الفارق كبير بين طريق التراث وطريق التجديد. الأزمة بيننا وبين المشايخ؛ أنهم يرون الإسلام تراكمًا تراثيًا وحلقات تاريخية من مسالك واجتهادات أوائل عصور الإسلام، بينما يعتبر الفكر الحديث أنه كما تتطور المجتمعات تتطور الأفكار، وتتطور العقول. هذا التطور هو السبب فى أن تختلف المفاهيم للنص الدينى بين المجتمعات الحديثة، وعقليات قديمة، لشخصيات عاشت أزمنة قديمة، فاجتهدت فى الدين كما فهمت، بينما علينا نحن الاجتهاد فى الدين كما نفهم. النص ثابت، لكن فهم النص هو الذى يجب أن يختلف. لو فهم الأوائل النص حسب الأرضية المعرفية لأزمنتهم، يجوز لنا أن نعيد نحن الفهم، كما الأرضية المعرفية لأزمنتنا نحن الآخرون. فهم النص هو التراث. واجتهادات المسلمين الأوائل لأحكام القرآن تراث أيضا. فهمنا للإسلام، وأسسه وإعادة تعريف مبادئه، وتفسير آياته، وأحكامه، وتعاطينا مع نصوصه لابد أن تختلف عن تعاطى المسلمين الأوائل معه. يجوز أن نفهم الدين، على عكس ما فهمه أبوبكر رضى الله عنه. يجوز لنا استخراج أحكام لم يعرفها على بن أبى طالب، وأن نصل لتفسيرات للمسائل الفقهية، لا خطرت على بال ابن حنبل ، ولا وصل لها الإمام الشافعى فى كتابه «الأم». لو كان المقصود من النص القرآنى أن يفهمه الآخرون مثل ما فهمه الأولون، لما نشأ علم الفقه، ولا تطور علم التفسير. السبب الرئيس فى ظهور علم الفقه هو سد الفجوة ما بين فهم المسلمين الأوائل للقرآن وأحكامه، وتفسيراته، وبين ما ظهر فى الأزمان المتقدمة من مشاكل ومسائل، لم يعرفها الأولون، لذلك لم يتكلموا عنها، ولا بحثوا عنها فى مفهومهم للنص. القرآن للجميع لم ينزل القرآن مقصورا على المسلمين الأوائل.. ولا لهم فقط. نزل القرآن الكريم للعالمين كما نفهم ونعرف. لو أراد لنا المشايخ اليوم أن نفهم آيات الله، كما فهمها الأولون، ونستقر على نفس ما استخرجه المسلمون الأوائل من أحكام، وأن نعيش فى نفس ما عاش فيه الإمام مالك، والدرامى، وسفيان الثورى.. فالمعنى أنهم، على بلاطة، يجمدون الدين، ويعلبونه، ويجمدون مجتمعاتنا، ويعلبوننا معهم. الخلاصة، أن استمرار الاعتقاد فى التراث الإسلامى يعنى ببساطة الاستمرار فى الطريق المعاكس لتجديد الخطاب الدينى. شهُر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قوله: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا.. كتاب الله وسنتى». شُهر عنه أيضا قوله لأهل المدينة: «أنتم أعلم بشئون دنياكم». شُهر عنه (صلى الله عليه وسلم) أيضا نهيه عن كتابة الحديث، أو الاحتفاظ بما قاله، أو أوصى به، أو سمعه الصحابة منه.. فهل ناقض النبى نفسه؟ لم يناقض (صلى الله عليه وسلم) نفسه، لكن فهمنا نحن كمسلمين هو الذى ناقض المفهوم من أقوال النبى. وفق أرضيتنا المعرفية، فى زماننا يجوز أن نعيد فهم قوله (صلى الله عليه وسلم) «ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى».. هو التمسك بسنته الفعلية. السنة الفعلية هى ما قام به من أفعال فى الصلاة، والصيام، والعبادات والنوافل. لا يمكن فهم قوله، على أننا مأمورون بالتعاطى مع أحكام زماننا، كما تعاطى هو (صلى الله عليه وسلم) مع أحكام زمانه. لا يجوز أن نفهم أننا مأمورون بالاستمرار على فهم آيات الكتاب الكريم، كما فهمه الصحابة، والتابعون وتابعو التابعين من بعده. لا يجوز لنا، بعد مئات السنين، من عصر الإمام البخارى الاعتقاد فى أننا مأمورون بالتصديق فى كل ما أخرجه