لم تتوقف عبقرية أجدادنا الفراعنة عند حدود فنون البناء والتحنيط وعلم الفلك فحسب، بل امتد الإبداع المصرى القديم ليشمل فن الطهى أيضًا.. فعصر الأجداد يزخر بالعديد من الأسرار التى تمثل مفاتيح فهم صورة المجتمع الفرعونى، ومنها تلك النقوش والرسومات على جدران المعابد التى تعرض الوصف التفصيلى للبيت المصرى وأنواع الأوانى المستخدمة فى الطهى، بالإضافة إلى أنواع الطعام التى كانت تقدم فى كل مناسبة، وذلك حسبما أفاد كتاب «وصفات من المطبخ الفرعونى» الذى أعده كل من ماجدة المهداوى وعمرو حسين وتقديم عالم المصريات الدكتور عبدالحليم نور الدين. بالحديث عن الطعام علينا أولاً إلقاء نظرة على تخطيط المطبخ وموقعه فى منازل الفراعنة، فقد عاش المصرى القديم فى منازل بسيطة من الطوب اللبن اختلف طراز كل منها باختلاف المكانة الاجتماعية لساكنيها، وكانت المنازل تضم بخلاف قاعات المعيشة مخازن للغلال والمواد الغذائية وعادة ما يكون المطبخ هو أقصى الغرف، حيث يقع فى نهاية المنزل فيتم تسقيفه بالقش والأغصان لحجب ضوء الشمس وتوفير التهوية اللازمة فى آن ٍ واحد. ويقع المطبخ فى بيوت أخرى فى الفناء الخارجى للمنزل مجاورًا لغرفة الخزين، وكان المطبخ بسيطًا فى تكوينه أشبه بحياة المصرى القديم، حيث يوجد فى أحد جوانبه فرن ذو درجات لوضع الآنية فوقه، بالإضافة إلى الهاون الحجرى لجرش الحبوب الذى يمكن استبداله بحجرين فوق بعضهما البعض وأعلاها مثقوب «الرحى» لطحن الحبوب وتوفير دقيق صالح لصناعة الخبز، وفى أحد أركان المطبخ كان يوضع حوض للعجين، وذلك باختلاف ما كان يحتويه المطبخ من أوانٍى الطهى وأوانٍ لحفظ المياه، وغالبًا كان المصرى القديم يصنع كوة فى أحد جدران المطبخ لأحد الآلهة المنزلية الحافظة. استطاع المصرى القديم استغلال طمى نهر النيل الذى عاش على ضفافه فى ابتكار أشكال عدة من الأوانى، وقد ساهمت دراسة الفخار والخزف فى فهم كل عصور التاريخ المصرى القديم، فقد ساعد ذلك فى معرفة أن المصريين القدماء استخدموا الأوانى الفخارية بنفس الطريقة الحديثة فى استخدام الأوانى البلاستيكية فى المطبخ، ولم يقتصر استخدامهم لتلك الأوانى على أغراض الحياة اليومية فقط، بل تم استعمالها ضمن الأمتعة الجنائزية، وقد استخدم المصرى القديم بعض أوانيه من الحجر وتميزت تلك الأوانى الحجرية بأنها ذات مقبضين اتخذت شكل أذنين مثقوبين، وظهرت الأوعية المصنوعة من الفخار الأحمر وأخرى من الصلصال الوردى فى أواخر عصر ما قبل الأسرات. ساعدت تربة وادى النيل الخصبة فى زراعة المحاصيل المتنوعة وجلب نهر النيل خلال رحلته أنواعًا مختلفة من الأسماك.. كل هذه العوامل كانت سببًا لتنوع مصادر الطعام بالنسبة للمصرى القديم، لكن اعتمد عموم المصريين فى طعامهم بشكل أساسى على الخبز والجعة بجوار ما يتوافر من المزروعات، وقد أخذ الخبز أشكالاً عديدة، حيث يتم خلط الدقيق بالخميرة والملح والتوابل وأحيانًا بالبيض والزبد قد يكون ذا حواف توفّر مساحة لحشوه بالبقول أو الخضروات أو يحلّى بالعسل والتمر، كما كان المصرى القديم يميل لتناول اللحوم، وقد تنوعت مصادرها فتوافرت الطيور إما برية أو داجنة وكذلك لحوم الأسماك والحيوانات. لم يقتصر استخدام المصرى القديم على ما وفرته له الطبيعة من نباتات متنوعة على الطعام وحسب، حيث إن البرديات المصرية تعد من أهم وأقدم الوثائق المسجلة عن الأمراض وأعراضها وكيفية علاجها خاصة باستعمال عقاقير نباتية فبردية إيبرس Ebers Papyrus، حيث سمّيت على اسم مكتشفها الألمانى عام 1862، والمدونة عام 1550 قبل الميلاد فى عهد أمنحتب الأول تحتوى على 877 وصفة بلدية للطب الشعبى وبها عدد خاص من النباتات الطبية والعطرية أهمها (الكراوية- الخروع –الخشخاش – البصل – الصبار). ومع تنوع المناسبات التى احتفل بها