عاش الكاتب الكبير «فتحى غانم» صراعاً محتدماً بين «الأديب والقاص والروائى» الذين يستولون على عقله ووجدانه وكيانه كله.. وبين الصحفى بحكم الوظيفة والممارسة اليومية.. وكانت البداية – أو المقدمة المنطقية بلغة الدراما – التى فجرت هذا الصراع حينما استقال بإدارة التحقيقات بوزارة المعارف مع زملائه «أحمد بهاء الدين» و«عبدالرحمن الشرقاوى» لصدور قانون نقابة الصحفيين بعدم الكتابة فى الصحافة لغير المتفرغ للعمل الصحفى وحده.. تقول «سناء البيسى» عن ذلك فى كتابها الممتع «سيرة الحبايب» إن «فتحى غانم» فى العام الأول من حياته فى شارع الصحافة حيث كان مجبرًا على الاستجابة لذلك الصوت الآمر.. «على أمين» توأم «مصطفى أمين» صاحب أخبار اليوم (1954)، حيث يستدعيه ليعهد إليه بكوم من المجلات النسائية الأجنبية قائلاً: دور لى فيها على مادة تصلح بعد تمصيرها لآخر ساعة مع التطوير لعمل أبواب جديدة.. أزياء وتجميل وطب ومشكلات صحية نسائية.. وترجم لى من الفرنسية والإنجليزية قصصًا قصيرة لركاب الترام بين المحطات.. ورد لى على رسائل القراء.. وهات لى معاك شوية أخبار.. لهذا تحول فى العام الأول من حياته فى شارع الصحافة من وكيل نيابة إلى طبيب ومترجم وكمسارى ومصمم أزياء .. نجح فى هذا كله، لكن فشله كان ذريعًا فى جمع الأخبار فى دار صحافة الخبر.. ومثال ذلك أنه فى نفس العام حين أطلق الرصاص على «جمال عبدالناصر» فى المنشية بالإسكندرية ولأن تعليمات الرقيب كانت تحظر التصوير.. فقد استدعاه صاحب الصوت الآمر: ألست قصاصًا؟! .. أريدك أن تذهب إلى بيت المتهم بالاعتداء على «جمال عبدالناصر» فى حى بولاق وتكتب لنا صورة قلمية لما تراه.. وذهب «فتحى غانم» ووصف ما شاهده بوضوح وصدق وواقعية: سلم فى بيت قديم متآكل.. حجرة بها سرير فوقه مفرش كاروهات.. مشنة عيش.. منضدة خشب متواضعة.. امرأة صغيرة السن تحمل طفلًا رضيعًا. فى عينيها ذهول وخوف شديدان.. ومن حولها أعداد ضخمة من رجال الأمن.. وهاجت الدنيا وماجت، بعد أن نُشرت تلك الصور القلمية فى الصفحة الأولى بأخبار اليوم.. بل إن «جمال عبدالناصر» أشار إلى أن ما كتبه ذلك الصحفى قد أثار التعاطف البالغ مع المتهم.. تلك التجربة أوضحت للكاتب أن الصورة الأدبية البسيطة إذا ما كُتبت بصدق بالغ فإنها تستطيع احتواء مشاعر البشر وعواطفهم وأهوائهم.. كما أوضحت له أن موهبته الأدبية أقوى وأهم وأعظم تأثيراً من التجربة الصحفية.. وأنه يجب أن يحسم الصراع لصالح الأديب والروائى..وحسمه بالفعل.. ولم يكتب على مدى (40) عامًا إلا ثلاثة أحاديث صحفية.. ومن هنا فقد كان الوحيد بين الأدباء المشتغلين بالصحافة الذى طغى مجده الأدبى على مجده الصحفى.. وأكد لى حينما قابلته لأعرض عليه معالجة تليفزيونية لروايته البديعة «ست الحسن»، والتى حولتها إلى مسلسل قام ببطولته «محمود ياسين» و«دلال عبدالعزيز» و«محمود قابيل» فى منتصف التسعينيات.. حينما ناقشته فى ذلك الصراع بين «الصحافة والأدب» أن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» صديق الشباب كان يقول له إنه سيكون طول عمره فى الصفحة الأولى، أما أنا فسأكون طول عمرى فى الصفحة الأخيرة، حيث النقد والأدب.. وحينما قلت له إنه رغم قراره بالإخلاص للأدب فقد أثرت الصحافة على إنتاجه من حيث الكم.. اعترض بشدة وقال لى هذا ليس بصحيح، فلى أكثر من تسعة عشر كتاباً ما بين الرواية .. والقصة القصيرة التى منها «الجبل» و«تلك الأيام» .. و«من أين» و«البحر» و«الساخن والبارد» و«الغبى» وأنه فى خلال ثلاث سنوات من عام (1987) وحتى عام (1989) أصدرت له روايات «الهلال» وحدها ثلاث روايات هى «بيت من شبرا» و«تو» و«أحمد وداود»، هذا بالإضافة إلى روايات «الرجل الذى فقد ظله» و«زينب والعرش» و«ست الحسن».. ولكن هل هذا يعنى أن «فتحى غانم» فى انتصار صراعه الأدبى على الصحفى أنهما صارا خصمين لا لقاء بينهما ولا ود يجمعهما.. أعتقد أن العكس هو الصحيح، فمن يقرأ روايات «فتحى غانم» سوف يعثر بسهولة على الصحفى فى داخله.. متوهجًا بين سطور الرواية.. حاضرًا بقوة من خلال رسم شخصياتها المتنوعة.. بل فى أسلوب السرد