فى حضرة «روزاليوسف» (السيدة والمجلة)؛ تحاط «الكلمات» بهالات من القدسية.. وتمتلئ «الذكريات» بمعزوفات الحرية.. وتتوارث التاريخ أجيال تحمل فوق صدورها - بكل افتخار - الجنسية «الروزاوية». والارتباط بين أجيال «روزاليوسف» نفسها، وتراث مؤسستهم، ارتباط «قدري» بامتياز.. ارتباط غرسته - ابتداءً - السيدة المؤسسة للدار.. إذ ارتبطت «فاطمة اليوسف» بدارها برباط وثيق لا يمكن فصم عراه. ولُدت السيدة «فاطمة اليوسف»، فى مدينة طرابلس اللبنانية فى عام 1898م لأبوين مسلمين، هما: «محمد محيى الدين اليوسف» والسيدة جميلة.. وكانت الطفلة رقيقة البنية حلوة الوجه، صغيرة القد، خافتة الصوت، جديرة بالحب والرعاية، وكانت إلى ذلك مفخرة لأى والدين بما وهبها الله من ذكاء وجمال. عاشت «فاطمة اليوسف» طفولة قاسية عانت منها كثيرًا؛ فبعد وفاة والدتها عقب إنجابها، أودعها أبوها لدى أسرة مسيحية حتى ترتب لها أمرها من تربية وتعليم فى مقابل أجر كريم كان يدفعه لهذه الأسرة، وفى الوقت ذاته ترك مربيتها خديجة معها. سارت الأمور على هذا النحو، يزورها والدها من حين لآخر يطمئن عليها ويمد الأسرة بالمال الوفير، دون حدوث أى صدام أو خلافات، حتى جاءت اللحظة التى انقطعت فيها أخبار والدها، فبدأت هذه الأسرة فى تغيير معاملتها لفاطمة فتبدل الحنان إلى قسوة، وتبدل العطاء إلى بخل، وتبدلت المحبة إلى كراهية، وتغير اسمها من فاطمة إلى «روز» لكى يتوافق مع دين الأسرة. كان موت أبيها فاجعة لها، فلقد حُرمت حنانه رغم بعده الطويل عنها، وفقدت العطف على الرغم من قلته، ونتيجة لذلك فقدت الدعم المعنوى والمادى. تهيأت الظروف لهجرة «فاطمة اليوسف» إلى البرازيل مع أحد أصدقاء أسرتها، واندهشت الصبية حين لبى كافلوها رغبة الصديق فى حماس، فما كان منها إلا أن رحبت هى الأخرى بالفكرة فى حماس كبير. والغريب أنها لم تشعر بأى أسى أو حزن لفراق أحد فى طرابلس - إلا مربيتها خديجة - وفى طريقها إلى البرازيل ترسو السفينة فى ميناء الإسكندرية، وتنزل الصبية إلى المدينة الجميلة فتبهرها أضواؤها، ويشغلها سحرها عن السفينة التى لا تنتظرها كثيرًا فتبحر إلى البرازيل، وتترك الصبية «روز» أسيرة نداء المدينة الساحرة؛ التى قدر عليها أن تبقى بها بقية عمرها، ويا لها من حياة تنتظرها فى هذه المدينة، الإسكندرية! لم تكن «فاطمة اليوسف» مغامرة هبطت على شوارع مصر فى ليلة مظلمة غاب فيها القمر وملأت السحب السماء فكان ما كان، ولم تترك خلفها سوى الذكريات، لكنها كانت شعلة أضاءت الطريق لميلاد امرأة عربية تطرق أبواب القرن العشرين، وتسعى للخلاص من ميراث عصور طويلة وصعبة. كانت امرأة قوية التقطت نقاط ضعفها وحافظت على تدفق الدم فى قلبها، لقد كانت ثلاث نساء يتحركن لا