقلم: فاطمة اليوسف»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.