«موقعة دنكرك» أو «هزيمة وانسحاب دنكرك» أو «معجزة دنكرك» كما يصفها البعض هى واحدة من أكبر معارك الحرب العالمية الثانية لا يكل المؤرخون والمحللون وكتاب الروايات وصناع الأفلام من العودة إليها مرارًا رغم مرور أكثر من 77 عامًا عليها. صحيح أنه لا يمر عام تقريبًا دون أن تظهر أفلام روائية ووثائقية عن الحرب العالمية الثانية إلا أن عام 2017 كان عام «دنكرك» بامتياز بعد أن ظهر فيلم «دنكرك» للمخرج البريطانى الأمريكى كريستوفر نولان الذى أثار جدلاً كبيرًا خرجت على أثره العديد من الكتب عن الفيلم والمعركة. وكذلك عدد من الأفلام الوثائقية بجانب فيلم روائى آخر بعنوان «عملية دنكرك» لمخرج اسمه نيك ليون، واضح أنه صنع على عجل استغلالاً للجدل المثار حول فيلم كريستوفر نولان، ومحاولة لتقديم صورة أخرى عن المعركة والحرب عمومًا، ولكنه على عكس فيلم نولان جاء شديد التواضع كتابة وإخراجًا وتمثيلاً، بالإضافة إلى امتلائه بالأخطاء التاريخية المضحكة! دنكرك.. الكارثة والمعجزة على أية حال، وقبل الخوض فى تفاصيل الأفلام يفضل أن نعرف أولاً بعض المعلومات عن المعركة وأسباب الجدل المثار حولها. دنكرك هو اسم ميناء ومدينة ساحلية تقع شمال غرب فرنسا على بحر الشمال الفاصل بينها وبين بريطانيا، كانت آخر معقل للقوات الفرنسية التى منيت بهزيمة ساحقة على يد القوات الألمانية عام 1940، وقد حاولت القوات البريطانية مساعدة الفرنسيين فتلقت هى الأخرى ضربات مدمرة، وحوصر بقايا الجيشين فى ذلك الميناء عاجزين عن المقاومة وعن الانسحاب، وخلال حوالى أسبوع واحد من 26 مايو إلى 4 يونيو 1940 ، تحول الميناء والمناطق القريبة منه إلى جحيم برى وجوى وبحرى فى سباق محموم بين الجيشين الإنجليزى والفرنسى اللذين يحاولان إجلاء البقية الباقية من جيوشهما، وبين قوات النازى التى تحاول أسر وتدمير الجنود الفارين، والذين كان يبلغ عددهم حوالى 400 ألف جندى وضابط، وفى النهاية نجحت القوات البريطانية والفرنسية فى إنقاذ حوالى 330 ألفًا، بينما فقد أكثر من 40 ألفًا حياتهم فى أكبر عملية إجلاء قوات عرفها التاريخ فيما عرف باسم «العملية دينامو». رغم مأساوية الحدث، فإن الحلفاء استطاعوا أن يحولوا الهزيمة إلى انتصار، بل أطلقوا على موقعة الانسحاب «معجزة دنكرك»، وكما نعلم استطاعوا لاحقًا الانتصار على الألمان بعد دخول الاتحاد السوفيتى ثم الولاياتالمتحدةالأمريكية الحرب. لم تزل موقعة دنكرك موضوعًا لكتب وأفلام وثائقية كثيرة، من أحدثها مثلا كتاب «معجزة دنكرك.. القصة الحقيقية وراء العملية دينامو» للكاتب والتر لورد، وكتاب «دنكرك.. التاريخ وراء الفيلم» تأليف جوشوا ليفى، وكذلك البرنامج الوثائقى الحديث الذى عرضته قناة «بي. بي. سي». من أوائل الأفلام التى صنعت عن دنكرك فيلم بريطانى قديم «أبيض وأسود» ظهر عام 1958 من إخراج ليزلى نورمان وبطولة جون ميلز وريتشارد أتنبورو، وهو نموذج للفيلم الحربى الدعائى، الذى يبرز البطولات ويعتمد على النبرة الخطابية والإرشادية. يبدأ الفيلم بعرض مقتطفات من الأرشيف الإخبارى، الجريدة السينمائية، لتلك الفترة، قبل أن تبعد الكاميرا فنكتشف أن الجريدة المصورة تعرض على قطاع من الجنود والضباط الإنجليز المتفائلين، الذى يضحكون على مقاطع رسوم متحركة تصور الزعيم الألمانى أدولف هتلر يفر جاريًا تحت ضربات الحلفاء. ننتقل إلى مقر قيادة الجيش البريطانى، حيث يجرى المتحدث باسم الجيش لقاء مع مندوبى الصحف، وهو لقاء يتسم بعدم الصراحة وينتهى بالصحفيين مستائين، وساخرين، وبالتحديد اثنان منهما سوف يقرران التطوع والانضمام إلى الحرب فى مرحلة