قبل أيام حلت ذكرى الدكتور المستنير نصر حامد أبوزيد، ذلك الرجل الذى لا تزال أطروحاته موضوعاً ثرياً للنقاش والجدل بين نخبة المثقفين والمهتمين بالشأن الدينى حول العالم وبخاصة أولئك المهتمين بتجديد الخطاب الدينى ليواكب روح العصر.. قضى الرجل الذى ظل يعانى طوال حياته بسبب أفكاره التى قوبلت بالرفض فى الأوساط الدينية المحافظة، وظلت أفكاره حية يتداولها من بعده جيل تلو جيل من التلاميذ والباحثين. عرفت الكنيسة الأرثوذكسية نموذجاً موازياً لنموذج نصر حامد أبوزيد أثارت أفكاره ضجة كبيرة فى الأوساط اللاهوتية بسبب ما تحمله من قدر كبير من الاستنارة، وهو الأب القس صموئيل وهبة، والذى ظلت أفكاره محصورة فى الأوساط النخبوية ولم تخرج إلى المجتمع الكنسي، وصاحب التشبيه بين القس صموئيل وهبة والدكتور أبوزيد هو الباحث والأب أثناسيوس حنين مستشار رئيس أساقفة أثينا للشئون العربية. قدم الأب أثناسيوس لنا شهادة عن رحلة صعود واضطهاد الأب صموئيل فقال: بدا لجيلى الذى درس اللاهوت فى جامعات اليونان وفرنسا وألمانيا أن البابا شنودة الثالث كان سعيداً بهذه الدراسات، وكان الأب الدكتور صموئيل وهبة من أول الدارسين ولقد نجح الأب صموئيل فى مزج بساطة الإنجيل بعمق البث اللاهوتى التقنى وهذه فرادة تحسب له ولهذا أحبه البطريك حباً خاصاً لأنه بسيط. قام الأب صموئيل بالتدريس فى الكلية الأكليريكية مادة «العهد الجديد واللغة اليونانية»، ونحن نشفق على كل من يريد معرفة خبايا الإنجيل ولا يعرف اللغة اليونانية وخاصة من الأكليروس والخدام ونهمس فى آذانهم ألا يكونوا مغالين فى الثقة أن النص يقول باللغة العربية كل شيء وأن يسألوا أهل العلم إن كانوا لا يفقهون. ظن الدكتور «وهنا فعلاً كان كل الظن إثماً وليس بعضه»، وظننا معه أن الساعة جاءت لكى تستعيد مصر دورها اللاهوتى وريادتها العلمية على يد جيل من الشباب زرع وحده بالدموع وها هو يحصد «للكنيسة كلها» بالابتهاج، ووقف صموئيل وهبة فى قاعة الدرس يشرح ويسلم ما استلمه من آباء الكنيسة العظام ومن أحفادهم علماء اللاهوت الأرثوذكس، فى أثناء مناقشة رسالة الدكتوراه التى قدمها إلى كلية اللاهوت فى جامعة تسالونيكية عام 1999، وكتب لى إهداء على النسخة التى قدمها لى نصه «إلى أبى الحبيب القس أثناسيوس مع تمنياتى القلبية بتعزية آلام المسيح وبقوة وفرح قيامته فى خدماتكم لكنيسته - أخوك مجدى وهبة تسالوينكى 10/5/2000». كانت المسيحية كلها عند مجدى أفندي، كما كان يحب أن يسميه والدى فى سمالوط، هى قلب مشتعل بحب المسيح أحب الجميع فأحبه الجميع فى سمالوط، حيث مسقط رأسه والمنيا حيث درس فى كلية الزراعة. بدأ الدكتور مجدى التدريس فى الأكليريكية وأراد الرجل أن يسلم ما سبق واستلمه من أساتذة كبار مشهود لهم فى العالم أجمع، وصدق وصدقنا معه أن القبط يعيشون عصر النهضة والعلم. فاتنا أن نورد عنوان رسالة الدكتوراه وهى «الأم وقيامة المسيح وما يتعلق بها من قضايا ومشاكل تفسيرية كما وردت فى شروحات وتفاسير الشراح والمفسرين الإسكندرانيين والأقباط». ذكر الباحث أولاً الآباء الكبار أغريغوريوس اللاهوتى «القرن الثالث» ويوحنا الذهبى الفم «القرن الرابع»، ذكر أيضاً الأب صموئيل من الأقباط