أو الحكى.. فالعبارة سلسة وواضحة تخلو من الإطناب والمحسنات البديعية.. موحية دون تقعر.. عميقة دون تحذلق معبرة عن دقائق النفس البشرية ونوازعها وأطماعها وعواطفها المشبوبة وطموحاتها المتوهجة بصدق مدهش.. والحوار بين الشخصيات يدور فى إطار من الشد والجذب والتصاعد المثير الذى يدفع بالأحداث إلى الأمام.. والمكان والزمان عنصران مؤثران بقوة.. والرواية تبدو دائمًا وكأنها رحلة صحفى يبحث عن الحقيقة وعن اليقين.. ويقتحم المجهول.. ويقفز فوق الأشواك والأسوار العالية.. وفى رواية «الرجل الذى فقد ظله» يدور الصراع بين الشخصيات فى دهاليز الصحافة.. ويرصد «فتحى غانم» كثيرًا من القضايا السياسية والمهنية من خلال شخصية البطل الصحفى الطموح.. الانتهازى الذى جسده «كمال الشناوى» بعبقرية فى الفيلم الذى أخرجه «كمال الشيخ» وينتقل ببراعة من الخاص إلى العام.. من المكان المحدود داخل مكاتب الصحفيين إلى العالم الرحب خارجه.. من مشاكل الصحافة المهنية وهموم الصحفيين الشخصية إلى عورات المجتمع ومثالبه.. وعلاقة حاضره بماضيه.. مستقبله بجذوره الضاربة فى أعماق الأرض والتاريخ. وفى رواية «زينب والعرش» فإن «زينب» بطلة الرواية «ويوسف» ( وجسد دوريهما فى المسلسل الشهير الذى اشترك فيه «فتحى غانم» مع «صلاح حافظ» فى كتابة السيناريو والحوار له وأخرجه «يحيى العلمى» ) «سهير رمزى» و«حسن يوسف».. تتوحد رغبتهما فى البحث عن صدق نفسيهما مع وجودهما نفسه .. فصارت – كما عبر عن ذلك الكاتب الكبير «علاء الديب» فى كتابه «عصير الكتب» – هى المعنى والحقيقة.. وتأتى عبقرية هذه الرواية فى أن ذلك البحث الأسطورى يوضع فى إطاره الواقعى جدًا.. وأيضًا من خلال عالم الصحافة.. وهذا الإطار الواقعى لا يتحول فيه الأبطال فى عوالم الفكر، بل يتعاملان مع اللحم والدم.. مع الخسة والبراءة فى تجسيدهم الحسى الذى يتواجد فى عالم الصحافة.. وهو موضوع «فتحى غانم» الأثير.. يتعاملان مع هذه المعانى وكأنها تجسيد لموجودات حقيقية.. فيتجسد ذلك الصدق مع النفس.. المعنى الغامض الشفاف الذى يحير الفلاسفة والعلماء. وفى رواية «ست الحسن» – التى أسعدنى كتابة السيناريو والحوار للمسلسل المأخوذ عنها وأخرجها «يوسف أبو سيف» – يلخص «فتحى غانم» رؤيته السياسية والفكرية والاجتماعية .. بل الفلسفية من خلال البطلة الجميلة التى يصبح جمالها - نقمة ووبالًا عليها – بعد أن كان تجسيدًا لمعانٍ ورموز مجردة مثل «القوة» و«السلطة» و «الطموح الإنسانى» و«الشهرة» و«المجد» و«القدرة الطاغية على السيطرة» و«الجبروت وتحريك العالم كله من حولها» و«هز العروش العاتية». وتمثل الرواية رحلة معاناتها النفسية فى اشتباك مع الواقع الاجتماعى والسياسى خلال فترات زمنية طويلة تبدأ بقيام ثورة (1952) مرورًا بالحكم الناصرى والساداتى وانتهاءً باجتياح التيار الدينى والتطرف للمجتمع.. وهى تمثل «مصر» التى تجابه أطماع الجميع.. وتبحث عن معنى لحياتها وسط الأنواء والصراعات والتحديات.. ويمد لها البطل يده فى النهاية راغبًا فى حمايتها من نفسها.. ومن ضعفها.. ومن جموحها ومن جمالها الغارب.. يحاول أن ينقذها من الطوفان القادم.. يهرب بها من وجه العالم.. من براثن ظلمه وفظاظته وطغيانه.. لكن الجميلة التى تبدو ذاهلة عن نفسها والتى تعانى فصامًا حادًا ترى ضبابًا وتسمع تشوشًا.. تنحدر دموعها بلا توقف.. وتتلاحق أنفاسها دون انقطاع.. وتضطرب روحها.. ثم تتحول إلى تمثال يشبه جنينًا متكورًا.. ويثبت الكادر.. إن القضايا السياسية الكبرى التى تحتشد بها الرواية مثل: أزمة الديمقراطية و«الصراع على السلطة» والزحف نحو الديكتاتورية «والاستيلاب الدينى.. تتدفق من خلال أحداث متواترة الإيقاع وشكل يقترب من التحقيق الصحفى الذى تستخلص من سياقه المعنى الباطن ويحصد رموزًا تلعب براعة «فتحى غانم» فى أن يجعلها لا تفقد بعدها الواقعى والاجتماعى، فهو حريص كل الحرص على ألا تفسد الرموز إنسانية الطرح .. فهو يكتب لتعيش روايته فينا.. ونعيش فيها.. ويبقى دورها رابضًا فى الذاكرة حيًا فى الضمير.. ولا ينتهى أثرها بانتهاء تصفح أخبار فى جريدة يومية. [email protected]