بكلمات يمتزج فيها الجد بالسخرية أجاب الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، حين سُئل فى أحد الحوارات التليفزيونية عن قصة الخَلق قائلًا: «إن الأمر قد حُسم، لقد بدأ الله خَلق الكون بآدم، وهو مخلوق كاملًا لا متطور من قرد ولا من غزال»، قاصدًا بذلك الطعن فى واحدة من أبرز النظريات العلمية التى ساعدت فى فهم البشر لحقيقتهم وللعالم من حولهم وهى نظرية «النشوء والارتقاء» التى وضعها العالم الإنجليزى تشارلز دارون قبل نحو 160 عامًا. بكلمات يمتزج فيها الجد بالسخرية أجاب الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، حين سُئل فى أحد الحوارات التليفزيونية عن قصة الخَلق قائلًا: «إن الأمر قد حُسم، لقد بدأ الله خَلق الكون بآدم، وهو مخلوق كاملًا لا متطور من قرد ولا من غزال»، قاصدًا بذلك الطعن فى واحدة من أبرز النظريات العلمية التى ساعدت فى فهم البشر لحقيقتهم وللعالم من حولهم وهى نظرية «النشوء والارتقاء» التى وضعها العالم الإنجليزى تشارلز دارون قبل نحو 160 عامًا. دخل شيخ الأزهر بقدميه إلى حقل ألغام، وليته ما دخل، بل ذهب فى حوار آخر له إلى ما هو أبعد من ذلك، وأخذ يقول إن دارون نفسه ملحد، ولكن إلهه أقل شأنا من إله «أرسطو» الكامل المعزول عن الكون، فدارون يعترف بوجود الإله، ولكن يقول إنه ترك الكون بعد خلقه. واعتبر أستاذ الفلسفة الإسلامية أن الجدل حول نظرية دارون من حيث كونها مقدمة للإلحاد أم لا دليلاً على أنها «ليست نظرية علمية»، خصوصًا أنها مضى عليها أكثر من 150 سنة، ولكن لا تزال تدور حولها معارك طاحنة بين العلماء. استدل الإمام الأكبر فى طعنه على النظرية بقوله: «الانتقال من أن الإنسان يشبه القرد، وافتراض أن القرد راجع للثدييات وهى بدورها راجعة إلى الزواحف، ثم الاستدلال على أن الكون بلا إله هذا استدلال خطأ»، وتابع: «إذن هى هى ليست نظرية علمية لأنها لا تستطيع إثبات وجود الله من عدمه». ومضى «الطيب» فى توضيح وجهة نظره قائلا: إن زملاء دارون وتلاميذه منقسمون حول ما جاء فى نظريته، وإن رجال الدين المسيحيين فى الغرب رفضوها وحرّموها، وإن الكتب المقدسة كلها أثبتت أن الله خلق آدم خلقًا كاملا من تراب بشكل منفصل عن بقية الأنواع والحيوانات الأخرى وكذلك بقية الأنواع. يعتبر الإمام «الطيب» نفسه فى «حرب مقدسة» ضد «الإلحاد» وأنه بإجابته تلك ينتصر للدين، وهو لا يُدرك أنه ربما يكون بذلك يضرب الدين فى مقتل، فحين تضع الدين فى مواجهة العِلم والعقل والمنطق تكون بذلك تحكم عليه بالفناء لأنه أصبح فى خصومة مع الحياة. فهم منقوص للنظرية بعد سرد ما ورد على لسان الإمام الأكبر وقبل الرد على ما فيه تجدر الإشارة إلى أنه لا ينبغى أن يكون هناك مجال للتقاطع بين الدين- أى دين- والعِلم، فموضوع الأديان هو «الله» وهى قضية مرتبطة بالميتافيزيقا، أمّا العِلم فهو يبدأ وينتهى من الواقع القابل للقياس والتجريب فى محاولة للإجابة عن سؤال رئيسى وهو: «كيف يعمل الكون من حولنا؟ وليس من خالق هذا الكون»؟ كان على الشيخ الطيب قبل أن يذهب إلى المعركة أن يستعد لها جيدًا، فالاستعداد الجيد للحرب يمنع وقوع الحرب أصلًا، والاستعداد هنا يكون بالاطلاع على تفاصيل النظرية لا القراءة عنها، ذلك أن النظرية لا تتطرق إلى فرضية وجود خالق للكون من عدمه، لأن هذا ليس موضوعًا للقياس العلمى أصلًا، وقد وقع الإمام فى فخ الخلط بين النظرية نفسها والأثر الفلسفى المترتب عليها. النظرية قائمة على مبدأين أساسيين هما «التطور» و«الانتخاب الطبيعى» ولا يمكن فهمها إلا بالنظر إليهما مجتمعين، والتطور كمفهوم يعنى ببساطة شديدة: «اكتساب الكائن الحى سمةً جديدة تساعده على البقاء»، أمّا الانتخاب الطبيعى فيعنى أن الكائنات التى تمتلك سمات تؤهلها للبقاء سوف تبقى، بينما تُفنى تلك التى لا تحمل سمات تساعدها على ذلك، مع ملاحظة أن التطور لا يكون إلا فى المجموعة، وليس فى الفرد. هل حقا الإنسان أصله قرد؟ الحقيقة أن القول بأن «الإنسان كان أصله قرد» دليل على فهم منقوص للنظرية واختزال مُخل يستخدمه بعض رجال الدين للطعن فى النظرية، لأن دارون لم يَقُل ذلك وإنما قال إن الإنسان والقرد لهما سلف مشترك، كما أن التطور لا يأخذ شكلاً سُلميّا، وإنما يحدث بشكل متوازٍ فكل الكائنات الحية الموجودة على الأرض الآن هى إفراز طبيعى لعمليات تطور تمت على كائنات أخرى عبر ملايين السنين. ولكن ما الذى جعلنا على صلة قرابة مع القردة بالذات؟ هنالك عدة مُؤشرات وأدلة على ذلك، فمثلًا هنالك تطابقات مذهلة بين الحمض النووى للإنسان والحمض النووى الخاص بالشمبانزى (أقرب الكائنات شبهًا جينيّا بالإنسان)، ويصل هذا التطابق إلى نسبة 98.5%، كما أنَّنا نتقاسم مع الشمبانزى عدوى فيروسية ارتجاعية تعرف اختصارًا بERV، فلدينا 16 فيروسًا ارتجاعيّا متطابقًا تمامًا فى أماكنها من حمضنا النووى. يعتبر التطور أكثر المبادئ رسوخًا وقبولًا فى العلم الحديث، فهو أساس فى العديد من البحوث العلمية فى مجالات واسعة، لها علاقة بالجينات وعلم النفس وغيرهما، وليس هناك أى عالم حقيقى يستطيع الطعن فى صحة المبدأ، وليس أدل على صحة المبدأ من هبّة شيخ الأزهر نفسه للدفاع عن الدين، علاوة على الدعاوى المتكررة لتجديد الخطاب الدينى ليوافق تغير الظروف ومقتضى الحال. الصراع مع الكنيسة فى معركته مع دارون راح شيخ الأزهر يستعين بأصحاب الكتب المقدسة الأخرى (المسيحيين واليهود) ويقول إن الديانات السماوية الثلاث ترفض النظرية، لكن الحقيقة أن الكنيسة الكاثوليكية فى السابق لم تبد موقفًا من النظرية واحتفظت بحقها فى تفسير الكتاب المقدس دون غيرها. مؤخرًا خرج البابا فرانسيس الثانى بابا الفاتيكان وقال: «من خلال التواضع، البحث عن الروح، والصلاة المتأملة، اكتسبنا فهمًا جديدًا لبعض العقائد، فالكنيسة لم تعد تؤمن بوجود الجحيم بالمعنى الحرفى حيث يعانى البشر، فهذا الاعتقاد يتنافى مع مبدأ الحب اللا نهائى الإلهى، فالله ليس قاضيًا وإنما مُحبّا صديقًا، مُحبّا للبشر والإنسانية، فهو لا يهدف لعذاب البشر وإنما لاحتضانهم، ففكرة الجحيم، كقصة آدم وحواء، أدبية رمزية، ترمز لعزل الروح، حيث إن الهدف النهائى هو أن تتحد الأرواح كلها مع الله». لم تكن مقاربة البابا فرانسيس إلا محاولة لإيجاد صيغة مقبولة منطقيّا وإنسانيّا للدين تواكب روح العصر وتتناسب مع المحتوى المعرفى الذى وصلت إليه البشرية، فلا يمكن فهم النص الدينى فى عصر الانفجار المعلوماتى بنفس الطريقة التى كنا نفهمه بها فى عصر ركوب الناقة والحمار. مقاربات إسلامية أكثر منطقية محاولات إيجاد مقاربات مقبولة منطقيّا وتتماشى وروح العصر لم تكن مقصورة على المسيحيين الكاثوليك فقط، وإنما كانت هناك محاولات مماثلة من جانب بعض المسلمين مثل المفكر السورى الدكتور محمد شحرور الذى راح يقدم فى كتابه القيّم «الكتاب والقرآن» تفسيرًا مغايرًا للنص القرآنى استنادًا، إلى كتاب الدكتور عبدالقاهر الجرجانى «أسرار البلاغة». ذهب شحرور للقول بأن آدم هو ليس اسمًا لشخص، وإنما بداية مرحلة الإنسانية بما تتضمنه من نشأة الوعى والتجريد واستخدام اللغة بشكلها المعروف حاليًا، وهى مرحلة لاحقة على مرحلة البشر التى كنا فيها أقرب للحيوانات التى تشترك معنا فى كثير من الصفات التطورية. مقاربة الدكتور شحرور نقل بعضًا منها الدكتور عبدالصبور شاهين، أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وضمنها فى كتابه «أبى آدم» الذى أثار ضجة كبيرة فى الأوساط الدينية وقت صدوره. كلمة أخيرة يا فضيلة الإمام بقى أن نقول للإمام الطيب إن محاربة الإلحاد الحقيقية لا تكون بصناعة خصومة وهمية مع العِلم، وإنما بالبحث ومحاولة تجديد الخطاب الدينى ولا تبقى الدين محصورًا فى مجموعة من القصص التراثية المهترئة التى تتعارض مع أبسط قواعد المنطق. ونقول أيضًا إن كل من حاول الاجتهاد بتقديم تصور لفهم النص الدينى مغاير عن التصورات السابقة كالدكتور محمد شحرور أو الدكتور نصر حامد أبوزيد أو غيرهما إنما كانوا يستهدفون إنقاذ الدين لا ضربه.. وهذه هى المهمة المقدسة المطلوبة من الأزهر الآن، وإلا فما قيمة الدين إذا كان سببًا فى شقاء البشرية والصراعات وكره الناس لحياتهم؟.