المصرى القديم كان الاحتفال بعيد «شم النسيم» له خصوصيته، وذلك لتميزه بألوان عديدة من الأطعمة لكل منها رمز عنده، وكان هذا العيد يرمز عند المصريين القدماء إلى بعث الحياة، فقد اعتقدوا أن ذلك اليوم هو بدء الزمان أو بدء الخلق. لذلك لم يكن اختيار أطعمة بالتحديد يتناولونها فى هذا اليوم أمرًا عبثيًا، فتناول البيض لأن البيض يرمز إلى بداية الحياة كما ذكروا فى متون كتاب المتوفى، لذلك كانوا ينقشون دعواتهم وأمنياتهم عليه ويعلقون السلال على غصون الشجر ليحظى ببركات نور الإله عند شروق شمس هذا اليوم، أما السمك المملح الذى تم استخدامه فى هذه المناسبة فى عصر الأسرة الخامسة وذلك تقديسًا لنهر النيل وإلهه «حعبى»، ويرتبط الخس بهذه المناسبة، حيث يرمز للإله «مين» إله الخصوبة والتناسل وهو ما تحتاج له بداية الخلق. كما تعددت الحيوانات التى تناول لحومها المصرى القديم ما بين مستأنسة وحيوانات صيد، وقد احتل لحم الثور مكانة مهمة فكان لا يقدر على ذبحها وتناول لحومها سوى الطبقة العليا، حيث كان السبب فى ذلك طبيعة جو مصر الحار ولابد من توافر العدد الكافى من الأشخاص لتناول كل تلك الكمية من اللحم خوفًا من سرعة فساد اللحم ولا يمكن توافر ذلك العدد سوى فى القصور الملكية وبيوت كبار الدولة، لذلك اقتصرت لحوم الثور عليهم، أما الفقراء فكانوا يكتفون بذبح شاة أو ماعز. واهتم المصرى القديم أيضًا بتربية الماشية للحصول على الألبان، حيث أطلق عليها اسم «ارتت»، واستخدمها فى طعامه وفى الحصول على الجبن والزبد والقشدة، ونظرًا لأهميتها كان يعمل على زيادة إدرار اللبن من الحيوانات عن طريق تقديم العلف الكافى وعدم استخدام الإناث منها فى العمل الزراعى والحرص على نقاء السلالة، ولم يكتف بذلك، بل كان يوفّر لماشيته جوًا من الهدوء والأمان. عرف المصريون القدماء صناعة الجبن مبكرًا فكانوا يستخدمون اللبن الرايب أو «سرت» كما أطلقوا عليه، فقد عُثر على آنية فخار بها بقايا جبن فى مقبرة الملك «عحا» وقد كتب عليها سرت، وكانت صناعة الجبن القريش من الطرق البدائية، حيث يتم خض اللبن فى جلد الماعز لفصل الزبد عن الماء ووضع الباقى فى حصيرة من البوص لتصفيته. كان المصرى القديم مولعًا بصيد الطيور سواء كمهنة أو كرياضة ترفيهية يمارسها الملوك والأمراء وأفراد الطبقة العليا، لم تكن هناك أنواع معينة يتم اختيارها أثناء الصيد، بل قام المصريون القدماء بصيد العديد من أنواع الطيور، فقد عرف السمان والبجع والعصافير وطائر أبو منجل والهدهد وغيرها من الطيور. كما أظهرت النقوش عملية ذبح الإوز وتنظيفه بنزع ريشه ونزع طرفى الجناحين وقطع الأرجل وصولًا حتى مرحلة الشواء، حيث كان يفضل أكل لحوم الدواجن مشوية وإن كان فى بعض الأحيان يتناول لحوم الطيور مسلوقة، كما كان يقوم بتمليح الطيور بعد تنظيفها ووضعها فى قدر لحفظها. ولأن الأسماك كانت أحد الأطعمة الرئيسية عند المصريين القدماء، فقد اتخذوا عدة طرق لطهيها الدارجة منها وضع قضيب فى فم السمكة وشيّها على النار، كما عرف السلق وذلك بوضع الأسماك داخل قدر مملوء بالماء ووضعه على النار، وذلك بخلاف قيامهم بتمليح وتدخين بعض أنواع الأسماك. تسربت بعض عادات المصريين القدماء إلى حياتنا اليومية أصبحنا نقوم بها بشكل طبيعى دون أن نعرف أصلها أو سببها، لكن تبقى هذه العادات كشهادة تثبت نسبنا لأجدادنا الأصليين حتى وإن جهلنا علّتها، ويظهر ذلك من استمرار استخدام بعض الأدوات الزراعية مثل الساقية والشادوف والتى استخدمها المصرى القديم منذ زمن بعيد. وفى دراسة للطعام المصرى فى الوقت الحاضر أظهرت اختلافًا بين طعام القدماء والطعام فى الدلتا، لكنها بالمقارنة بينها وبين الطعام فى صعيد مصر أظهرت تقاربًا، حيث يعد الطعام فى الصعيد امتدادًا للطعام فى العصر الفرعونى.