على مدار عقود طويلة مضت، شهد السودان الكثير من جرائم التطهير العرقى والإبادة الجماعية فى ظل حكومة المؤتمر الوطنى و«جبهة الإنقاذ» تحت قيادة جماعة الإخوان الإرهابية - حسبما يذكر المفكر والباحث السودانى «عثمان واي» فى دراسة له- تحت الطبع- بعنوان: «السودان من العنصرية إلى التطهير الإثني- مآلات جدل الهوية وأزمة التغيير».. هناك مجموعة أخرى تدعم النخب المتطرفة لارتكاب التطهير الإثنى هى «فرق الميليشيات التى تشكل مجموعات شبه عسكرية مسلحة وعنيفة». هذه المجموعات فى السودان تمثلت فى أفواج المجاهدين والدفاع الشعبي، الذين تم تجييشهم فى تسعينيات القرن الماضى من مناطق شمال السودان ومناطق القبائل العربية فى دارفور وكردفان. أضف إلى ذلك مجموعات من الإثنيات الأفريقية نفسها تم تجنيدها عبر تعبئة دينية، أو من خلال التجنيد القسرى الذى كان جزءا من ممارسة العنف المؤسسى ضد الإثنيات غير العربية. فقد تم تجنيد الآلاف من صغار السن والأطفال من الإثنيات الأفريقية المضطهدة، وتم تعريضهم لتدريب دينى مكثف لتحويلهم إلى قتلة باسم الدين حتى ضد أبناء جلدتهم. يشكل الدعم لهذه المجموعات المقاتلة التى تقودها النخب المتطرفة، فئات من الجماهير يدعمون هذا الاتجاه. رغم أن هذه الفئة ليس بالضرورة أن تمثل الأغلبية داخل الإثنية المهيمنة نفسها. وبالفعل تم حشد دعم عبر الكيانات الدينية والقبلية لهذه الدولة الجهادية المتطرفة، التى قادت حربا عرقية دينية لإبادة الإثنيات الإفريقية غير العربية فى السودان خلال فترة ثلاثة عقود ولا تزال مستمرة إلى الآن. ولكى نفهم الوضعية التى يحدث فيها التطهير الإثنى يلقى المؤلف- عثمان واي- نظرة على الجناة الذين يرتكبون هذه الجرائم ودوافعهم وأسبابهم التى تقودهم إلى ارتكاب هذه الفظائع. ويقسم أنواع القتلة إلى تسعة أنواع معظمهم فى إطار المجموعات التى مارست العنف فى السودان خلال الستين عاما التى تلت الاستقلال. ومجموعات القتلة هؤلاء مدفوعون فى الغالب بمشاعر وأفكار مرتبطة بمخاوفهم من فقد السلطة أو الاضطرار إلى التفاوض على شروط جديدة لاقتسامها. وفى المقابل فإن الدرجة التى تمارس بها العنف لها علاقة بنوع القتلة وطبيعة دوافعهم لارتكاب جرائمهم. وينقسم القتلة الذين صنفهم مايكل مان إلى الفئات التالية: القتلة الأيدلوجيون: هؤلاء هم الذين تدفعهم أيدلوجيا أو اعتقاد معين بأنهم على الجانب الصحيح من المعركة، وأن لهم الحق فى قتل وقتال الآخر. وفى السودان وفرت الحركة الإسلامية عبر منظريها خاصة حسن الترابي، خطابا أيدلوجيا مكثفا حول الجهاد الإسلامى ضد الكفار والمسيحيين النصارى فى الجنوب طوال فترة التسعينيات. وقام انقلاب الجبهة الإسلامية عبر عقد التسعينيات بتجنيد قسرى للآلاف من الشباب والأطفال وممارسة غسيل أدمغة مبرمج لغرس أفكار وأيدلوجيا جهادية مبنية على الإسلام كدافع للقتل برخصة الجهاد فى سبيل الله لنيل الجنة والتمتع بالحور الحسان. وكان العدو من الإثنيات الأفريقية غير العربية يصور على أنه عدو للدولة الإسلامية العربية التى كانت تنشأ على يد نخبة الإثنية العربية الإسلامية المتطرفة بقيادة الإخوان المسلمين. عمليات الجهاد التى قادتها قوات متعددة من الميليشيات والقوى شبه العسكرية المسماة الدفاع الشعبي، قادت عمليات عسكرية أدت إلى مقتل الآلاف وتشريد عشرات ومئات الآلاف من المدنيين فى جنوب السودان وجبال النوبة. وكان الجنود فى أوقات عدة هم شباب مغرر بهم من قبل النخبة التى تقود البلاد عبر أيديولوجيا تسعى إلى صناعة دولة إسلامية