امرأة واحدة، أفسح لها الجميع الطريق وكأنها موكب يضىء المستقبل للجميع. أما عن حياة «فاطمة اليوسف» العائلية، فلقد تزوجت «فاطمة اليوسف» ثلاث مرات: الأولى من المهندس محمد عبدالقدوس عام 1917 م، وكان قد ترك وقتها العمل الحكومى واتجه إلى الفن ثم طلقها بعد عامين، وكانت «فاطمة اليوسف» حاملاً فى ابنهما (إحسان)، ثم تزوجت من المخرج زكى طليمات، حيث رزقا بابنتهما (آمال)، كان اللقاء الأول بين زكى طليمات وفاطمة اليوسف فى بيتها، حيث اصطحبه أحد الكتاب المسرحيين المعروفين إلى منزلها، فلما دخل زكى طليمات إلى المنزل، سألته فاطمة اليوسف عن اسمه؟ لم يستطع زكى طليمات أن يحرك ساكنًا وكأنه قد بلع لسانه، وعندما أجاب بأن اسمه زكى طليمات، ضحكت فاطمة اليوسف من اسم طليمات، لكن لسانه انطلق فى هذه المرة يروى أسطورة الحب. وتزوجت «فاطمة اليوسف» بعد ذلك من «قاسم أمين» حفيد «قاسم أمين» صاحب كتاب (المرأة الجديدة). ولها من الأولاد اثنان: إحسان عبدالقدوس وآمال زكى طليمات، ولها من الأحفاد خمسة: محمد إحسان محمد عبدالقدوس، زكى الجندى، أحمد عبدالقدوس، فاطمة أحمد يوسف الجندى، زين أحمد يوسف الجندى، يوسف أحمد يوسف الجندى. تاريخيًا.. يمكن أن تعزى نشأة المسرح العربى إلى ثلاثة من الرجال هم : مارون النقاش، وأحمد أبو خليل القبانى، ويعقوب صنوع. اعتمد الأول - مارون النقاش - على النص الأدبى كمدخل للمسرح، انطلاقًا مما فى النص من قيمة أدبية، فى حين اعتمد السيد أحمد القبانى على عناصر الغناء، والرقص، والإنشاد ودمجها فى النص الأدبى كأساس لقيام المسرحية، أما يعقوب صنوع فقد ركز على الواقع الاجتماعى الذى كانت تعيشه مصر فى تلك الفترة، واستخدم صنوع كل حيلة فنية وقعت له لاستنباط الضحك والفكاهة فى المسرحية، كما استعمل الفكاهة الراقية غير المبتذلة. كان المسرح المصرى قبل قدوم فاطمة اليوسف قد اتخذ أولى خطواته فى النشأة والترقي؛ حيث انطلقت أول مسرحية مصرية اتخذت شكل الميلودراما الاجتماعية فى عام 1894 م، وهى بعنوان (صدق الإخاء) لمؤلفها إسماعيل عصام. كانت مثل هذه المسرحيات تهدف إلى تبصير الأغنياء بمضار الترف وتبديد الثروات. تأتى أهمية هذه المسرحية فى أنها كانت البشير الأول بقيام المسرحية الاجتماعية المؤلفة، وأيضًا مضت هذه المسرحية قدمًا مع رحلات الفرق الفنية. ولعل من أهم الشخصيات المسرحية فى تلك الفترة الممثل جورج أبيض، الذى وصفته جريدة الأهرام بأنه (أول ممثل وطنى أصولي). أوفده الخديو عباس حلمى الثانى فى عام 1904 م إلى فرنسا لتعلم فن المسرح، وعندما عاد فى عام 1910 م قام بتمثيل بعض المسرحيات باللغة الفرنسية، ثم قام بالتمثيل بالعربية. على الجانب الآخر تنوعت الاتجاهات الفنية فى المسرح المصرى، فقد