يموج الكون فى مرح وفى صخب وضوضاء.. وأقبع هاهنا وحدى بقلبى الوادع النائى تركت مفاتن الدنيا ولم أحفل بناديها.. ورحت أجر ترحالى بعيدًا عن ملاهيها خلى القلب لا أهنوا لشيء من أمانيها.. أسير كأننى شبح يموج لمقلة الرائى هكذا تحدث البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل عن تجربته فى حياة الرهبنة واصفًا إياها مسجلًا كل مشاعره تجاهها.. فى حياة الرهبنة يختار الإنسان أن يترك ملذات الحياة والدنيا، يترك أهله وبيته، يترك ماله ونفوذه؛ يقمع شهواته الإنسانية الطبيعية فيتحكم فى غرائزه الجنسية ويختار البتولية، ويتحكم فى طعامه وحتى جرعات المياه التى يتناولها يوميًا. هى موت اختيارى عن ملذات الحياة يترك كل شىء وراءه ويعيش على أقل القليل.. هذا هو مفهوم الرهبنة القبطية منذ نشأتها على يد الأنبا أنطونيوس الكبير بعد أن سمع الآية التى تقول «إن أردت أن تكون كاملًا فاذهب وبع كل أملاكك واحمل صليبك واتبعنى». هكذا تأسس الفكر الرهبانى والذى منه نشأت حياة الوحدة والشركة والنظام الديرى، ومنه بدأ التسلسل الكهنوتى الذى يبدأ منذ صلاة الجنازة التى تتم على طالب الرهبنة ليبدأ بعد ذلك فى رسامته الكهنوتية كشماس ثم قس وقمص ثم أسقف ومطران فبطريرك. فى البداية كانت الرهبنة تتم فى الصحراء، حيث يهيم الإنسان على وجهه بدون تحديد وجهة معينة ويسكن المغارات ليتعبد فقط إلى الله ويأكل أقل القليل ولا يتحدث إلى أحد؛ وقد تمر سنوات كثيرة لا يرى فيها وجه إنسان، وبعد انتشار الرهبنة بدأت الحياة الديرية وأصبحت حياة الوحدة اختيارية وتتم بالاتفاق مع المرشد الروحى له حيث قد يمكث الراهب شهورًا لا يأكل فيها إلا الخبز الجاف. مع التطور الذى تشهده الحياة تحولت الملابس الخشنة التى كان يصنعها الرهبان من سعف النخيل إلى الجلباب الأسود والقلنصوة وبعد تأسيس حياة الشركة أصبح لكل راهب مهنته التى تكون مصدر دخل للدير وليست له كشخص بل يقوم بوضع ثمن البضاعة التى قام ببيعها تحت تصرف الدير ومع الوقت تحولت الدواب التى كان يمتطيها الرهبان إلى سيارات نقل لتسهيل انتقالهم بمنتجات أديرتهم وبيعها. تدريجيًا تحولت حصيرة النوم إلى سرير فى قلاية مكيفة ومجهزة بأحدث أجهزة الكمبيوتر والإنترنت، وأصبح الأساقفة يستخدمون السيارات الفارهة ويرتدون الساعات باهظة الثمن؛ ومنهم من يقود السيارة بنفسه ويغيرها كل فترة. تحولت الأمور.. فمن يبغى الحياة الدنيا أصبح يشقى ليحصل على شقة، وأضحى من يموت عن ملذات الحياة ونعيمها يظهر أمام الناس يمتلك منها كل وسائل الراحة الممكنة بدءًا من المسكن المكيف إلى السيارة وأحدث وسائل الاتصال. يثور بعض الأقباط عندما يرون حياة بعض الأساقفة تخلو من مظاهر التقشف بل ويتحكمون فى بعض الأحيان وبعض الحالات فى تلبية احتياجات الناس خاصة من أخوة الرب والمحتاجين، وهم الذين من المفترض أن يكونوا مثالًا يحتذى به فى الحياة الروحية على الأقل، فيما يرى البعض الآخر أن ما يحدث شىء