عربية على حساب بقية الإثنيات الأفريقية فى البلاد فى ظل دولة عسكرية دينية قومية. هذا الخطاب التجييشى والنتائج المدمرة من التطهير الإثنى الذى جرى أثناء فترة التسعينيات كان تواصلا للخطاب الأيدلوجى الذى سبقه. حيث كانت الروح العسكرية للقوات المسلحة التى تقاتل فى الجنوب وجبال النوبة تبنى من خلال فكرة الدفاع عن الوحدة الوطنية ضد الأفكار الانفصالية للمتمردين الذين يريدون تفكيك الوطن. لكن المشاعر الدينية الجياشة التى ولدها خطاب الإخوان المسلمين كان أكثر قوة مما أدى إلى استعمال عنف أكبر من أى وقت مضى أثناء الخمسين عاما من الحرب فى الجنوب. فالحرب تحولت من حرب لحماية الوطن إلى حرب لحماية الدين. وتم استغلال العاطفة الدينية للشعب السودانى خاصة فى مناطق وسط وغرب السودان التى ساندت من قبل الثورة الدينية للمهدى فى القرن التاسع عشر. والقيادات الدينية والقبلية هناك ظلت قادرة على إحياء نفوذها من جديد. وعبر خطاب إعلامى مكثف نجحت الإنقاذ فى تجييش الآلاف من الشباب تحت الخطاب الأيدلوجي، لتستبدل به الانضباط العسكرى للجيش. الدولة كونت ميليشيات وقوات غير منضبطة عسكريا، لذلك كانت أكثر قدرة على كسر قواعد الالتحام العسكرى والدخول فى حرب شاملة على المدنيين، لم يكن الجيش قادرا على تنفيذها بهذا الشكل الفوضوي. خاصة أن الجيش السودانى مكون فى أجزاء كبيرة منه من أبناء الإثنيات الأفريقية خاصة فى رتب الجنود الدنيا الذين يقومون بالعمليات القتالية. فهؤلاء الجنود من جبال النوبة والجنوب كانوا يحاربون فى مناطقهم الأصلية ولم يكونوا قادرين على ارتكاب الفظائع التى ترتبط بالإبادة الإثنية. لذلك كانت خطة الإسلاميين المتطرفين للتطهير تقتضى تجنيد الشباب من الإثنيات العربية ليدافعوا عن الوطن والعرض والدين، لكى يحصلوا على الشهادة ويدخلوا الجنة ويتزوجوا من الحور العين، فى مقابل قتل الأطفال واغتصاب النساء وتشريد الأسر فى جبال النوبة والجنوب. حسن الترابى نجح فى تجييش الآلاف من الشباب خلفه للجهاد فى الجنوب وجبال النوبة فى مطلع التسعينيات، أتى بعد أن اختلف مع البشير فى المفاصلة فى بداية الألفية، وقال إن المجاهدين والشهداء فى تلك الفترة لم يكونوا مجاهدين ولن يكونوا شهداء «بل أنهم ماتوا فطيس». وهذا بعد أن تغيرت الأيدلوجيا لصالح عقد السلام وتقرر فصل الجنوب عبر اتفاقية السلام الشامل. لذلك فإن الخطاب الأيدلوجى كان أكبر مصنِّع للقتلة فى السودان الذين مارسوا أبشع جرائم التطهير الإثنى خاصة فى التسعينيات. ولكن النخب التى تصنع وتنشر هذا الخطاب، لم يتم أبدا محاكمتها. القتلة العنيفون: هنالك من يستمتعون بعملية القتل نفسها، بشكل سادى ومدفوع بالنشوة. هذا النوع من القتلة ينتج عن حالة الغضب والشعور بالتهديد من قبل الإثنية أو المجموعة الأخري. فى السودان شهدت البلاد موجات من العنف القبلى ذات الأبعاد الإثنية كما جرى من عنف فى دارفور بين القبائل العربية والإفريقية الأصل وكما حدث فى مجزرة الضعين التى قتل فيها العشرات من الجنوبيين على يد قبيلة الرزيقات عبر إحراق الجنوبيين فى داخل عربات القطار. فى الجنوب أثناء التسعينيات أيضا كان المجاهدون المنتمون للدفاع الشعبى يتبجحون بأنهم يقطعون آذان الجنوبيين القتلى من أفراد الجيش الشعبى لتحرير السودان الذى يحارب الحكومة فى الجنوب. هذا النوع من القتل العنيف تجلى بشكل أكبر فى حرب دارفور حيث كان الاغتصاب الجماعى للنساء يمارس كجزء من الاستمتاع بالانتقام والتقليل من العدو عبر هتك عرض نسائه بشكل وحشى وجماعي. لذلك تمثل ميليشيات الجنجويد مثالا قويا على هؤلاء القتلة. هناك أيضا مثال قوات الأمن التى تسمى أبوطيرة التى تمارس عنفا منظما فى دارفور وفى جبال النوبة والنيل الأزرق منذ 2011. القتلة الخائفون: هناك بعض القتلة الذين يقتلون خوفا من أن يتم قتلهم. وهؤلاء يشملون عددا من الجنود الصغار السن المجندين قسريا، خاصة أولئك من الإثنيات الأفريقية الذين تم إجبارهم على الانضمام للميليشيات والدفاع الشعبي. وفى حالة عدم انضمامهم فأنهم يعتبرون من المتمردين ويتعرضون للاضطهاد بأنواع مختلفة قد تصل إلى القتل. وقد تمت عمليات واسعة من التجنيد الإجبارى فى فترة التسعينيات، خاصة للإثنيات الإفريقية، كما أن أعدادًا كبيرة من الجنود الأطفال تم تجنيدهم من قبل حكومة السودان للقتال فى الجنوب فى نفس الفترة. القتلة المهنيون: وهؤلاء هم القتلة الذين يشاركون فى التطهير الإثنى من أجل الحفاظ على وظائفهم ورتبهم، أما خوفا من خسارتها أو رغبة فى الترقي. وفى كلا الحالتين فهم يمارسون القتل بناءً على الأوامر التى تصدر إليهم. وفى الحالة السودانية فإن الجيش السودانى وأفراده شاركوا فى عمليات القتل والتطهير الإثنى فى السودان باعتبارهم قتلى مهنيين بالدرجة الأولي. القتلة الماديون: أنهم مدفوعون لارتكاب التطهير الإثنى والعنف بالمكاسب المالية والمادية التى تتبع تنفيذهم لتلك الجرائم. فأحيانا تكون المكاسب من خلال نهب المجموعات الإثنية المضهدة بعد قتلها وأحيانا أخرى بناءً على نظام مكافأة مباشر من الدولة أو النخبة الإثنية التى تقود عمليات التطهير الإثني. وهذه المجموعات من القتلة بدأت فى الظهور بشكل أقوى من خلال الحرب فى دارفور منذ 2003. حيث إن مجموعات من ميليشيات قبلية تسمى الجنجويد كانت تقوم بعمليات هجوم عنيف وتطهير إثنى مدفوع الأجر. إذ إن الدفع كان يتم أحيانا نقدا وأحيانا أخرى فى شكل سلاح، فى حين كانت هذه المجموعات تاريخيا مشهورة بالنهب والسلب وهى فى الغالب من القبائل العربية فى دارفور. وقد استغلت حكومة الإنقاذ هذه المجموعات لارتكاب أفظع الجرائم فى دارفور، والتى اعتبرت جرائم ضد الإنسانية حسب تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية منذ 2009 . ومنذ 2012 بدأ ظهور قوات الجنجويد تحت مسمى جديد هو «قوات الدعم السريع»، وقد تحولت هذه الميليشيات القبلية التى كانت متفرقة تحت قيادات قبلية مختلفة، تحولت إلى قوات شبه عسكرية تتبع لرئاسة الجمهورية ومن ثم أصبحت تتبع لوزارة الدفاع والجيش عبر قانون جديد أجيز فى مطلع 2017، لتصبح قوات رسمية تابعة للدولة. ولكنها لا تزال قوات أشبه بالمرتزقة، فهى قوات وميليشيات خاصة تحمى الرئيس عمر البشير، وتتحرك وتمول بأوامر شخصية منه. وتوسعت عمليات هذه القوات خارج دارفور لترتكب جرائم حرب فى جبال النوبة والنيل الأزرق وغيرها. القتلة البيروقراطيون: وهؤلاء القتلة الذين يمارسون القتل من خلف الغرف المغلقة عبر إصدار الأوامر التى تؤدى فى النهاية للقتل ولكنهم قد لا يمارسون القتل بشكل شخصي. وهم يمارسون القتل غير المباشر من خلف مكاتبهم، عبر إصدار قرارات تسهل عليهم ربما قتل أعداد أكبر من أى من القتلة الآخرين، رغم أنهم شخصيا لا يقومون بالقتل. وهم يعتمدون على مناصبهم والشرعية التى تعطيها لهم القوانين والنظم داخل بيروقراطية الدولة لشرعنة ممارستهم للقتل. وهؤلاء فى السودان كثر لا تطالهم كثيرا أعين المؤرخين ولا تصلهم المحاسبة القانونية. لكن بعض الإجراءات التى اتخذتها محكمة الجنايات الدولية ضد المتمهمين فى جرائم