لا يبدو صعود دونالد ترامب واليمين الأمريكى للبيت الأبيض، واستحواذ الأغلبية الجمهورية على الكونجرس، مؤثرا فى صعود حركات اليمين الأوروبية والفرنسية خاصة، فالجناح السياسى فى البلدين مختلف تماما: من المرجعية حتى الشعار، ف«اليمين الفرنسى» بصفة عامة يرتكز على مرجعية قومية أساسها «العلمانية» و«الفرز العرقى»، ولا صلة له بالمسيحية، والتى هى المرجعية الوحيدة لليمين والشعب الأمريكى والذى قد أقر دستورا علمانيًا لشعب متدين»، «وضعه الآباء المؤسسون لحماية الدين من تغول الدولة» على حد تعريف الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان له، بعكس الفرنسيين الذين يرون أن أى مظهر دينى للدولة - ولو كان مسيحيًا- هو ردة للوراء! إضافة إلى التكوين العقائدى والمذهبى للشعبين (الفرنسى والأمريكى) والمختلف تماما، فالولايات المتحدة أسسها «الآباء المبشرون» لتكون أورشليم الجديدة، فاستقت قيمها السياسية والاجتماعية من الدين كركيزة أساسية فى المجتمع والسياسة، كذلك فكرتها عن الحرية والمنبثقة عن الدين (المسيحية البروتستانتية) والتى عرفها ريجان أيضا بقوله: لقد «جاء آباؤنا إلى هذه الأرض بحثا عن الله والحرية». أما الشعب الفرنسى ففكرته عن الحرية انبثقت من تنحية الدين جانبا نظرا لسيادة الفلسفة المادية والأفكار العلمانية التى واكبت الثورة الفرنسية وعملت على إجهاض أى نفوذ دينى، بل مطاردة الدين نفسه واعتباره فكرة برجوازية!، إضافة إلى أن الشعب الفرنسى لا يعبأ كثيرا بفكرة الأيديولوجيات الدينية، حتى إن المواطن الفرنسى «اللادينى» أقل حماسا ل«لادينيته». لكن بطبيعة الحال لم يكن صعود مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية للجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية مفاجئا، إذ إنها سلكت نفس نهوج ترامب السياسية والاقتصادية - ليست الدينية- فهى ترى أن انسحاب فرنسا من الاتحاد الأوروبى، وحلف شمال الأطلسى، والسوق الأوروبية المشتركة، وتوجيه برامج الرعاية الاجتماعية والعلاجية إلى المواطنين الفرنسيين فقط، أمر ضرورى لسيادة فرنسا وتفردها على المستوى الأوروبى والعالمى، كذلك استحضارها سياسة الهوية، وقلبها الطاولة على المهاجرين والأجانب الذين يشكلون نحو 13 % من سكان الجمهورية الفرنسية. وقد استغلت لوبان بدهائها السياسى حادثة الشانزليزيه التى وقعت الخميس الماضى فى التكريس لسياستها العرقية بقولها: «يجب علينا أن نغلق حدودنا فورا»، كذلك بتوجيه اللوم لخصمها الرئاسى مرشح الوسط: «إن ماكرون لا يملك أى برنامج لمواجهة الإرهاب». كانت قبلها فى فبراير الماضى قد دشنت برنامجها «العلمانية المتشددة» وطرحته فى افتتاح حملتها الانتخابية الرسمى فى ليون بقولها: «الخلاف بين القوميين وغير القوميين يضع فرنسا على المحك كدولة عظمى، ولو نجح القوميون سنستعيد فرنسا». وتحاول لوبان استقطاب اليهود الفرنسيين الذين يقدرون بنحو نصف مليون يهودى فرنسى، وتقديم المغفرة لهم، لما بدر من أبيها جان مارين لوبان مؤسس الجبهة وزعيمها التاريخى، بحق المحرقة اليهودية والتقليل منها والذى عوقب على أثرها بالإدانة والغرامة المالية عدة مرات، إلا أن