طبيعى، فلا يجوز أن يسير أسقف بدون سيارة أو ينتظر أن يقله أحد من الرعية كلما أراد أن ينتقل من مكان لآخر. يقول «أمير سامى» 40 عامًا إن ما يحدث لا يتتافى مع حياة الزهد التى اختارها الرهبان؛ مشيرًا إلى أنهم لا يمتلكون تلك الكماليات، وإنما فقط يضعها البعض تحت تصرفهم، وبالتالى هى لا تتقاطع مع طبيعة حياتهم، ويؤكد أن أكبر دليل على ذلك أن هناك بطاركة جلسوا على الكرسى المرقسى وكانوا يعيشون حياة التقشف والزهد داخل قلايتهم بالمقر البابوى. فى المقابل يرى برسوم مليكة 27 عامًا أن الأمر أصبح مستفزًا بالنسبة للشباب القبطى خاصة مع زيادة عدد الرهبان الذين يمتلكون صفحات خاصة بمواقع التواصل الاجتماعى، ويتساءل برسوم «ماذا يفعل شخص اختار حياة الوحدة بأن يكون له تواجد فى وسائل التواصل الاجتماعى التى تسرق الوقت وتجعله عرضة للفتنة؟». أما ميرنا ممدوح 34 عامًا فتقول إن من الواضح أن البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية قد ساهم فى تقليل ظاهرة سيارات الأساقفة الفارهة والتى كانت تصل أحيانًا إلى ما يشبه موكب الوزراء هذا بخلاف حفلات التجليس التى كانت تقام سنويًا ويصرف عليها الملايين، وتتساءل ميرنا: أليس هؤلاء هم من تنازلوا عن ملذات الحياة وبحثوا عن التقشف؟ وتستدرك: ها هم الآن يمتلكون أو يسيطرون على حياة أسر كثيرة تنتظر أن يحنو عليها أسقفها ليعطيها شيئًا مما يقتنيه بشكل شخصى. نظرًا لأهمية هذا الموضوع كان أول شىء فعله بابا الإسكندرية هو إصدار قانون الرهبنة الذى تضمن وثيقة المبادئ التى يلتزم بها الراهب «كميثاق شرف للرهبان»، يتعهد بها طالب الرهبانية كتابيًا، والأخيرة توقع من طالب الرهبنة قبل رسامته، ونصها كالتالى: «أتعهد بأن أعيش راهبًا طوال أيام حياتى دون أن أطالب بأى درجة كهنوتية إلا إذا دعيت لهذه الدرجة من رئيس الدير أو الرئاسة الكنسية، وألا تكون لى أى ملكية شخصية لأن الدير سيتكفل برعايتى وتوفير احتياجاتى الأساسية كما هو متعارف عليه رهبانيًا». يتعهد طالب الرهبنة أيضًا بألا يطالب بدخول علمانى (قريب أو صديق) الدير فى غير أوقات الزيارة المسموح بها وألا يطالب بأن يقابلهم أو يدخلهم إلى قلايته، وألا ينزل من الدير لأى سبب كان إلا إذا كلف من رئيس الدير وبتصريح وإذن منه، وأن يكون استخدامه للتقنيات الحديثة بإذن من رئيس الدير أو أمين الدير ولهدف محدد ومتابعة ذلك مع أب اعترافه، وأن يتمسك بهدف الرهبنة ونذورها (الفقر الاختيارى – الطاعة – البتولية) جوهرًا وعملًا وليس شكلًا فقط. وفى نفس الإطار تأتى تعليمات البابا فرانسيس بابا الفاتيكان التى تضمنتها وثيقة يطالب فيها الراهبات بالتزام «الرصانة والتعقل» فى استخدام وسائل التواصل الاجتماعى.. تتحدث الوثيقة عن «التواصل الاجتماعى» دون ذكر تطبيقات محددة، لكن صحيفة «تابليت» الكاثوليكية أفادت بأن المقصود هو موقعا فيسبوك وتويتر ضمن وسائل أخرى، وتقول الوثيقة إن التحلى بالتعقل ينطبق على «حجم المعلومات ونوع التواصل»، فضلًا عن المحتوى الفعلى. من جانبه دعا كمال زاخر، المفكر القبطى إلى إعادة النظر فى نظام الرهبنة المصرى، حتى يكون منفتحًا على العالم أكثر، كما يحدث فى الخارج، وطالب باستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة فى التواصل مع الناس لخدمتهم بطريقة أفضل وأسرع، معتبرًا أن هذه من نعم الله على الجيل الحالى، وليس بالضرورة التخلى عنها لمجرد أنها لم تكن متاحة للأجيال السابقة. وقال إنه من الطبيعى أن تواكب الكنيسة المصرية العصر الذى تعيشه، لأن لكل عصر الأدوات التى يجوز استخدامها فى الإطار الكنسى، مشيرًا إلى أن اختلاف طريقة التواصل فى الماضى عن الحاضر، إشكالية تواجه الأجيال المختلفة، ولفت إلى أن المسيح نفسه استخدم الأدوات المتاحة والأمثال البسيطة التى يشرح بها تعاليمه للموجودين حينذاك، وفق معطيات العصر. وأضاف إن هناك طيفًا آخر من الشباب وجد فى الرهبنة خلاصًا من ضغوط اللحظة وربما هروبًا منها، تحت تأثير صور متوهمة عن مثالية الحياة خلف أسوار الأديرة التى تشكلها القصص الميتافيزيقية الأسطورية التى تروََج عنها وتدغدغ مشاعر وأحاسيس كثيرين، وطيفًا ثالثًا كانت له مآرب أخرى. ويؤكد المفكر والباحث فى الشأن الكنسى أن الحياة الديرية والرهبنة شهدت تطورات تحتاج إلى توقف وإعادة تقييم؛ فقد شهدت الأديرة استقرار نسق جديد فى العقود الأخيرة وهو انتظار كل الرهبان لدورهم لنيل نعمة الكهنوت، بحسب أقدمية الرهبنة، وهو أمر يخرجها من كونها حركة علمانية إلى كيان «إكليروسى»، من جانب، ومن جانب آخر يفقد الراهب تركيزه وسعيه فى استكمال حياته كراهب فقط، وتغازله طموحات التدرج فى رتب الكهنوت، بعد أن كان يهرب منها، كما تخبرنا سير الآباء الرهبان الكبار. ويلخص الأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا أن الراهب يعيش داخل الدير أو حوله فى الصحراء إن كان متوحدًا، مشيرًا إلى أنه قد يتم إرسال بعض الآباء الرهبان للخدمة خارج الدير، وذلك بترتيب مع الأب رئيس الدير أو البطريرك. وقد تكون تلك الخدمات داخل مصر أو خارجها، فى أى من مقرات الدير خارج حدوده، أو فى كنيسة أو إيبارشية جديدة.. وقد يخدم كمساعد مع أى أب أسقف، أو يخدم مجتمعًا قبطيًا فى مكان لا توجد به خدمة للكنيسة، ليساهم فى إنشاء كنائس جديدة، أو كإرسالية للخدمة تمهيدًا لرسامته أسقفًا على تلك الإيبارشية.. كل هذا يتم بصورة كنسيَّة رسمية، وليس بفِكر الراهب الشخصى وحده. وقد يمتنع أو يتمنَّع الراهب عن الخدمة خارج الدير إن أراد. وحتى إن خرج الراهب خارج الدير للخدمة أو لأى سبب كنسى آخر، يحتفظ بنذوره الرهبانية، وترتيبه الروحى فى الصلوات حسبما يتفق مع أب اعترافه، وأسلوبه الرهبانى فى تعاملاته مع الآخرين. فقد يخرج من الدير بالجسد، ولكن هذا لا يغيِّر شيئًا فى ملامحه الرهبانية الأخرى والتى تقوم على الأسس التالية: البتولية، الطاعة، الفقر الاختيارى، التفرغ للعبادة.■