كرَّمتْ الجزائر فى نوفمبر الماضى الفنان الراحل «محمد فوزى» لتلحينه النشيد الوطنى الجزائرى.. ومنذ أيام تم تكريم المؤلف الموسيقى الكبير «د. راجح داود» لتلحينِهِ النشيد الوطنى الموريتانى الجديد، بوسام «فارس»، باسم الرئيس الموريتانى «محمد ولد عبدالعزيز».. وفى الحالتين نتغيب تمامًا عن الاحتفاء بهذين الموسيقيين الكبيرين!. «عادتنا ولَّا هنشتريها». ونحنُ نحارب الإرهاب يبقى معنى «مُحاربة الإرهاب» مقرونًا – مع القليل من التفكير البسيط – بدعم كل ما من شأنه أن يُعلى من قيمة «الثقافة والفنون».. من دون الفن لا يُمكن مُحاربة العُقول الإرهابية.. من دون الثقافة لا يُمكن دحض «غسيل الأدمغة» بشكلٍ فعَّال.. فالأفكار تُحارب الأفكار.. هذا مُلخص لكُل شيء. سبب «عدم الاحتفاء» يُمكن أن نُلخصه فى رؤيتنا نحنُ للموسيقى.. نحنُ – أى الكثيرين منَّا - لا نحترم الموسيقى.. لا نُعطيها القداسة المطلوبة، وهو حقها.. بالتالى لا نحترم الموسيقيين.. ف«راجح» نفسه لديه مشكلة فى تعامل ونظرة الجمهور العربى إلى «الموسيقى الخالصة»، أى الموسيقى التى بلا غناء!.. رُغم أن لها جُمهورها، إلا أن الكثيرين يعتبرونها «فنّاً غربيًّا» أو «موسيقى غربية»!.. عن ذلك يقول «راجح» فى أحد لقاءاته: «الموسيقى الخالصة أو البحتة هى موسيقى ليس بها شرقى أو غربى، لكن نظرتنا هنا للموسيقى مع الأسف مقرونة بالأُغنيات فقط، رُغم أن لدينا أساتذة كبار فى التأليف الموسيقى مثل: أبوبكر خيرت، محمد عبدالوهاب، رياض السنباطى، عمر خيرت، ياسر عبدالرحمن، وجمال عبدالرحيم»!. هو أيضًا – أى «راجح» – لديه مشكلة أُخرى مع فكرة تعاطينا ل«موسيقى الأفلام».. ورُغم دِفاعه المُستميت عن الموسيقى الخالصة وأهميتها؛ فإن الكثيرين منَّا يعرفونه أكثر من «السينما»، لهذا هو لا يُحب مُصطلح «الموسيقى التصويرية» للأفلام.. يراه غير دقيق.. والتعريف الصحيح - كما صرح من قبل - هو «موسيقى فيلمية» أو «موسيقى سينمائية».. مصطلح «الموسيقى التصويرية» – كما قال - كان يُناسب أكثر السينما عندما كانت «صامتة».. لكن ليس الآن. لهذا نحنُ ندين ل«السينما»؛ لأنها عرَّفتنا ب«راجح»، خصوصًا أنه لا يُمكن فصله عن توأمه!.. لا يُمكن الفصل بين ال«داودين» – «د. راجح داود» والمخرج الكبير «داود عبدالسيد» – فكان أول أعمال «راجح» الروائية فيلم «الصعاليك» ل«داود»، والذى وضع فيه 20 قطعة موسيقية مختلفة، مُصاحبة لأحداث ومَشاهد الفيلم - منها تترا البداية والنِّهاية – وكان المُشاهد قد اعتاد أن تصحب مَشَاهد الفيلم حركة موسيقية واحدة أو اثنتين على الأكثر، وتعلو أو تهبط تبعًا للحدث!.. لهذا كتب عنها الكثير من نُقاد السينما: «موسيقاه فى الأفلام - التى عمل بها - لا تقل أهمية عن أى جزء آخر فى الفيلم، ولا يُمكن أن يستقيم الفيلم من دونها، كما أن موسيقاه غالبًا ما تكون من أبطال الفيلم بالمعنى المَجازى، أى تسهم بشكل كبير فى نجاحه وتوصيل رؤية المخرج وأفكارها لجمهور فيلمه». لم يسلم «راجح» مِن أسْهُم النُقاد فى الوقت نفسه، فقد هاجموه كثيرًا فى أحد أشهر أفلامه «الكيت كات»!.. وقد كتب النُقاد وقتها أنهم وجدوا الموسيقى «غريبة»!.. لا تُناسب الأجواء أو الشخصيات!.. وقتها دافع «راجح» عن الموسيقي: «الاعتياد عند النقاد وعند الجمهور على تيمات موسيقية مُعينة لمَشاهد مُعينة هو ما يوجد هذا اللَّبس وهذا التشويش، ومن هنا لا بُدَّ أن يكون لدَى المتلقى قدرة على استيعاب التطور، وعدم التلقى بأنماطٍ ثابتة، والدليل أن الأشخاص أنفسهم يكتشفون خطأ وجهة نظرهم فيما بعد».. وهو ما حدث بالفعل، فقد كتب النُقاد بعدها مُعتذرين عن رأيهم السابق عن موسيقى «الكيت كات»!. يحاول «راجح» عادةً الاعتماد فى أعماله الموسيقية التى يقدمها على آلات «سولو» مختلفة؛ سواء أكانت شرقية أم غربية؛ لتتناسب مع الفلسفة الخاصة بطريقته فى الكتابة الموسيقية.. وبالعودة ل«الكيت كات»؛ فإن تيمته الرئيسية تُعرف باسم «بسكاليا العود والأرغن» – كما سمَّاها «راجح» – ف«بسكاليا» تعنى فى الأساس «السائر فى الشارع»، وهى تُشير لحالة التخبُط والتيه التى يُعانى منها بطل الفيلم «الشيخ حُسنى» طوال الفيلم. كما نسمع «قداس الموتى» أو «المرثية الجنائزية»، وهو نوع من أنواع القداس الكنائسى، عادةً ما يستخدم آلات وترية والأرغن مع الجوقة والإنشاد الجماعى.. وكأننا نسمع أنغامًا ملائكية.. ثم نسمع آلة وترية شرقية.. العود بدلاً من الكمان.. صوت الأرغن الكنائسى.. شجن العود وكأنه يعيدنا إلى الماضى.. مزيج ساحر.. تدخل إلى القلب بسرعة وتستقر به. لهذا «راجح» يُشبه كثيرًا «الشيخ حُسنى».. يعزف ويُغنى ويُسمع عالمه صوته.. يُذكِّرهم بأهمية الموسيقى وتأثيرها.. لكن عالمه غير عابئ؛ لأن الموسيقى من «الكماليات»!. هو يُشبه بذلك فارسًًا من فُرسان الكلمة.. الموسيقية هذه المرَّة.. يملك من الموسيقى وعلمهِ الكثير.. لكن «مُحيطه» لا يهتم!.. «هى عادة العالم إياها ولَّا هيشتروها؟!».