لم تكن إيران استثناء عن الإقليم، وكان طبيعيًا أن تعم المظاهرات الاحتجاجية الشارع الإيرانى مطالبة بإصلاحات اقتصادية ما لبثت أن تحولت إلى مطالب سياسية تدعو إلى إسقاط النظام، وكأنه الربيع العربى لكن بصورة وبلغة فارسية. لكن أهم ما يميز الأحداث التى تشهدها إيران منذ أسبوع عن أحداث 2009، هى أن الاحتجاجات بدون قائد أو زعيم عكس مظاهرات 2009، التى كان يتزعمها عدد من الإصلاحيين الذين أخفقوا فى الانتخابات. فقد كان صراعًا بين جناحى النظام، الجناح الإصلاحى المتمثل فى مير حسين موسوى والجناح المحافظ أحمدى نجاد وغيره، فكانت أشبه ما يكون بصراع بين النخب الحاكمة، فضلاً عن أنها كانت فى المناطق الحضرية، أما الاحتجاجات الحالية فهى أوسع. إن الأوضاع الاقتصادية المتردية والتى تعيشها إيران أو «السواد الأعظم» من الشعب الإيرانى، دفعت الشباب للخروج بمظاهرات مطالبين بالإصلاح وبحياة معيشية أفضل خاصة أنه بعد توقيع الاتفاق النووى مع القوى الدولية تم الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة والتى بلغت تقديراتها نحو 100 مليار دولار مجمدة فى المصارف الدولية، استعادت منها 32 مليار دولار فى الأيام الأولى التى تلت توقيع الاتفاق، وبالرغم من الوعود التى أعلنها الرئيس حسن روحانى بأن الأوضاع الاقتصادية سوف تتحسن بعد الاتفاق؛ إلا أنه لم يحدث أى تطور فى عملية التنمية، ولم يكن هناك أى مردود على الشارع الإيرانى الذى ذاق مرارة تردى وسوء الأوضاع الاقتصادية طوال سنوات العقوبات التى فرضت عليه. أضف إلى ذلك أن ميزانية عام 2018 التى أقرها البرلمان مؤخرًا اكتشف الإيرانيون أن مليارات من الدولارات خصصت للإنفاق على جماعات ودول أخرى كسوريا وحزب الله فى لبنان أو الحشد الشعبى فى العراق أو الحوثيين فى اليمن، ناهيك عما يذهب أيضا للحرس الثورى خاصة «فيلق القدس» ومليارات أخرى تذهب إلى المؤسسات الدينية التى تزداد ثراءً، فى الوقت ذاته أقرت الميزانية الجديدة إنهاء الإعانات التى كانت تقدم للملايين من المواطنين، وزيادة أسعار الوقود، وخصخصة المدارس الحكومية. وعدم وجود خطة لتقليل البطالة التى وصلت إلى 40 % بين الشباب. شرارة الاحتجاجات الأولى كانت من خارج العاصمة الإيرانيةطهران وكانت الأطراف هى البداية ثم بعد ذلك انتقلت إلى مركز الدولة العاصمة فقد كانت البداية مدينة مشهد، وكرمنشاه، التى يسيطر عليها الأكراد، على طول الشريط الغربى لإيران، معقلاً للتظاهرات، ثم انتشرت بعد ذلك إلى الأحواز ذات الأغلبية العربية، وبعد ذلك إلى أصفهان (وسط إيران) ونوشهر وملاير وعشرات المدن الإيرانية الأخرى ثم طهران. اندلاع المظاهرات من مشهد كان له دلالة سياسية وهذا ما جعل خروج الشارع هذه المرة مختلفًا عن عام 2009، لأن تلك المدينة تضم ضريح على بن موسى الرضا ثامن أئمة الشيعة فى إيران ومشهده الذى به سميت تلك المدينة. الأمر الآخر هو أن مشهد هى مسقط رأس مرشد الثورة على خامنئى، وحرق صور المرشد والرئيس وهتافات تدعو لإسقاط المرشد شكلت تحولا فى مسارها ولعل هذا ما أحدث صدمة لدى النظام الإيرانى، لأنه منذ قيام ثورة الملالى كان هناك عرف وقانون وثوابت فى الدولة الإيرانية؛ إذ كان يتم انتقاد أى مسئول لكن لايمكن المساس بالمرشد، فكان مرفعًا عن كل نقد وفوق أى تجاوز، فهو وفقا للمادة الخامسة من الدستور الإيرانى الفقيه العادل المتقى العالم بأمور زمانه، الشجاع الكفؤ فى الإدارة والتدبير. لكن كانت المظاهرات كاسرة لكل ثوابت أو نواميس وضعتها الثورة الإيرانية منذ عام 1979، ولعل هذا يدفعنا إلى التأكيد على أن إيران قبل أحداث 2017، تختلف عن إيران بعد تلك الأحداث، حتى وإن لم تكتمل وتطيح بالنظام فإنها زلزلت أركانه بداية من المرشد الذى كان رد فعله على تلك الاحتجاجات متأخرًا ومقتضبًا. تلك المظاهرات وإن كانت غير قادرة على الإطاحة بالنظام إلا أنها أحدثت انقساما بين النظام والشعب الإيرانى، فهذه هى المرة الأولى التى يتم فيها حرق صور