ظهر الفنان «عزيز عيد» الذى عمل ممثلاً ومخرجًا، إلى أن أسس أول فرقة مسرحية نظامية لها طاقم فنى متحمس ومتحد وهى فرقة (رمسيس)، وكان على رأس هذه الفرق الممثلة الموهوبة، صاحبة السيرة (فاطمة اليوسف) أو (روزاليوسف). عندما وفدت «فاطمة اليوسف» إلى الإسكندرية عاشت مع أسرة «إسكندر فرح»، الذى عاملها كابنة من بناته، ثم ما لبثت الفتاة أن تحسست تباشير الفن والتمثيل حيث كان «إسكندر فرح» يملك فرقة تمثيل لعلها كانت آخر الفرق الشامية الوافدة إلى مصر، والتى ساهمت فى إرساء قواعد المسرح المصرى، وقد ظلت فرقة (الجوق المصرى العربي) تعمل ثمانية عشر عامًا (1891-1909 م)، وقد تدرب فيها عدد كبير من الممثلين المصريين، ويرجع استمرار نشاط الفرقة لفترة طويلة إلا أنها كانت تمثل مسرحية جديدة كل شهر. سجلت «فاطمة اليوسف» أحاسيسها تلك فى العدد الأول من مجلة روزاليوسف الصادر فى 26 أكتوبر سنة 1925 م، حينما قالت: (كذلك كان حالى مع فنى الجميل، كنت لم أتجاوز الرابعة عشرة حينما خطر لى أن أمثل، وكانت تربطنى صلات بأصحاب تياترو شارع عبدالعزيز..). انطلقت الفتاة تشاهد فرق التمثيل المختلفة، وكانت تتطلع إلى الفنانين والفنانات بكل شغف وفضول، كأنها تنتظر اليوم الذى تحل هى مكانهم. تعلمت «روزاليوسف» الفن على يد معلمها عزيز عيد، والذى تقول عنه: (إننى لا أعرف فنانًا مصريًا ضحى من أجل الفن مثل عزيز عيد، ولم يكن عزيز فنانا على المسرح فحسب.. بل كان فنانا فى حياته الخاصة، بل فى علاقاته بالناس.. فنانًا حتى أطراف أصابعه). (كان عزيز عيد يرضى بالفقر والجوع وبأى شيء إلا أن يخرج رواية تمثيلية بطريقة لا يرضى عنها، فإذا أخذ فى إخراج رواية دقق فى اختيار الممثلين تدقيقًا بالغًا، وكان لا يعطى أقل الأدوار مساحة لممثل لا يؤمن بكفاءته). وكان هذا اعترافًا من «روزاليوسف» بالجميل والعرفان لعزيز عيد الذى تبناها فى دنيا الفن. مضت «روزاليوسف» تعمل فى التمثيل بعد ذلك (كومبارس)، لكن لم يطل الحال بها، فلقد قام عزيز عيد بتقديمها إلى الجمهور فى قالب فنى جديد، حيث قامت «روزاليوسف» بالاشتراك فى تمثيل رواية (عواطف البنين). كانت هذه الرواية تحتوى على ثلاثة أدوار نسائية: الجدة، والأم، والحفيدة، وكانت الفرقة تضم خمس ممثلات سوريات، تجاوز معظمهن سن الأربعين، فعهد عزيز عيد بدور البنت إلى أصغرهن، ودور الأم إلى أوسطهن، ورفضت الباقيات أن تمثل دور الجدة؛ فكانت فرصة روز التى أُتيحت لها، وحقيقة الأمر أن دور الجدة الذى مثلته «روز» ناسب فى الواقع حجم المرأة العجوز التى تخرج الكلمات من فمها همسًا، بل إن الصحيح أيضًا أن «روزاليوسف» حطمت القاعدة التى تجعل الممثل الناجح ذا صوت ضخم وجسم ضخم. انتاب «روز» شعور بالخوف والرهبة