فى كل زمانٍ، هناك رجال مسخرون لنشر الحب وتعريف الناس به، وكأنهم رسل الحب إلى البشرية، ومنهم عُمر بن الفارض، الذى كان حاملًا ومنشدًا لأشعار الحب الإلهى. مهمة هؤلاء الرسل أن يصلوا بالناس إلى طريق الحب باعتبارهم دليله، ويقدمونهم للتذوق منه، وكلهم يقين أن من شرب منه شربة واحدة لن يحيد عنه أبدًا لأن «من ذاق عرف». «ابن الفارض» ممن أرخوا لتلك الحالة الوجدانية بأشعارهم، فقدم الحب فى كلام موزون مقفى، دحض به كل ميلٍ للتطرف، فصار علمًا يتحاكى به الناس ويهتدون بهدايته. لو عرف القلب والعقل مسحة من الحبِ، ما أدركتهما ذرة من إرهابٍ أو تطرف، ولو عرف الناس سيرة المتيمين والعاشقين ما استطاع أن يغويهم أحد إلى التطرف. لم يسلم من نيران المتطرفين، إذ هاجمه ابن تيمية بضراوة، وقال عنه إنه من أهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، لكن أنصفه السيوطى بيّن معانيه التى لم يدركها «ابن تيمية» ولم يستوعبها عقله. هو أبو حفص شرف الدين عمر بن على بن مرشد الحموى، أحد أشهر الشعراء المتصوفين، وكانت أشعاره غالبها فى العشق الإلهى ولُقب ب«سلطان العاشقين»، والده من «حماة» بسوريا، وهاجر لاحقًا إلى مصر، والشاعر يُصنف مصريًا. ولد عمر بن الفارض فى القرن السابع الهجرى، وهو القرن المعروف تاريخيًا بالقرن الذهبى للتصوف الإسلامى، إذ إن التصوف وصل فيه إلى قمة التعبير عن نفسه فى مختلف نشاطه عملاً وفكراً، والواقع أن هذه الحقبة كما يشير المؤرخون ظهر فيها أساطين وأقطاب التصوف الإسلامى عبر عصوره، ومنهم عبدالقادر الجيلانى، ومحيى الدين بن عربى، وأبو حفص السهروردى، وشهاب الدين السهروردى، وجلال الدين الرومى، وفريد الدين العطار، ويونس إمرى، وابن الفارض. وفى هذا القرن الاستثنائى فى تاريخ التصوف اتخذ التصوف الإسلامى ملامح جديدة ومغايرة للقرون السابقة، فأصبح للتصوف بُعد نظرى واضح وعميق عما كان عليه من قبل، وفى هذا القرن انفتح التصوف الإسلامى على تجارب ثقافية ومعرفية متميزة ومتباينة أيضًا، فتأثر بكثير من التيارات الفكرية والدينية المنتشرة فى ذلك الزمان، وتأثر التصوف الإسلامى فى هذا القرن بالتيارات الإيرانية الدينية لاسيما التى عرفت بحكمة الإشراق، وأكسبت التجربة الصوفية المعرفية أنماطًا جديدة وعمقاً وسعة وشمولية فى التفكير لم يعرفها من قبل. وفى هذا القرن أطلق المتصوف الإسلامى العنان لتجاربه والتى تجسدت فى ميادين أخرى غير التأليف النثرى وبيان الأحوال والمقامات، مثل الشعر والموسيقى والفن المعمارى. قُسمت حياة «ابن الفارض» إلى 3 مراحل، ففى شبابه اهتمّ بالزهد والتقشّف وتثقّف على يد والده وتفقه على المذهب الشافعى. فيما كانت المرحلة التاريخية –آنذاك- فارقة، إذ انتقلت الدولة من السيطرة الفاطمية إلى الأيوبية وتبدل الحال بتبدل المذاهب الحاكمة، مع الوضع فى الاعتبار الحروب الصليبية المشتعلة. ومثل «ابن الفارض» التيار الصوفى المُحافظ، لكن هناك من أخرجه منها استنادًا على أبياتٍ له قالوا إن فيها «شطح»، إذ إن ألفاظها غريبة ولا يقبلها العقل الظاهر ولا يُمكن قبولها إلا بتأويل. المرحلة الثانية فى حياة ابن الفارض كانت تلك الفترة التى قضاها فى مكة والتى أثرت فى أشعاره وأعطته طابعًا بدويًا ومنها قوله: أبَرقٌ بدا من جانب الغَور لامعُ أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع أنار الغضا ضاءت وسلمى بذى الغضا أم ابتسمت عمّا حكته المدامع المرحلة الثالثة كانت فى القاهرة، وعند عودته إلى مصر كان الأيوبيون يُسوِّدون عليها مهتّمين بتخليد ذكرهم فيها ببناء المدارس والمعاهد والمساجد وبتأسيس الخانقاوات لمواجهة طريقة الفاطميين، لذا كان عصر الشاعر مهدًا مناسبًا لتعاليم الصوفية فتلألأ كنجمة فى سماء الشعر الصوفى، فأنشد من بين ديوانه قوله: أوَميضُ بَرْقٍ بالأُبَيرِقِ لاحا أمْ فى رُبَى نجدٍ، أرى مِصباحَا؟ أمْ تِلكَ ليلى العامرِيّة أسْفَرَتْ ليلاً فصيرتِ المساءَ صباحًا يا راكبَ الوَجْناءِ وُقّيتَ الرّدى إنْ جُبتَ حَزْناً أو طوَيتَ بِطاحا وسَلَكتَ نَعمانَ الأراكِ فعُجْ إلى وادٍ هُناكَ عَهِدْتُهُ فَيّاحا لم يصل «ابن الفارض» إلى القمة بلقب سلطان العاشقين بين يومٍ وليلة، فدرس فقه الشافعى، ودرس الحديث عن ابن عساكر، وبعد عزلة فى مكة فى غير أشهر الحج خرج على الناس بفلسفته الشعرية «وحدة الوجود. وعبر عن مذهبه فى الحب فقال: «وعن مذهبى فى الحب مالى مذهب وإن ملتُ يومًا عنه فارقت ملّتى الحب الإلهى كان موضوع قصيدته «التائية الكبرى» والتى استطاع فيها أن يُلخص أطوار هذا الحب الإلهى عند جميع الذين تذوّقوه فى تاريخ التصوف العربى من عهد رابعة العدوية إلى الوقت الذى نظم الشاعر هذه القصيدة، ومنها: سقتنى حُميَّا الحبِّ راحةَ مقلتى وكأسى محيَّا مَن عنِ الحُسنِ جلتِ وبالحدقِ استغنيتُ عنْ قدحى ومِنْ شمائلها لا منْ شموليَ نشوتى اختلف كثيرون حول شعره فمنهم من أخذه على ظاهر معناه واعتبره لا يختلف عن شعر غيره من شعراء الغزل ومنهم أبى نواس وغيره، وهناك من رأى أنه يقدم حبًا آخر وهو الحب الإلهى، حتى قيل إنه له نظرية فى الحب تخصه وحده ولا ينازعه فيها أحد وهى أنه فى الحب له انصراف شديد الوطأة على نفسه، أى أن يستسلم الإنسان للحب الإلهى استسلامًا كاملًا، وأن يتلاشى فيه، فإن الموت فيه حياة، والتلاشى نعيم وسعادة. ولا يُعرف له غير ديوانه وعدد أبياته 1850 بيتًا، وعبر فيه عن حياته التى كان فيها مقبلًا على محبوبه، وكشف للحقيقة المطلقة التى هى عنده كل شىء فى هذا الوجود وإليها يردّ كل موجود. وفى ذاك الديوان مر الشاعر بكل مراحل ومراتب المحبة، وهى «الميل، المؤانسة، المودّة، الهوى، الخِلّة، المحبّة، الشغف، التيم، الوله، ثم العشق». وترجمت أشعار ابن الفارض فى الحب الإلهى إلى عدة لغات، وتكثر الدراسات حولها فى العديد من الجامعات الأوروبية. وبالطبع لم ينج عمر بن الفارض من سهام الاتهامات التى يطلقها الفقهاء ضيقو الأفق على كل من خالف طريقتهم فقال عنه ابن تيمية إنه من أهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود. فيما كان إنصاف ابن الفارض على يد جلال الدين السيوطى الذى قال عنه: «أما محله من الأدب فكانت النكتة الأدبية تنسل إليه من كل حدبٍ، انظر إلى شعره تجده دالًا على تبحره فى حفظ اللغات، وجمعه منها للشتات، وأما الجناس وأنواع البديع فكم السيل وكجر الذيل، وما زالت الأعلام وغيرهم يلحظونه بعين التعظيم ويحلونه محل التبجيل والتكريم». وعن ملاحظات بعض الفقهاء على شعره قال «السيوطى: «إن إنكار بعض الفقهاء لأبياتٍ من شعره لا يُلزم الغض من شأنه أو التقليل منه، فقد يكون خوفًا من العامة أن يأخذوا الأبيات على ظاهرها دون أن يفتحوا باب التأويل، لأن من الكلام ما ظاهره مستشبع منكر وباطنه صحيح مستقيم». لابن الفارض، مسجد تحت سفح جبل المقطم، فى منطقة «الإباجية»، بالقاهرة الإسلامية، وله ليلة يحييها المحبون بمدائح من قصائده، ينشدها أعلام المدح والذكر ومنهم ياسين التهامى وأمين الدشناوى وغيرهما.