المرشد والهتاف ضده ونعته بالشيطان والديكتاتور من قلب القرى والمدن الإيرانية المترامية فى الأطراف والتى كانت ترى النظام الإسلامى حصنا لهم ومدافعا عنهم وكانوا يتعاملون معه بقدسية وحماسة، مطيعين لكل أوامره مهتدين بخطوات المرشد ومن معه، إلا أن الأمر تغير خلال العقد الأخير، خاصة بعد أن تفاقمت الأزمات الاقتصادية ودخول النظام فى مغامرات سياسية أشبه بالمقامرة السياسية فى الدول العربية وتفاخره من خلال قيادات الحرس الثورى بأنه بات يسيطر على أربعة عواصم عربية ويتحكم فى القرار بتلك العواصم. إلا أن النظام فوجئ بأنه لم يكن يدرك أو يفهم طبيعة ديناميات الشارع الإيرانى بالرغم من سيطرته على أربع دول عربية. لقد كان الانفجار مفاجئا فى توقيته شاملا لكل أركان نظام الملالى بداية من المرشد وحتى أصغر رجال الدين فى الحوزة الإيرانية، كما أن تلك الاحتجاجات شملت حتى الطبقة المتوسطة والفقيرة فى المناطق الحضرية والريفية التى شعرت بأن النظام وقياداته غير مبالين بأوضاعهم وهو ما وَلَّد داخلهم الشعور بالإحباط واليأس تجاه كل أركان النظام. الاحتجاجات حتى الآن غير قادرة على إحداث تغيير النظام وأقصى ما يمكن أن تفعله هو أن تشغل النظام فى تلك المرحلة بالأمور الداخلية «عملية إلهاء» لأن تلك الاحتجاجات تفتقد إلى عنصرين أساسيين كى تستطيع إحداث تغيير للنظام وتتحول إلى ثورة وهما: أن تلك الاحتجاجات لم يتم تأطيرها سياسيا وظلت مقتصرة على أحداث صنعها أفراد من عامة الشعب وأخفقوا بالتواصل مع الطبقة السياسية فى البلاد والنفاذ عبرها وحتى قيادات التيار الإصلاحى تخلوا عنها مبكرا بل اتهموا المحتجين بالعمالة والخيانة، الرئيس الأسبق محمد خاتمى المحسوب على التيار الإصلاحى وجه اتهاماته لواشنطن بأنها تعمل على إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار داخل إيران. وفى حقيقة الأمر فإن المسئولين المنتمين للتيار الإصلاحى خلافهم مع المحافظين المتشددين يكون على الأسلوب لكن الهدف واحد، لذلك ليس غريبا أن يجد المتظاهرون أن الإصلاحيين والمتشددين وقفوا فى جبهة واحدة ضد تلك الاحتجاجات ولعل هذا أعاد للأذهان موقفهم من احتجاجات سابقة شهدتها إيران أعوام 1999 و2003، لأن السياسيين الإيرانيين الإصلاحيين دائما ما يتبعون سياسة النأى بالنفس فى مثل تلك الاحتجاجات - الخارجة عن صراع النخبة - مخافة وصمهم بكونهم «خونة». خاصة بعد أن أعلن الرئيس دونالد ترامب تأييده لتلك الاحتجاجات ومطالبته المجتمع الدولى أن يساعد الشعب الإيرانى وأن واشنطن ستقدم دعمًا كبيرًا فى الوقت المناسب للمحتجين. الأمر الآخر: هو أن نجاح أى عملية احتجاج شعبى وعصيان لابد أن يتبعها بعد ذلك حالة حراك مجتمعى شاملة تعم مختلف أرجاء إيران ومشاركة لجميع القوى السياسية والاجتماعية، إضافة إلى ضرورة أن تكون لها ظهير مؤيد ومساند لها من جانب المؤسسات الأمنية والعسكرية، أى أن تتحول حركة الاحتجاج إلى حركة ثورية عامة وشاملة، وهو ما تفتقده الاحتجاجات التى تشهدها الحركة الآن، فتخلى الإصلاحيين عن تلك الاحتجاجات وخروج مظاهرات مؤيدة للنظام بل ومطالبة بإعدام «مثيرى الفتنة» كما يطلق عليه التليفزيون الرسمى والإعلام الإيرانى وقائد الحرس الثورى من شأنه أى يجهد أى عملية تغيير لتلك الاحتجاجات؛ ولعل هذا يفسر كيف أن النظام الإيرانى وخلافا لما هو معروف عنه من استخدامه للقمع والقبضة الحديدية فى إخماد أى إضراب أو احتجاج تشهده أى منطقة فى إيران فإنه فى هذه الحالة ظل يتابع ويراقب تطورات الوضع على مدار الأيام الثلاثة الأولى، وبعد أن تم توجيه تحذيرات للمحتجين بدأت قوات الأمن والحرس الثورى فى التعامل معهم وهو ما أسفر عن سقوط العشرات من المدنيين وعدد من العسكريين. النظام الإيرانى حتى الآن قادر على الإمساك بالجناحين الإصلاحى والمتشدد، السياسى والعسكرى، وطالما أنه لم تحدث انشقاقات أو تمرد داخل القوات المسلحة على النظام فإن النظام الإيرانى مستمر حتى إشعار آخر.