أما تحيتك فإنى أشكرك عليها، وأما تجربتك فإنى واثق أنها تستند على دروس الحياة. وأما تقديرك لما أبذله من جهد فإنى أشعر بالعرفان لإحساسك به. وأما رأيك فى أنى لا أستطيع أن أفعل وحدى كل شيء فإن هذا رأيى أيضا ورأى كل زملائى من الضباط الأحرار، نحن الذين قامت حركتنا على تنظيم كامل عاشت فيه الفكرة وتوارت الأشخاص وقام كل فرد فى ناحيته بأقصى ما يستطيع من جهد. وأما أنى فى حاجة إلى كل رأى فقد أعلنت هذا ولن أمل تكرار إعلانه، ليس من أجلى وإنما من أجل مصر. وأما حاجتنا إلى الخلاف فى التفاصيل قدر حاجتنا إلى الاتحاد فى الغايات فأنا مؤمن به وأثق أنه من أسس الحرية الصميمة، بل من أسس النظام أيضا. وأنا أكره بطبعى كل قيد على الحرية وأمقت بإحساسى كل حد على الفكر على أن تكون الحرية للبناء وليس للهدم، وعلى أن يكون الفكر خالصا لله وللوطن. ودعينى ألجأ إلى تجربتك لكى تبقى الحرية للبناء ويبقى الفكر لله والوطن لا تخرج بهما شهوات وأغراض ومطامع عن هذه المثل إلى انقلاب مدمر يصيب مصالح الوطن المقدسة بأبلغ الأضرار. لقد قلتِ أنتِ بنفسكِ إنك تعلمين أنى أخشى على موقف البلاد الصلب من إطلاق الحريات خشية أن يندس بين أمواجها دعاة الهزيمة والتفكك. لقد عبرت بهذا عن جزء مما أشعر به. واسمحى لى أن أضيف عليه شيئا آخر هو أننى لا أخشى من إطلاق الحريات، وإنما أخشى أن تصبح هذه الحريات كما كانت قبل 23 يوليو سلعا تباع وتشتري. أنتِ لا تتصورين كم فجعت لما أتيح لى أن أطلع فى وثائق الدولة على مأساة الحرية. لقد كان للحرية سوق وكانت للأفكار تجارة وكانت الحرية تضيق وتتسع بالأرقام. وكانت الأفكار تنقلب طبقا للأسعار التى تدفع فيها، وأنا لا أقصد بذلك أن أمس جميع الصحفيين، وإنما الذين أقصدهم هم جميع هؤلاء الذين قرأت أسماءهم فى كشف المصاريف السرية، وأنا أريد أن أصون الحرية من هذا العبث. ولا يتفق ومبادئنا أن تصفق لنا الجرائد على صفحاتها لأننا أطلقنا كل الحريات ثم نذهب من وراء الصفحات فنشترى هذه الحرية التى رأينا من وثائق الدولة كيف كانت تباع بأبخس الأثمان. ونحن لا نريد أن يشترى الحرية غيرنا.. ومن يدرى فقد يكون بينهم أعداء للوطن يغرقون هذا الشعب الطيب الوديع الذى استغلت طيبته واستغلت وداعته واستغل قلبه المفتوح وغرر به دون ما أساس سليم يصونه من التضليل - بما لا يجب أن يغرق فيه فى هذه الظروف العصيبة التى تمر بالوطن. وثقى - وليثق معك كل مواطن - أن أعداء البلاد على استعداد لأن يدفعوا أغلى الأثمان فى سبيل استغلال طيبة الشعب وقلبه المفتوح والتغرير به وخداعه مرة ثانية حتى يصلوا إلى أغراضهم. ونحن الآن فى سبيل إرساء الدعائم ووضع الأسس التى تنهض عليها فى المستقبل حرية جديرة باسمها خليقة بمعانيها السامية مصونة من العبث مرتفعة فوق المساومات. ومع ذلك فأين هى الحرية التى قيدناها، أنتِ تعلمين أن النقد مباح وأننا نطلب التوجيه والإرشاد ونلح فى الطلب، بل إننا نرحب بالهجوم حتى علينا إذا كان يقصد منه إلى صالح الوطن وإلى بناء مستقبله وليس إلى الهدم والتخريب ومجرد الإثارة. ذلك لأننى أعتقد أنه ليس بيننا من هو فوق مستوى النقد أو من هو منزه عن الخطأ. وبعد، فإنى أملك أن أضع رأسى على كفى، ولكنى لا أملك أن أضع مصالح الوطن ومقدساته هذا الوضع. «جمال عبدالناصر» 11 مايو 1953