حال اليهود الفرنسيين يزداد سوءا فى السنوات الأخيرة، ففى تقرير نشره معهد جلوبال قال فيه إن حوالى 4 % من اليهود الفرنسيين قد غادروا البلاد إلى إسرائيل نظرا لسياسة اللاسامية، مضيفا أن حوادث اللاسامية قد تضاعفت فى السنوات الأخيرة من 423 حادثا عام 2014 إلى 851 حادثة. أما بالنسبة لسياسة مارين لوبان تجاه المسلمين فى فرنسا، فقد سعت إلى تجميل صورة اليهود على حساب المسلمين، وبالأخص مهاجرى الشمال الأفريقى الذين يرى غالبية الفرنسيين أنهم يشكلون عبئا خطيرا عليهم. السياسة العدائية التى تتبعها لوبان تجاه المسلمين - رغم محاولتها عدم إظهار ذلك- تظهر من حين إلى آخر خاصة فى كل حملة أو جولة انتخابية تقوم بها، وهى تهدف من وراء ذلك إلى إثارة النزعات القومية والعرقية لصالحها فى سباق الرئاسة الفرنسية للإليزيه. ففى تقرير نشرته مجلة «The Atlantic» الأمريكية الشهيرة الأسبوع الماضى، ونقلت فيه تصريحا غريبا لزعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان والذى قالت فيه: «إنها تقف بجانب اليهود للدفاع عن حرياتنا الفكرية والدينية المشتركة ضد العدو الحقيقى والوحيد لنا وهو الأصولية الإسلامية». وترى المجلة الأمريكية الأشهر أن لوبان تستخدم مستحضرات تجميل فقط لمغازلة اليهود، فقد اقترحت لوبان بنفسها حظر الشعارات الدينية فى أكتوبر 2016 وكررت اقتراحها ثانية فى فبراير الماضى، والذى سوف يشمل مقترحها هذا منع «الكاب» اليهودى مع الحجاب الإسلامى أيضا، وردا على سؤال قد وجه لها أثناء حملتها ومقترحها الذى تضمن منع «الكاب»، ردت قائلة: «إن العديد من اليهود الفرنسيين سيكونون مستعدين لتقديم هذه «التضحية الصغيرة» من أجل الخير الأكبر وهو هزيمة الإسلاميين». تفوق مرشح الوسط إيمانويل ماكرون على مارين لوبان مرشحة اليمين بنسبة ضئيلة (21 % - 24 %) فى الجولة الأولى، لا يضمن له الفوز فى السباق الرئاسى، فالمرشح الشاب ذو ال 39 ربيعا لا يلقى قبولا كبيرا بالنسبة للفئات العمرية فوق ال50 عاما والذين هم غالبية الناخبين الفرنسيين، إضافة إلى أن تبنيه للقيم الليبرالية من خلال شعاره الأخير «كلنا فرنسا»، قد يسمح للوبان والتى رفعت شعار «اختاروا فرنسا» من تكرار أسباب نجاح دونالد ترامب ثانية، فصاحب حملة «اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» قد أثار النزعة القومية -المسيحية للأمريكيين، وبالمثل تفعل لوبان باختلاف الأيديولوجيات، فسعيها الدائم إلى إثبات قومية فرنسا على حساب المهاجريين قد يلقى قبولا كبيرا لدى الفرنسيين خاصة مع الأزمة الاقتصادية التى تشهدها فرنسا منذ عامين وأكثر، كذلك قولها بأن الاستعمار الفرنسى قد نهض بالدول التى استعمرها، يلقى قبولا كبيرا لدى المحاربين القدامى من سياسيين ونهضويين وقوميين فرنسيين رأوا بأن «الفرانكوفونية» هى السبيل الوحيد لبلدهم كى تمارس دورها العابر للحدود خاصة بعد فشل فرنسا فى ضمان الاستقرار فى ليبيا عقب الإطاحة بالقذافى، وإخفاقها فى محاربة داعش التى مازالت تشكل خطرا على فرنسا ليس فقط بسبب الأحداث الإرهابية التى تقع بين الحين والآخر، لكن بسبب وجود أكثر من 6 آلاف فرنسى يقاتلون فى صفوف داعش.