الشمس قاربت على المغيب.. الجميع يسرع الخطى للوصول إلى المنزل قبل مدفع الإفطار ورفع أذان المغرب.. المشهد يبدو غير مألوف.. ثمانية أطفال أعمارهم لا تتعدى 12 عامًا.. يقفون على قارعة الطريق بالقرب من مسجد الحسين وبصوت بريء يدعون المارة «اقترب هنا مائدة إفطار الصائم». «أطفال الخير» بالقرب من ساحة الحسين يجذب انتباه المارة، فقبل توقيت أذان المغرب، يقف الأطفال الصغار يدعون المارة والباعة والعمال وغيرهم إلى مائدة الرحمن التى يشرفون عليها بمباركة أسرهم، فيستجيب لهم النساء والرجال الكبار والشباب والأسر. «لؤى محمد» طفل لم يتعد عمره 10 سنوات، يرتدى ملابس متناسقة يحرص على القيام بدوره فمنذ الخامسة مساءً، يستعد لتقديم الطعام على المائدة التى يشرف عليها هو وأصدقاؤه الصغار، اقتربنا للتعرف عليه وكيف يدير هو وأصدقاؤه السبعة المائدة فى إحدى الحارات الضيقة أمام مسجد الحسين. قال لؤى وهو يحمل على كتفه الصغير كمية كبيرة من الحصر لفرشها للزائرين: «منذ عامين أشارك فى تقديم مائدة الرحمن للصائمين، والدى ووالدتى هما من جلسا معى وتحدثا معى عن فضل العمل الذى أقوم به فى رمضان، وخاصة أن المائدة فى زقاق الحسين الضيق يشارك فى إعدادها العشرات من الأطفال الصغار غيري، بكل حب نشارك ونتعلم خدمة المحتاجين والصائمين، ورغم أننى طفل وحيد فى منزلي، إلا أن والدى ووالدتى لم يطلبا منى أى مشاركة سابقة فى أى عمل سوى مائدة الرحمن». لؤى رغم صغر سنه، يتحدث بلباقة عالية وحب كبير لما يقوم به، فرد الحصر على الأرض وهو يتحدث وجلسنا ليكمل حديثه: « أتواجد يوميًا قبل موعد الإفطار بثلاث ساعات على مدار العامين لم أنقطع عن مهمتى التى علمتنى الكثير من الحب والعطاء للآخرين تعلمت ترتيب المائدة للزوار بشكل كامل، فأشارك بفرد الحصر فى الحارة ووضع الموائد الخشبية الصغيرة وترتيب أطباق الطعام عليها فى شكل وجبات لكل فرد، ووضع المشروبات الباردة والمياه على الطاولة البسيطة على الأرض، وبعد الانتهاء من ترتيب المائدة كاملة، أحرص على دعوة الناس للإفطار، أحيانًا يتعجب المارة من أننى طفل واقف لدعوته للإفطار ، وتكون الابتسامة والدعوات خير رد من الكبار، وتشجيعى على دورى فى المشاركة، وبعد العودة فى توقيت العشاء إلى منزلى أروى لوالدى ووالدتى تفاصيل يومى مع مائدة الرحمن فى الحسين». ويضيف لؤي: ما يشجعنى على الاستمرار فى العمل فى المائدة أنها الوحيدة بين موائد الرحمن يقوم على خدمة الصائمن فيها أطفال فقط ماعدا ثلاثة رجال يشرفون على ما نقدمه ويضعون الطعام من الأوانى الساخنة الضخمة فى أطباق ونقوم نحن بتوزيعها على المائدة بشكل مرتب، العام الماضى كنا 4 أطفال فقط فى خدمة المائدة، والعام الحالى 8 أطفال، وجميعنا من أبناء تجار حى الحسين». أما مصطفى عبدالحميد والذى يبلغ من العمر 11 عامًا فمهمته إعداد العصائر قبل موعد الإفطار بساعة، تجد أمامه إناءً ضخمًا وبه عصير للفواكه يقول: «دورى هنا العصائر فقط، مسئول عنها مسئولية كاملة، كل يوم أختار نوع عصير مختلفًا عن اليوم السابق، فقد علمنى الكبار هنا ووالدتى المقادير الصحيحة لإعداد العصائر، وأصبحت محترفًا، العمل تطوعى ملىء بالخير وجميع الأطفال هنا سعداء بهذا الدور، وسنظل نشارك فيه كأطفال حتى نصبح كبارًا ونكون مسئولين عن موائد أخرى فى الحسين، فعمل الخير لا يتوقف، والخير أمر نتعلمه من أسرنا، فنحن فى سعادة على مدار 30 يومًا مع البسطاء، والأطفال المحتاجون يحضرون لتناول الوجبات الساخنة وبيننا وبينهم صداقة». وتابع مصطفى: أقدم ما يقرب من 100 كوب عصير يوميًا بيدى بداية من إعدادها وتبريدها بالثلج حتى يتناولها الصائم على مائدة الرحمن، كما أقف فى الشارع وقت الإفطار بعد تزويد المائدة بالعصائر لتوزيع ما تبقى فى حوزتى من العصائر على المارة. أما أحمد حسن فرغم عمره الذى لا يتجاوز ال 11 عامًا، وجدناه يحمل إناءً ضخمًا من الأرز يسير به من مكان إعداد الطعام ليضعه بالقرب من المائدة لتوزيعه على المائدة، يقول: «أول عام أشارك