الإبادة الجماعية فى دارفور اشتملت على بعض القتلة البيروقراطيين. كما استهدفتهم العقوبات الاقتصادية التى شملت حظر أعمال وأموال بعض الشخصيات المدنية التى ساهمت فى القتل غير المباشر للمواطنين العزل عبر تسهيل توريد السلاح والتمويل للنظام. غير أنه تاريخيا فإن القتلة البيروقراطيين مثلوا القيادة العليا لجميع عمليات التطهير الإثنى بدرجاتها المختلفة التى جرت فى السودان منذ استقلاله. ولذلك فإن السؤال يبقي: لماذا تتخذ بعض الإثنيات الحاكمة أو الدول القرار بالدخول فى حروب أو صراع عنيف، خاصة إذا كان بالإمكان الوصول إلى نتائج من خلال خيارات تفاوض أو تسويات ديبلوماسية. وهذا السؤال حسب بعض علماء الاجتماع يرجع دوما إلى أسباب يفترض بها أن تكون منطقية ورشيدة. ومن هذه الأسباب ما يسمى «بمعضلة الأمن». «إذ إن المجموعات المتصارعة فى مجهودها لكى تصبح أكثر أمنا تجعل المجموعة الأخرى أقل أمنا». وفى هذه الحالة- حسبما يذكر المؤلف- تزداد عمليات الاستقطاب خلف النخب المتطرفة التى تقوم بالتعبئة عبر الخوف من الخطر القادم، مما يؤدى فى النهاية إلى ازدياد فرص نشوب النزاعات. وفى السودان ظلت القوى السياسية فى المركز تقوم بزيادة ترسانتها العسكرية إضافة إلى تركيز التنمية فى المناطق الإثنية العربية فى مسعى لزيادة ذلك الشعور بالأمن، وفى المقابل سحبت تلك الموارد من المناطق الأخرى مما هدد بنشوب الصراعات وزيادة الأغبان الإثنية. أحد الدوافع التى تؤدى لاتخاذ قرار الدخول فى صراع عنيف هو «معضلة الالتزام» أى عدم الاستعداد للالتزام بالعهود والمواثيق، نسبة لعدام توافر الثقة بين الطرفين. وفى السودان كان عدم قدرة النخب الإثنية العربية والشمالية الحاكمة على الوفاء بالعهود والمواثيق سمة غالبة منذ مؤتمر جوبا 1947، وحتى اتفاقية السلام الشامل الموقعة فى 2005 مرورا باتفاقية أديس أبابا وغيرها. فإن المواثيق التى لا تنفذ كانت أحد أسباب عودة الحرب بعد توقفها مؤقتا. وأصبح السودان يعيش فى حالة حرب أهلية مستمرة لأكثر من 60 عاما وما زالت مستمرة، باستثناء فترات قصيرة ، كانت تتسم بحالة اللاسلام واللاحرب، أكثر من كونها حالة سلام شامل ومستقر. ثم إن عدم القدرة على الحصول على المعلومات الدقيقة عن ما يجرى فى الطرف الآخر، وغياب المعلومات يعد سببا مهما فى تأجيج الصراعات وتحولها فى النهاية إلى حروب دامية. وفى السودان كان البعد الجغرافى والانقطاع الكبير لأى نوع من التواصل الثقافى بين المجموعات الإثنية المختلفة سببا فى تزايد الاحتقان الاجتماعي، خاصة مع وجود فواصل التمييز العنصرى والتفاوت الاقتصادى الذى بنى المزيد من الحواجز بين المجموعات الإثنية المتصارعة. وعلى المستوى السياسى والعسكري، يعد غياب المعلومات قاتلا لأنه قد يؤدى إلى تفسير خاطئ لتحركات أو قرارات مجموعة إثنية معينة مما يؤدى إلى اتخاذ المجموعة الأخرى لردود فعل قد تكون عنيفة. وتعتبر أحداث توريت فى أغسطس 1955 مثالا على أزمة غياب المعلومات بين المجموعات الإثنية فى السودان. حيث اعتقد الجنوبيون أن عملية نقل القوات الجنوبية من توريت للخرطوم هى مؤامرة تهدف إلى قتلهم أو استرقاقهم بمجرد وصولهم العاصمة، مما أدى إلى تفجر تمرد توريت الذى قتل فيه 261 من الشماليين. إن تنوع القتلة لا يبرر أيضا أن توصف إثنية كاملة بأنها مجرمة، ولكن هناك مجموعات داخل الإثنية المعينة تقود التوجه نحو القتل، ومجموعات أخرى تسهم فى تنفيذه، بينما هنالك مجموعات أخرى تقوم بتوفير الدعم الجماهيرى الشعبى لتنفيذ تلك السياسات.