المستعربين كل من حاول أن يكتب تفسيراً علمياً كان أو روحياً، شعبياً كان أو أكاديمياً إلى أن جاء إلى الأنبا شنودة الثالث فقال عنه «هو البطريرك الحالى للكنيسة القبطية منذ 1971 ووالبطريرك المائة والسابع عشر وهو الأب الروحى لعشرة ملايين قبطي، وهو شخصية كاريزماتية ومتكلم بارع ونشيط. بدأ الأب صموئيل فى شرح الأم السيد وقيامته إلى أن جاء إلى العشاء الأخير وما عرف «بخيانة يهوذا»، وهنا نزل العالم اللاهوتى على الأرض من سماء الرمزية وعلم ما علمه الآباء الكبار وما يعلمه اللاهوت فى العالم أجمع وهو باختصار أن العشاء الأخير ليس هو الفصح اليهودى بل هو الافخار ستيا «سر التناول» وأن يهوذا وبحسب شهادة كل آباء الكنيسة الجامعة وتراثها عاش مع التلاميذ كل مراحل الرحلة الأخيرة للسيد المسيح وشارك فى كل شيء وفى العشاء الأخير. وصل إلى علم البطريرك من بعض الطلبة أهل الثقة والحظوة، وهذا تراث قبط عريق، «وصل من مارسه بإتقان إلى أرفع المناصب الكهنوتية» أن الأستاذ مجدى «الأب صموئيل فيما بعد» «يقول أن يهوذا أتناول» قال الجواسيس.. هكذا بكل بساطة وبدون أى فهم للإطار العلمى واللاهوتى لرسالة الدكتوراه التى سكبها الراحل دما فى أربعمائة وثلاث وأربعين صفحة من القطع الكبير.. وهنا أوكل البابا إلى الأسقف بيشوى الذى لا يحمل شهادة فى اللاهوت ليحقق مع الدكتور اللاهوتي. صدم الأستاذ مجدى من أساليب الأسقف الالتوائية فهو على استعداد أن يسحق كل من يغضب البطريرك، كان يقولها علنا بكل فخر وبلا خجل، وتم إذلال الأستاذ مجدى ومنعه من التدريس وإهانة الدرجة العلمية التى يحملها بل إهانة الذين منحوه الدرجة وفى ذات الوقت احتقار الشعب الذى أحب علم الرجل. لاذ الأستاذ مجدى بالصمت احتراما وذهولا.وقرر الذهاب إلى بيت العائلة فى سمالوط للهدوء والكل مذهول ولم يخرج أحد من القامات الروحية العالية ولا الياقات المنشأة فى الكاتدرائية، ليحتج على الظلم ولم ينشغل أحدهم كالعادة أن يفسر لماذا؟ تم منع الأستاذ من التدريس فى الكلية الإكليريكية بلا أسباب علمية أو مواجهات إلا هذا الإذلال من الأسقف بيشوى الذى كنا نترجى أن يتعاطى اللاهوت ويشارك فى صنع النهضة. حزن الأب صموئيل حزنًا شديدًا وحزن معه كل الإخوة العائدين من اليونان للمشاركة فى النهضة اللاهوتية والعلمية. أدرك هؤلاء جميعا أن الفكر السائد هو لاهوت المزاج والأهواء حتى ولو كانت صادقة (غيرة ليست حسب المعرفة)، البعض ذهب إلى مقارنة ومطابقة ما حدث للأستاذ الدكتور مجدى وهبة على يد قيادات الكنيسة القبطية، بما حدث للأستاذ الدكتور نصر حامد أبوزيد على يد المؤسسة الدينية والجماعات المتشددة. وحينما التقى مجدى مطران سمالوط الأنبا بفنوتيوس الذى كان قد سبق فرسم مجدى شماسا.. وعلم ما حدث معه أراد أن يهون عليه فقام بسيامة الشماس الدكتور مجدى قسا باسم صموئيل وأهداه سيارة بمناسبة الحصول على الدكتوراه وبدلا من أن يفرح البطريرك وسكرتير المجمع بأن أحد إخوتهم الأساقفة قام بمبادرة حل خلاف كبير صارت العداوة مع الأسقف أكثر شراسة واندهس اللاهوتى الأب صموئيل تحت أقدام الكبار التى لا تدوس بعز على الشيطان والجهل بل تدوس بغل على الناس والعلماء. يضيف الأب أثناسيوس