غيبا، دون نقد، ودون فحص.. رغم ما بدا لنا وفق علومنا، وتصوراتنا، وقدراتنا على التقدير العلمى والزمنى. إن كثيرا مما أخرجه البخارى فيه تناقض مع العلم أحيانا.. ومع طبيعة وتكوين المجتمعات الحديثة أحيانا أخرى. كثير مما اشتهر بأنه «حديث نبوى» ليس كذلك.. يمكننا التعامل معه من منطلق التراث.. لا تستقيم المجتمعات الحديثة مع الاعتقادات التراثية. التراث مقدس عند مجتمعات الأنكا القديمة، والمجتمعات غير المتحضرة فى أفريقيا وعند قبائل الاستراليين «البوشمان». لا يصلح التراث، مهما كان، ولا أقوال واجتهادات ناس التراث، مهما كانوا فى إعادة تنظيم المجتمعات الحديثة. التجديد يعنى تنحية التراث جانبا، وإعادة الفهم، والتقدير.. والتعاطى مع المستجدات. فى المجتمعات الحديثة، عرفنا أن الشمس لا تسجد تحت عرش الرحمن بعد غروبها.. رغم أن البخارى أخرج سجودها عند عرش الله فى صحيحه. فى مجتمعات المواطنة، وعصور «جوازات السفر والجنسية» لا يجوز لنا التعامل مع غير المسلمين، انطلاقا مما شهر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قوله: «بُعثت بالسيف، والخير فى السيف».. كما فى أحاديث الطبرانى والدارقطنى والبخارى أيضا. لو أردت تجديدا.. ابعد عن التراث. لكن لأننا فى حمى مشايخ التراث، ومساجد التراث، وإسلام التراث.. فسكارى نحن.. وما نحن بسكارى. أبوهريرة والسيدة عائشة جاء فى تأويل مختلف الحديث، وفى مقدمة ابن الصلاح وفى تدريب الراوى روُى عن أبى هريرة قال.. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من حمل جنازة فليتوضأ». لم يأخذ بهذا الحديث ابن عباس وقال: لا يلزمنا حمل عيدان يابسة على الوضوء». روى أبوهريرة أيضًا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها فى إناء.. فإن أحدكم لا يدرى أين باتت يده»، لم تأخذ بالحديث السيدة عائشة.. قالت إنها لم تسمع به.. ولا تعرف من أين جاء. الاختلاف فى الروايتين، يضعف فيهما اليقين بورودهما عن النبى (صلى الله عليه وسلم).. لذلك يجوز للمسلم أن يحمل جنازة ولا يتوضأ، أو أن يقوم من نومه فلا يغتسل. المعنى، أن إلزام المسلم، بحديث نبوى مختلف عليه ممكن تسميته إلزام بتراث. المعنى أيضا أن ما روى عن المسلمين الأوائل من تفسير الآيات القرآنية، أو تأويلها، أو ترتيب الأحكام عليها.. تراث أيضا. التجديد، يعنى اعتبار اجتهاد أبى بكر أو عمر (رضى الله عنهما)، فى تفسير آيات الكتاب الكريم، واعتبار آراء عثمان بن عفان، أو على بن أبى طالب فى تحريم بعض أنواع البيوع تراثًا هو الآخر. والتراث يجوز الأخذ به، ويجوز أيضا تركه، طبقا للمصلحة، ووفقا لتغير الظروف. لكن نصوص القرآن الكريم، وآياته فهى ليست تراثًا. القرآن الكريم كلام الله، لكن تفسيرات الصحابة لآياته والعلل منها، والمراد من نزولها فهو الذى يمكن اعتباره تراثًا. فى عصور الإسلام الأولى، كان للنبى (صلى الله عليه وسلم) حق الاجتهاد فى تفسير النص الدينى، وبيان علة أحكام آياته. استخدم الصحابة هذا الحق فتعاملوا مع روح النص لا مع حرفه. لكن تراثنا الدينى، فى عصور ما بعد النبى والصحابة، وصل إلى أن غّير صورة النبى (صلى الله عليه وسلم) التى أرادها الله، فأضاف حقوقًا إليه (صلى الله عليه وسلم) بدت، بمرور الوقت أزمة فى تاريخ الفكر الدينى، وأدت إلى اضطراب فى وضع السنة النبوية فى العقيدة، ومكانها فى نفوس المسلمين. الذى حدث، أن المسلمين فهموا السنة بطريقة