جميلات، مدلالات، أنيقات، يعشن فى قصور تحيطها الحدائق وتملؤها مظاهر الثراء، لديهن الشوفير والكماريرا، يقضين النهار فى النوادى والليل فى الحفلات، الصيف فى كبائن المنتزه والعزبة.. لكنهن عاشقات، طيبات، متواضعات، هن أميرات الأحلام.. هن سامية، عنايات، سلوى وأختها ليلى، كريمة وغريمتها ميرفت، نادية ونانا، سهير وسهير أخرى، هؤلاء هن معظم بطلات أفلام العندليب عبدالحليم حافظ، ظهرن على مدار 14 عاما هى السنوات التى عرضت بها أفلامه ال16 جمعتهن فكرة واحدة بل طبقة واحدة هى الطبقة الأرستقراطية أو العليا أو الثرية. تنازلن لإذابة الفروق الطبقية بينهن وبين الحبيب الذى تجسد هنا فى الشخصيات التى قدمها عبدالحليم، والتى سارت دوما فى نفس الدرب، درب الصعود من الفقر إلى الثراء ومن العدم إلى الشهرة ومن الفشل إلى النجاح، إذابة الفروق الطبقية كانت بالزواج لتنتهى تماما الطبقة العليا وتختفى الطبقة السفلى وتتصدر المشهد الطبقة المتوسطة. الهدف المعلن لثورة يوليو 1952 والتى كان خير من يعبر عنها ويمثلها هو العندليب. عبدالحليم كان أنجب تلاميذ مدرسة ثورة يوليو.. لم يعبر فنان عن حاله أو يسعى لتوصيل أفكار معينة كما فعل حليم مع الثورة سواء من خلال الأغانى والأهم من خلال الدراما متجسدة فى قصص أفلامه، البداية السينمائية لحليم لم تعتن بالفكرة بالشكل المطلوب، مثلا فى «أيامنا الحلوة» إخراج حلمى حليم، و«لحن الوفاء» إخراج إبراهيم عمارة، واللذين تم عرضهما عام 1955 كان من قاد راية التغيير هما «عمر الشريف» فى «أيامنا الحلوة» المتمرد على الطبقة الأرستقراطية والرافض لكل ما ومن فيها، و«شادية» فى «لحن الوفاء» الطموحة التى تريد النهوض بنفسها لتصل إلى الطبقة العليا بمجهودها وموهبتها، الفيلمان هما أول خطوات حليم السينمائية، شارك فيهما بأدوار شبه مساعدة، لم يكن هو محور الأحداث ولكنه كان الفتى الطيب، الحنون، المضحى، الذى لا تملك إلا أن تتعاطف معه وتحبه، هو التعبير الدقيق والمدخل العاطفى الرقيق للثورة. الفكرة التى دعت إليها الثورة كانت، لا فوارق بعد 23 يوليو 1952 الطبقة التى تعالت لسنوات سوف تذوب مع الطبقة الأدنى بمعنى أكثر درامية سوف تتزوجها، وتنجب طبقة جديدة تليق بالثورة وأفكارها، طبقة تعمل وتكافح، تجتهد من أجل التقدم والصعود خطوة بخطوة على سلم المجد، هذا ما فعله عبدالحليم، الذى ظهر دائما فى شخصية الفقير الذى يقع فى غرام البطلة الثرية، الأرستقراطية بعيدة المنال، والذى يسعى جاهدا ليتمكن من الوصول إليها، وربما أحيانا تخطى طبقتها ليكون جديرا بالحصول على البطلة الجميلة الأميرة ست الحسن. بداية من فيلم «ليالى الحب» عام 1955 إخراج حلمى رفلة، كان «أحمد عبدالحليم حافظ» المهندس الشاب الفقير الطموح الذى يبتكر اختراعا، مما يؤكد الرغبة فى التطوير والبناء والتقدم، يقع «أحمد» فى حب «سامية آمال فريد» طبعا دون أن يعرف أنها ابنة المدير، حتى لا يترك مجالا للشك فى صدق نواياه، ورغم المفارقات التى تحدث فإن «أحمد» المجتهد يفوز ب«سامية» فى النهاية قصة قريبة من تلك التى حدثت ضمن أحداث «الوسادة الخالية» إخراج صلاح أبوسيف عام 1957، فالشاب المجتهد «صلاح» يستطيع الوصول لقلب ابنة المدير «درية زهرة العلا» ويتزوج منها بعد أن يكون قد أصبح شابا ناجحا تتمناه العائلات