فى شهاداته قائلا: لقد زاد الكهنوت صموئيل بهاء وتواضعا، وفرح وجال فى البلاد والقرى التى انتشر فيها الفكر البروتستانتى والخمسينى يحاجج ويشرح ويفند ويزرع الحب ويكتب فى اللاهوت مع أخوه له لاهوتيين فى القاهرة، ولكن كانت فى نفسه غصة النفى والإقامة الجبرية فى سمالوط والمنع البطريركى من دخول كنائس القاهرة وحرمانه من الأحباء القاهريين والإسكندريين والصعايدة الذين يطربون لسماع عظاته اللاهوتية على بساطتها والبسيطة فى لاهوتها. ماذا فعل البطريرك الراحل، لم يخرج علينا وهو الكاتب الكبير بدراسة موثقة عن قضية يهوذا فى التاريخ الكنسى ولاهوت الآباء العلماء والبطاركة الذين سبقوه.. بل قام بالتأكيد أن يهوذا لم يتناول هكذا مختصرا كل قضية الفداء فى جملتين، ولم يكتف بذلك بل قرن الفعل بالقول وقام بإعطاء الأوامر بحذف صورة يهوذا من أيقونة العشاء الأخير وصار التلاميذ بقدرة قادر 11 تلميذا فقط. صورة العشاء السرى لها من العمر مئات السنين والعالم كله يعرف ويرى التلاميذ اثنى عشر تلميذا، ويقوم الكثيرون من رسامى الأيقونات بتغميق صورة يهوذا تعبيرا عن الحزن عليه، ولم يتجرأ أحد لا بطريرك ولا بابا ولا مجمع مسكونى أن يحذف يهوذا من الأيقونة. جاء البابا شنودة ليقرر فى اجتماع أربعاء حذف يهوذا من الصورة التاريخية وسط الزغاريد والتصفيق بالفتح اللاهوتى الجديد. وعملت مطابع مكتبة المحبة ليل نهار لإصدار الصورة الجديدة وقامت الدنيا ولم تقعد فى مصر والمهجر حتى تم فى ساعات إحلال صورة الاثنى عشر تلميذا بصورة الأحد عشر تلميذا! فى واحدة من أكبر الفتوحات اللاهوتية القبطية التى أذهلت العالم ومازالت الكارثة أتذكر فى أيامى الأخيرة كخادم للكنيسة القبطية فى اليونان أن قام الأخوة بتركيب صورة العشاء الربانى فى الكنيسة الجديدة ضواحى أثينا ونظر إليها مجموعة أطفال أقباط يتعلمون فى المدارس اليونانية أصول الدين المسيحى ويرون الأيقونات الأرثوذكسية ليس فقط فى الكنائس بل فى المصالح الحكومية والشوارع، استوقفنى أحدهم وسألنى لماذا التلاميذ أحد عشر وليسوا اثنى عشر؟ نظرت إلى الأيقونة وإذ هم بالفعل أحد عشر ولم أجد جوابا، شكرنا الله أن صموئيل مات عند أسقف حر واستطعنا أن ندفنه فى جنازة مهيبة خرجت فيها سمالوط المدينة وقراها عن بكرة أبيها بمسلميها ومسيحييها، وإلا لكانوا فى الباب العالى فى القاهرة قد منعوا الصلاة عليه كما فعلوا مع القمص إبراهيم عبدالسيد الذى كانت كل جريمته أنه كتب بحثا عن ضرورة الرقابة على أموال الكنيسة التى هى أموال الشعب. الأدهى من ذلك أننا التقينا الأسقف بيشوى فى أثينا فى إحدى زياراته وكنا فى طريقنا إلى فولوس لحضور أحد المؤتمرات وتوقفنا فى الطريق للراحة وهنا بادر أحد الحاضرين الأنبا بيشوى سائلا بخبث كمن يتوقع الإجابة أو ينتظرها أو يريدنى أن أسمعها لإرهابى لأنى صديق الأب صموئيل (هل عرفت يا سيدنا أن أبونا صموئيل وهبة مات؟) السؤال رائع وكأن سيدنا لايعرف (بالمناسبة الذى سأل السؤال وصل إلى أرفع المناصب) فرد الأنبا بيشوى بالحرف الواحد وهو ينظر إليّ بابتسامة ذات مغزى وكأنه يوجه لى رسالة شخصية: أنا لم أر البابا فرحان فى حياته مثل فرحه حينما علم بموت القس صموئيل وهبة.