فى مواجهتها الأولى للجمهور - فى دور رئيسى، غير أن عزيز عيد عمل على تثبيت «روزاليوسف» على المسرح، فوالاها بالتدريب والتوجيه حتى تمكنت من مخارج اللفظ وخلجات التعبير. منذ ذلك التاريخ، أخذت «روز» تعتلى خشبة المسرح فى أكثر من رواية وفى مختلف أنواع التمثيل، حيث كانت ترى الفن فى هذه المرحلة من حياتها أسمى ما لديها، فلقد قالت: (الفنان الحقيقى لا يعتز بشيء قدر اعتزازه بفنه وكرامته، ولا يرى فى الدنيا شرفًا أرفع من الولاء للمثل العليا التى يمثلها هذا الفن أو مجدًا يدانى الإخلاص له والتفانى فى خدمته، وكل سيد غير الفن فى نظر الفنان الحقيقى - مهما كانت عظمته ومهما بلغ مجده وسلطانه - أتفه من أن يرضى بأن يضحى من أجل بذرة واحدة من ولائه للفن. تنقلت بعد ذلك «روزاليوسف» بين الفرق الفنية؛ فعملت فى فرقة إسكندر فرح، ثم انتقلت إلى فرقة الفودفيل، التى أسسها عزيز عيد، ثم انتقلت إلى فرقة عبدالله عكاشة، وهناك أدت بعض المقطوعات الموسيقية مع محمد عبدالقدوس، الذى عمل معها فى فرقة عكاشة، وكانت هذه المونولوجات تُلقى بين الفصول على أنغام الموسيقى. التحقت «روزاليوسف» بعد ذلك بفرقة جورج أبيض الجديدة، ولقد تهيأت الظروف لأن تتبوأ هذه الفرقة مكانة رفيعة وعظيمة بين الفرق الفنية. وقد مثلت «روزاليوسف» مع فرقة جورج أبيض على مسرح الأوبرا رواية (الشعلة). ظهرت فى تلك الفترة فرقة عبدالرحمن رشدى، وقد أنشأها عبدالرحمن رشدى بعد خلافاته مع جورج أبيض. فيما بعد.. أصبحت «روزاليوسف» بطلة مسرحيات «يوسف وهبي»، وقد نجحت نجاحًا رائعًا، وبلغت ذروة المجد فيها، وبخاصة عندما مثلت دور «مارجريت جوتييه» فى رواية «غادة الكاميليا»، وهنا أطلق على «روزاليوسف» الاسم الخالد «سارة برنار الشرق» لبلوغها المجد الذى وصلت إليه «سارة برنار» ممثلة فرنسا الأولى.. وكان هذا الدور هو فاتحة خير على «فاطمة اليوسف» إذ ظلت لمدة ثلاث سنوات متتالية فى فرق «يوسف وهبي» مثلت خلالها عشرات الأدوار، ثم تركت بعدها فرقة «يوسف وهبي»! ثم انتقلت أخيرًا «روزاليوسف» إلى فرقة نجيب الريحانى الذى قرر أن يمثل الروايات التراجيدية، لكن الجمهور لم يستحسن ظهور الريحانى فى أدوار التراجيديا، حيث كان قد ألفه طيلة مسيرته الفنية ممثلاً كوميديًا.. الأمر الذى حال بين «روزاليوسف» وبين أداء أدوارها على النحو المأثور عنها، لذلك أبت أن تستمر وخرجت من الفرقة، ثم خرجت بعدها من مجال الفن بلا رجعة. ولعل من أشهر الأدوار التى لعبتها الفنانة «روزاليوسف» كان دور «غادة الكاميليا، وأوبريت العشرة الطيبة، ودافيد كوبر فيلد، والتاج والفضيلة».. إلا أن الأقدار كانت تدخر لها دورًا آخر أكثر سخونة.. لكن فى بلاط صاحبة الجلالة هذه المرة، لا على خشبة المسرح.