فى إعداد مائدة الرحمن، فأنا أعمل هنا فى منطقة الحسين على مدار العام دون توقف لحاجتى للعمل لأن أسرتى بسيطة وكل فرد يحاول تحمل نفقاته، لذلك أقدمت على العمل فى نهاية اليوم بعد العام الدراسي، ورؤيتى للأطفال هنا على مائدة الرحمن شجعتنى على المشاركة، وتطوعت معهم فبعد انتهاء عملى آتى إلى هنا قبل الإفطار أقف بجوارهم للمساندة، وحددت ثلاثة أيام فقط فى شهر رمضان الكريم للإفطار مع أسرتى فى المنزل، التى فرحت بذلك وشجعتني على عمل الخير، كما أتناول إفطارى وسط زوار المائدة أيضًا، وجميع الأطفال هنا سواسية ليس هناك فرق بين ابن تاجر وعامل، الجميع يشجعنا فى نهاية اليوم على إتمام المهمة». ويضيف: «مهمتى توزيع أطباق الأرز على الحاضرين فى أطباق من البلاستيك بمقدار ثابت، فأقوم بتقديم أكثر من 100 طبق أرز يوميًا، وأشارك فى جمعها مرة أخرى وتنظيف المكان مع الأطفال». أما عبد الرحمن على صاحب ال9 سنوات، فجاءت مشاركته بتشجيع من والده الذى يشرف على ما يقوم به، قائلًا: «والدى يشجعنى على ذلك، فهو يرانى أجتهد فى عمل الخير وهو أمر يفتخر التجار هنا بمشاركة أبنائهم فيه، حيث إننى أشارك فى المائدة منذ 3 سنوات، لكن العام الحالى مسئوليتى على المائدة أكبر من الماضي، فأنا المسئول عن تقديم الطبق الرئيسى لوجبة الصائم، وهو الخضار أو اللحوم حسب ما أعده لنا المسئولون عن المائدة من الكبار». ويكمل عبد الرحمن : «من الوصايا التى عملها لى والدى الذى يشارك معى وقت الإفطار فى تقديم مائدة الإفطار للصائمين، أن أتعامل بشكل جيد مع الحاضرين، فمعظمهم غرباء عن القاهرة، والأصدقاء الصغار يحرصون على التواجد على مائدتنا بعد رؤيتنا، ويزيد عدد الأطفال المشاركين فى تقديم الخير كل عام». رائد هشام، صاحب ال 10 سنوات ومسئول توزيع الخبز والتمور على الصائمين يقول: «تخصصى اليومى إحضار العيش فى الصباح من المخبز ووضعه فى المحل الخاص بأخى فى حى الحسين، وقبل الإفطار بساعة نحضر إلى المائدة ويساندنى أخى 28 عامًا فى حمل الخبز إلى هنا، وأسرتنا تشجعنا على ذلك، إلا أننا نشارك سويًا منذ عامين، لكثرة الزوار إلى المكان، فنحن نحب خدمة الغرباء، ويكفينا سماع دعوات الزائرين لنا وتشجيعهم لدورنا. ويضيف محمود سلطان، أحد الشباب المشاركين على إعداد المائدة، فكرة مشاركة الأطفال جديدة فى حى الحسين، فمعظم القائمين على تقديم الطعام من الشباب ونساء الخير وكبار التجار، لكن فى العادة ما يحضر معظم التجار بأطفالهم لتعليمهم، وعندما يشاهد الطفل والده وهو يشارك فى تقديم الطعام للصائم المغترب يشارك فى مساعدته، فحرص التجار على أن يتولى الأطفال منذ ثلاث سنوات المهام الرئيسية للمائدة تحت إشراف ذويهم الكبار، حيث يتم تقسيم الأدوار بين الأطفال الثمانية المشاركين، والطريف فى الأمر أن حى الحسين سياحى يحضر إليه السياح من كل دول العالم، يحرصون على التقاط صور مع الأطفال فى رمضان والبعض منهم يشارك فى الجلوس على مائدتنا البسيطة التى تستقبل ما يعادل 150 فردًا يوميًا. ويضيف سلطان: كل عام يزيد عدد الأطفال عن العام السابق، وهناك شريحة غير المتطوعين وهم الأطفال المحتاجون يحضرون للمشاركة فى إعداد الموائد فى الحسين مقابل تناول وجبة الفطار، ونحن نسمح بمشاركتهم حتى يكون لهم مشاركة إيجابية فى عمل الخير. «ضياء» عمره 12 عامًا يقول: «أنا موجود هنا فى حى الحسين منذ سنوات وليست لى أسرة، أعيش فى شوارع القاهرة ما بين رمسيس والحسين والسيدة، وتواجدت بين التجار للعمل بالساعة مقابل توفير مكان للعيش فيه نهاية اليوم، ومشاركتى فى المائدة لخدمة الناس فى الخير رغم أننى لا أمتلك المال للمشاركة، ويكفى أننى أحصل على وجبتي الإفطار والسحور هنا بالمجان، وجميع الموائد هنا تحرص على دعم الأطفال المحتاجين خاصة فى رمضان». ويضيف: يوجد مثلى عشرات الأطفال المحتاجين فالمكان لهم مأوى يجمعهم وقت الإفطار، فلا يراهم أحد إلا فى توقيتى الإفطار والسحور، ومعظمهم لا يشاركون فى إعداد موائد الرحمن بل يحضرون لتناول الطعام.