حوّلت اجتهادات الصحابة من مجرد اجتهاد وفق الزمن والظروف، إلى مسلمات دينية. الثقة فى السُنة المنقولة، بلا فحص، ولا قدرة على النقض، كانت سببا فى دخول أحاديث ضعيفة ومشكوك فيها أيضا، فالتصقت بصلب الدين، وأساس الإسلام. بمرور الزمن.. تحولت الشائعات التراثية عن الرسول وصحابته إلى «مسلمات».. وأصبحت أي إشارة «قديمة» عن سلوكه وصحابته من المعلوم من الدين بالضرورة. بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام من الهجرة؛ بدت المشكلة فيما شُهر من أقوال عن النبى (صلى الله عليه وسلم)، ولم يثبت تواتره أو صحة نسبته إليه (صلى الله عليه وسلم). فانتشرت أحاديث مشكوك فيها وموضوعة، كانت سببًا فى تعزيز الفجوة بين المسلمين وغير المسلمين، وساهمت سنن منسوبة للنبى فى تأسيس «عنصرية» بين العرب وغير العرب، ناهيك عما أضافه المشايخ من مزيد من المغالاة فى الحلال والحرام، وغلو فى الاستئثار بالحقائق واحتكارها، فاحتكروا الدين.. ووصفوا أنفسهم أنهم القيمون عليه. ظهرت أحاديث نبوية عن فضل «وقوع الذباب فى إناء المسلم» ومكرمة نبات «البقدونس»، وارتبط «بول الإبل» بما أطلق عليه العوام «الطب النبوى»، مع أن النبى (عليه الصلاة والسلام) لم يكن طبيبًا. حتى لو كان (صلى الله عليه وسلم) طبيبا، فالخروج عن اجتهاده فى الطب من زمنه لزماننا وارد؛ لأن ما يمكن أن يجتهد فيه أطباؤنا بعد 1400 عام من التطور والتكنولوجيا، يفوق بالضرورة اجتهادات الماضى، دون أن يخالف هذا منهج الدين، ودون أن تخرجنا هذه الحقيقة من الإسلام. إسلام موازٍ؟ هل نحن فى الطريق لتجديد حقيقي؟ - الإجابة: لأ. فقد تحول التراث إلى مرادف للدين. مرادف للعقيدة والحياة. لم يكن غريبا، أن يصل اعتقاد مشايخ الأزهر فى كتاب البخارى، إلى ما لا يمكن حسبانه على منطق ، ولا على الدين. نظرتنا لكتاب البخارى مثال ونموذج. نماذج كثيرة موجودة ومطروحة وعلى عينك يا تاجر. فكر المشايخ التراثى، كان أن ارتد على المجتمع الإسلامى بتفسير كتاب الله بتصورات فككت الدين، ورفعت أسعار «المشايخ»، ليزيدوا فى المغالاة.. فأصبح ما يقولونه عن الدين.. هو الدين. وما يفتون به هو ما يريده الله.. لأن المشايخ - وحدهم - هم الذين يعرفون الله.. وهم الذين يعرفون كتاب الله! - يقول رجال الأزهر إن الإسلام لا به كهنوت، ولا به سلطة لرجل دين. صح.. هذا صحيح.. لكن الأزهر ومشايخه صنعوا كهنوتا.. ووضعوا أصولا للسيطرة.. ثم جعلوا الاحتجاج على هذا الوضع طريقًا للسجن.. وخروجا عن الدين، بلا منطق.. وبلا سبب ! هل كل المشايخ بلا أخطاء.. لأنهم مشايخ؟! - بالتاكيد لأ، فما أصاب مجتمعاتنا من تغيرات اجتماعية، أصاب مشايخنا أيضا، وأصاب مناهجهم، وقدرة أئمتهم على الاستنباط الدينى، وطرق تفكيرهم فى أمور المصلحة.. القاعدة الشرعية الإسلامية الثابتة هى: «حيثما توجد المصلحة فثمة شرع الله». أى استنباط لحكم أو فتوى، يجب ألا يقوم على أصل دينى فقط.. إنما لابد أن يتواءم مع مصالح المجتمعات، واستمرارها نحو استيفاء الحاجة.. والسلام الاجتماعى. تعال نعود لموضوع الحديث النبوى. مثلا.. أغلب أحاديث البخارى ومسلم ليست متواترة. أغلب المشهور عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أو المنسوب له من سنن «أحاديث آحاد». بالمناسبة أيضا.. حجية «الحديث المتواتر» فى الفقه الإسلامى، وقوته هو وحده فقط الذى جعل الكثير من الأئمة قبل الإمام الشافعى يعولون