لاحقة، عندما يوصل الفيلم رسالته بأنها حرب مقدسة يجب على كل وطنى حقيقى أن يشارك فيها. يعتمد الفيلم على الحوار بشكل أساسى، ومشاهد الجيوش والحرب فيه قليلة، بعضها يعتمد على الأرشيف، وبعض المشاهد تمزج بين الأرشيف والتمثيل داخل اللقطة الواحدة عن طريق شاشة العرض الموضوعة فى خلفية الاستوديو، مثل مشهد سير عربات الجنود على خلفية شاشة تعرض لقطات للجماهير المحتشدة فى الشوارع لتحيتهم، كذلك يعج الفيلم بلقطات لجرائد ونشرات أخبار وخطب زعماء أرشيفية، وباجتماعات القادة الذين يخططون للحرب كأنهم يلعبون الشطرنج، وكلها صفات تتسم بها أفلام الحرب الدعائية، على عكس نوعية أفلام الحرب الهجائية، التى تهجو الحروب عمومًا، أو أفلام الحرب الإنسانية، التى تركز على معاناة الأفراد والعائلات من ويلات الحرب. ولكن رغم بساطته التقنية التى تبدو ساذجة بمقاييس السينما المعاصرة، ورغم نبرته الدعائية، فإن «دنكرك» 1958 يتسم بدرجة من النبل والصدق تعبر عن جيل دفع الكثير جدًا من أجل الدفاع عن بلاده فى أسوأ حرب عرفها التاريخ. نولان.. من باتمان إلى سواحل دنكرك الدنيا تغيرت الآن وكذلك العقول والأمزجة. التاريخ نفسه لم يعد ينظر إليه كما كنا ننظر إليه قديما بنوع من التصديق والتقديس. كل شيء الآن قابل للمراجعة وإعادة النظر والتاريخ لم يعد يكتبه المنتصرون أو القادة والسياسيون، بل البسطاء الجالسون يسجلون شهاداتهم عن الأحداث على الفيس بوك! كريستوفر نولان، المولود عام 1970، هو ابن بكر لهذا الجيل، وواحد من أفضل من يعبر عنه سينمائيًا منذ بداية الألفية الثالثة عندما صنع فيلمه المدهش «ميمنتو» عام 2000 ، الذى قام فيه بقلب السينما حرفيًا، حيث إن أحداث الفيلم كلها تسير بالمقلوب، وكل مشاهده مرتبة عكسيًا. استطاع كريستوفر نولان أن يثبت أن «ميمنتو» لم يكن مجرد «بدعة» أو «إيفيه»، بل نموذج لطريقة تفكير شابة تنظر إلى العالم والفن السينمائى من وجهات نظر جديدة وطازجة. وخلال خمسة عشر عامًا قدم عددًا من الأفلام المبتكرة والناجحة نذكر منها «أرق» الذى لعب بطولته آل باتشينو والراحل روبن ويليامز، «بداية باتمان» و«فارس الظلام»، اللذين أعادا تشكيل سلسلة أفلام باتمان وأفلام الأبطال الخارقين عمومًا، «تصور inception الذى يعد واحدًا من أعمق وأمتع الأعمال الفنية التى سبرت فكرة الزمن ونسبيته». ما الذى دفع نولان إلى صنع فيلم حربى عن معركة دنكرك؟ فى الكتاب الصادر حديثًا الذى يضم سيناريو الفيلم والكثير من اللوحات المرسومة من «ستورى بورد» الفيلم، بالإضافة إلى حوار مطول معه أجراه جوناثان نولان، شقيق كريستوفر، وهو كاتب وأديب نذكر أن فيلم «ميمنتو» مأخوذ عن قصة قصيرة له.. فى هذا الحوار يقول نولان إن الفكرة بدأت عندما قرر مع أحد الأصدقاء أن يذهبا فى رحلة برية وبحرية عبر الطريق الذى سارت فيه القوات البريطانية منذ ذهابها لتحرير فرنسا وحتى انسحابها الأسطورى، وهى رحلة خطرة بسبب الطبيعة الجغرافية وسوء الأحوال الجوية، حتى بدون وجود طائرات ودبابات تقذف بالصواريخ والقنابل فى كل خطوة يمران بها! يروى نولان أيضًا كيف اختمرت الفكرة فى رأسه تدريجيًا، والبحث المضنى الذى قام به وسط الكتب والوثائق التى تدور عن الموقعة، وتصوره عن الفيلم والأفلام الحربية الأخرى التى تأثر بها، مثل «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية»، إخراج لويس مايلستون 1930، وهو واحد من أقدم وأروع الأفلام المناهضة للحرب، ومثل «الخيط الأحمر الرفيع»، إخراج تيرانس مالك، 1998 ، وهو مثل «كل شيء هادئ».. فيلم مناهض للحرب بامتياز. لا أعلم إذا كان القارئ قد شاهد «دنكرك» نولان أم لم يشاهده بعد، ولكن يمكن أن تعتبر هذا المقال دعوة لمشاهدته، فهو عمل لا يحكى، ولا يكتب عنه، بل يعاش. باختصار هو مثال حى عن الفرق بين الفن وأى وسيلة تعبير أخري. الفن ليس أن نتحدث عن الموضوع، ولكن أن نجسد ونخلق الموضوع نفسه.. يعنى لو كنا نصنع عملاً فنيًا موضوعه أهوال الحرب، فيجب أن نشعر فعليًا، بشكل رمزى بالقطع، بمدى الألم والخوف والمعاناة التى يتعرض لها الناس الذين يحاصرهم الموت. من هذه الفكرة ينبع فيلم نولان بالكامل، وكل عناصره من سيناريو وتصوير ومونتاج وتمثيل تخدم هذه الفكرة وتعبر عنها. يخلو فيلم نولان من الحوار تقريبًا، ولا مكان فيه للمواد الأرشيفية الدعائية أو خطب الزعماء أو اجتماعات القادة فى غرف العمليات، والجنود فيه ضعفاء خائفون فى وجه الموت، بينما يبرز الفيلم بطولة المدنيين الذين توجهوا بقواربهم الصغيرة فى عرض المحيط لإنقاذ من يمكن إنقاذه من الجنود.. وحتى يؤكد الفيلم فكرته، فإن أحد هؤلاء المدنيين، وهو مراهق صغير، يقتل على يد أحد الجنود الخائفين! تجارة أفلام الحرب على عكس «دنكرك» 1958 الذى يعتمد على اللقطات القريبة والمتوسطة، يعتمد فيلم نولان على اللقطات الواسعة التى يظهر فيها الجنود وكأنهم فصيلة من النمل تتعرض لضربات قوة هائلة غير مرئية، وعلى عكس الموسيقى التصويرية الحماسية التى تميز معظم أفلام الحرب الدعائية، فإن «دنكرك» نولان يحوى موسيقى تعبر عن الترقب والخوف والألم، كتبها الموسيقار العبقرى هانز زيمر، وهو بالمناسبة مؤلف الموسيقى التصويرية لفيلم «الخيط الأحمر الرفيع» الذى يعشقه نولان. أيضًا وعلى عكس الأفلام الحربية الدعائية التى تصور الأعداء فى صورة وحش كريه عديم الضمير والإنسانية، فإن فيلم نولان لا يحتوى على صور للجنود الألمان على الإطلاق، باستثناء مشهد أخير عابر، وهو ما يزيد الإحساس بالرعب من ناحية، ويؤكد فكرة أن الحرب، مثل الموت، كائن غيبى مطلق القوة، غير أن الفرق الوحيد ربما هو أن الحرب من صنع ومسئولية الإنسان وليس قوانين الطبيعة. ربما يبدو فيلم «دنكرك» نولان صعبًا على الهضم خاصة للمشاهدين المعتادين على أفلام الأكشن التجارية، التى يمكن أن نجد نموذجها الأمثل والأسوأ فى فيلم «العملية دنكرك» الذى ظهر بعد أسابيع من فيلم نولان، فى محاولة لاستغلال «هيصة» الحديث عن دنكرك. على عكس «دنكرك» نولان الذى لا نرى فيه صورة الأعداء الألمان، يبدأ «العملية دنكرك» بضابط ألمانى، تقريبًا هو الشخصية الرئيسية فى الفيلم، يقوم بتعذيب أحد أفراد المقاومة، للحصول على شفرة سرية مهمة، حيث يضربه بقسوة ويسبه ويهدده ثم يغرز فى يده ولاحقًا فى وجهه حقنة كبيرة تحوى مادة تؤثر على الإرادة، وعندما تفشل كل هذه الوسائل يهدده بقتل أسرته، فيعترف الرجل، ولكن الضابط الألمانى يقتله بعد أن يحصل على المعلومات.. وبعدها نراه وهو يقتل مدنيًا آخر غدرًا، ويقوم بتعذيب ثالث، ويطارد الجميع مثل ذئب جائع، مبتسمًا ابتسامة الأشرار التقليدية الصفراء. أما الحلفاء فهم جميعًا أبطال، بينهم امرأة فرنسية قتل الألمان عائلتها، وضابط لديه زوجة وطفل يحمل صورتهما باستمرار، ولكن عندما يصاب يخبر زملاءه بأن يذهبوا ويبقى هو ليحارب الألمان حتى الموت، وضابط آخر هو الضد الطيب للضابط الألمانى الشرير، يستطيع بحكمته وشجاعته أن ينتصر بعدد محدود من الجنود على مجموعة الضابط الألمانى التى تتفوق عليهم فى العدد والعدة والعتاد.. وفوق كل هذا الهراء الفكرى يخلو الفيلم من الجمال أو التقنية الفنية الجيدة، فى إنتاج رخيص وممثلين فاشلين يذكرنا بكثير من الأفلام المصرية الحربية!