عليه. ولأن الحديث المتواتر قليل، ونادر، شهر عن الإمام الشافعى اعتباره حديثا واحدا هو الذى يرقى إلى درجة التواتر، وهو: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» . فى كتابه «أصول الفقه» لزكريا البرى: اختار الإمام الشافعى هذا الحديث من بين 596 ألف حديث شهروا عن النبى وقال: «هذا ما اطمأن إليه قلبى»!! رأى الإمام الشافعى كان تجديدا جريئا، بلا خوف من ازدراء دين، ولا خوف من الحكم بالخروج من الملة! فى كثير من كتب علم الحديث، تتأرجح أغلب أحاديث البخارى ومسلم بين المشهورة والآحاد. كتب شرح حديث كثيرة، موجودة فى المكتبات، تضّعف كثيرا من رجال الأسانيد، وتسلسل الرواة فى كتاب البخارى، كما فعلوا الأمر نفسه فى رجال أسانيد صحيح مسلم. لكن فى الوقت الذى رفع فيه رجال الأزهر الأمر للقضاء انتصارا لعصمة البخارى، ضد من نادوا بفصل البخارى عن الدين ، كانت كثير من أحاديث البخارى ضد المنطق.. وضد المواءمة العصرية أيضا. خد عندك مثالاً: فى العام 2010، أعاد الشيخ «عبدالمحسن العبيكان» فتوى «إرضاع الكبير»من تحت الأرض. أعاد العبيكان تأكيد ضرورة إرضاع المرأة للرجل البالغ العاقل الغريب عنها.. إذا كان هناك ما يدعو.. مثل الخوف من خلوة فى العمل تجمع بينهما، بلا محرم، كفاً لحرمة الاختلاط بين الجنسين!! وقتها قلبت الفتوى الدنيا.. أحدثت دويا.. وفرقعات.. أثارت دهشة.. والذين اندهشوا معهم ألف حق وحق. هل ورد حديث إرضاع الكبير فى كتب يجوز التعامل معه بالنقد وفق ثقافة عصرنا، ووفق اجتهاد جديد.. الإجابة: ولما لأ؟! السؤال: إذًن.. لماذا لم يحدث هذا؟ الإجابة: لا أحد يعلم! أخرج البخارى فى صحيحه، إضافة إلى «إرضاع الكبير»، أحاديث» الذبابة .. و«غروب الشمس» قبل مئات السنين. يتمادى شراح السنة والمشايخ للنهاردة فى التأكيد على صحة تلك الأحاديث، رغم عدم المعقولية، وقلة المنطق، وبعض من قلة اللياقة أيضا. فى مناهج الأزهر الشريف يدرسون «إرضاع الكبير» على أنه أولا ذريعة لعدم جواز الاختلاط بين الرجل والمرأة، وباعتباره ثانيا، حلا نبويا لكف تلك الحرمة لو لابد أن تحدث! فى تسعينيات القرن الماضى، نادى مجموعة من الأزهريين ب «إرضاع الموظفة» لزميلها فى العمل كفا للحرمة، ودرءا للحرام. تستطيع أن تقول أنهم نادوا بحرام، كفا لحرام. قالوا إنه إذا ما لم يكن هناك بد من الاجتماع فى العمل بين رجل وامرأة، بلا محرم، فيجوز للمرأة إرضاع الرجل. ولما ثار الناس، ثار مشايخ على «منكرى السنة» والعلمانيين، والذين لا يعرفون الله! فى فقه الحديث أن الحديث الصحيح هو: «المنقول من العدل الضابط عن العدل الضابط بلا علة.. ولا شذوذ». المقصود.. أن الحديث الصحيح هو الذى: رواه رجل ثقة، ونقله عن رجل ثقة، وثبت لقاؤهما، وكلامهما مع بعض، وبشرط أن يصل سند الحديث من زمن الرواية، إلى زمن النبى، وبشرط أيضًا، ألا يروى حديث فى زمن ما بعد النبى، رجل ثقة، بينما لم يرو نفس الحديث، من هو أفقه منه، وأتقى منه، وأكبر منه، وأولى منه بالرواية. لاحظ هنا اهتمام علم الحديث بالسند، وبأحوال الرجال الذين رووا الأحاديث، أكثر من الاهتمام بمتن الحديث أو منطوقه أو ما يرد فيه. هذا هو الذى حدث فأدى إلى أن كثيرًا من الأحاديث فى البخارى، ربما تكون صحيحة السند، لكنها فى الوقت نفسه غريبة المتن، مثل حديث رضاع الكبير. سند الحديث، هو الطريق المؤدى إلى المتن. وهم الرجال الذين انتقل على ألسنتهم الحديث، من زمن الرواية حتى يصلوا إلى زمن الصحابة، وزمن الرسول.. أما متن الحديث، فهو منطوق الحديث نفسه ومضمونه. مشكلة حديث إرضاع الكبير.. أنه مثال على صراع واجب وضرورى ومنطقى، ولابد منه، بين إسناد (رجال وصل إلينا الحديث عن طريقهم يقول أهل الفقه أنه لا يمكن اتهامهم بالكذب)، وبين متن مجافٍ للمنطق.. مجافٍ للفطرة السوية وأخلاق المجتمعات الحديثة.. ومخالف فى الوقت نفسه لآراء بعض الصحابة رضوان الله عليهم.. رفضوا الحديث ورفضوا العمل به. نموذج واضح للصراع التمسك بالبخارى إلى حد القداسة، هو الذى جعل حديث رضاع الكبير يحُدث صراعا بين سنة وسنة. فكما يصل إسناد حديث الرضاع صحيحا للنبى (صلى الله عليه وسلم)، يصل الإسناد صحيحا أيضا إلى النبى بحديث آخر ينهى عن لمس المرأة الأجنبية، فما بالك بالرضاعة منها؟! حديث الرضاع مثال عصرى على صراع جوهرى بين المنقول والمعقول.. فى العصر الحديث. المقصود بالمنقول فى الفقه الإسلامى هو كل ما وصل إلينا من كلام منسوب للنبى. بينما المعقول، هو كل ما يعقله البشر، وتعتاد عليه المجتمعات الحديثة، طبقا للمصلحة، ولأعراف المجتمعات. طيب.. افرض أن ما كان فى زمن النبى أصبح لا يصح فى زماننا، فهل يلزمنا الإسلام بترك ما يصح الآن، لصالح ما كان فى الماضى، لمجرد أنه كان فى زمن النبى والصحابة؟ التجديد يقول إن المصلحة فيما يتماشى مع زماننا، لكن المشايخ يرون أن التمسك بما كان فى زمن النبى، مهما كان، ومهما تغيرت الظروف، ومهما ظهر من بدائل هو صحيح التمسك بالدين! طيب.. افرض مرة أخرى تعارض المنقول مع المعقول؟ يعنى تعارض متن حديث وصل إلينا، مع ما توصل إليه العلم الحديث، أو العرف الاجتماعى، ولم يكن متعارفًا عليه فى عصور الإسلام الأولى.. فلمن ننتصر؟ التجديد يقول إن تقدم المجتمعات فى النظر للأمام، وأن التحديث يعنى الفهم الجديد، والتصورات الجديدة والعادات الجديدة. لكن بعض رجال الأزهر والسلفيين، والمشايخ سوف يرون أن كلامنا هذا هرطقة، واستنتاجاتنا شيطانية. النتيجة، أن وجهات نظر الأزهريين عن المفترض من التجديد والمقصود منه، ونظرتهم المخالفة لحقيقة الدين أحيانا، هى التى جعلت القداسة للبخارى ومسلم، بلا سبب، وهى التى هددت محاولى التجديد، ونفض التراث، بلا جريرة. محاولات المجددين الإسلاميين فى رفع القداسة، عما هو ليس مقدسا، كانت أشبه بالفجوة الشديدة بين أحاديث محكوم بصحتها فى البخارى، وبين المنطق والعلم. فكما كان حديث إرضاع الكبير صراعا بين منقول ومعقول. كان حديثا الذبابة وغروب الشمس أيضا. ورد حديث الذبابة فى البخارى برقم 54554 فعن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإن فى أحد جناحيه شفاء وفى الآخر داءً»، يعتد مشايخ الأزهر (المؤيدون للتجديد) لليوم بالحديث، وصحته، وصدوره عن النبى.. يرون أن المسلمين ملزمون بتصديقه حتى ولو فى عصور ثبت فيها أن الذباب قذارة، وميكروبات، وأوبئة وأشياء أخرى! إليك السؤال الأهم: هل إذا أردنا تجديد الإسلام، فهل منطقى أن نترك للبخارى حقائق الدين، فنضطر أن نترك له حقائق العلم؟ هل يمكن الحديث عن تجديد الخطاب الدينى وسط أجواء، لا نعرف فيها من الذى يستحق القداسة، ولا من الذى يمنح صفة التقديس؟ أجواء يتقدم فيها رجال الأزهر للقضاء بحبس المسلمين على النية وعلى برامج التليفزيون؟ لو كذلك.. فاقرأ الفاتحة على التجديد، وقل على الخطاب الدينى «الله يرحمه» ويحسن إلى الذين دفنوه.. وسامحهم!