الكبرى، الهدف هنا كان الانتقام من أسرة حبيبته الأولى «سميحة لبنى عبدالعزيز» التى رفضته لضعف إمكانياته. حكاية الشاب الفقير الذى يقع فى غرام الفتاة الثرية تظهر عدة مرات فى أفلام حليم المعدودة، فى «دليلة» إخراج محمد كريم عام 1956، يقع الشاب الموهوب «محمود» فى حب الفتاة الثرية «عنايات» التى تشبه حبيبته الفقيرة الراحلة «دليلة» «قامت شادية بأداء الدورين»، يتزوج «محمود» من «عنايات» التى يتضح فيما بعد أنها تشبه «دليلة» شكلا فقط، لكنها شخصية شريرة ومؤذية تريد تحطيم مستقبل «محمود» الفنى، شخصية أنانية تفضل أن تجرب ملابسها الجديدة على أن تستمع إلى لحن «محمود»، تلقى بخطابات معجباته أرضا وتشترى كل تذاكر حفلته حتى يظن أن الجمهور لا يريد سماع صوته، ترتكب «عنايات» كل أشكال الشر حتى تحتفظ ب«محمود» لنفسها فقط، فهى أنانية لا يهمها سوى مظهرها، تمتلئ بالكراهية والحقد لكل من حولها، إنها نموذج للفتاة الثرية البشعة التى أصبح يرفضها المجتمع، وعلى العكس تماما تكون «دليلة» الفقيرة الطاهرة التى يتفجر قلبها بالحب والطيبة وهى النموذج المثالى للطبقة المفضلة عند الثورة وعبدالحليم. وفى «شارع الحب» إخراج عز الدين ذو الفقار عام 1958يأتى «عبدالمنعم» من فرقة حسب الله بشارع محمد على ليغرق فى حياة وحب «كريمة - صباح» الفتاة الثرية المدللة التى تقع فى غرامه وتتناسى تماما الفارق الاجتماعى بينها وبينه، وبالطبع لابد أن يصعد «منعم» ليصل إلى نفس مستوى «كريمة»، بصعود سلم المجد والشهرة فى قفزة واحدة، فى هذا الفيلم يظهر بوضوح الفارق بين طباع أبناء الطبقة الفقيرة الأوفياء، الشرفاء، الذين تملؤهم الشهامة وبين أبناء الطبقة الثرية المستهترين الممتلئين بالندالة والخسة، وإن كانت «كريمة» تحولت إلى فتاة رقيقة وطيبة فإن «ميرفت منيرة سنبل» غريمة كريمة - ظلت على موقفها الدنيء حتى نهاية الفيلم وهى التى يشبهها المايسترو «جاد الله حسين رياض» بالمرأة المستهترة التى وقع فى حبها فى الماضى وقام بقتلها لأنها قامت بخيانته وإذلاله بفقره. الحكاية تظهر فى تنويعة جديدة فى «حكاية حب» إخراج حلمى حليم عام 1959 نفس القصة تقريبا مع الابتعاد عن الحس الكوميدى فى «شارع الحب»، القصة هنا عن الشاب «أحمد حليم» الذى يهوى الموسيقى ويمتلك حنجرة ذهبية. والذى تسوقه الظروف بدلا من إيجاد حبيبته التى يبحث عنها، إلى العثور على بوابة الدخول لعالم الغناء والشهرة، الحبيبة هنا «نادية مريم فخر الدين» كانت من طبقة ثرية إلا أنها كانت ذات طبيعة مختلفة، هادئة، رقيقة.. مستعدة منذ اللحظات الأولى لرفض عالمها الفاخر الذى تحكمه المظاهر والتفاهة، ويتجلى ذلك بوضوح فى المعاملة الرديئة من أبناء هذه الطبقة ل«أحمد» عندما قام بالغناء فى إحدى حفلاتهم، فسخروا منه وتهكموا عليه، «نادية» مستعدة للدخول فى عالم «أحمد» المتواضع، تعامله بلطف ورقة ليكون وجودها مقبولا وليس غريبا. ومن جديد تكون رحلة صعود المطرب الفقير المعدم الذى يتجاوز مكانة الحبيبة الثرية هى الهم الذى يشغل بال عبدالحليم فى أفلامه، ففى «معبودة الجماهير» إخراج حلمى رفلة عام 1967 الصعود هنا لابد أن يكون متجاوزا لمكانة الفنانة الشهيرة «سهير شادية» التى قامت بإذلال «إبراهيم عبدالحليم»، وإن كانت ضحية لمؤامرة، إلا أن «سهير» تقوم أمام الناس فقراء وأغنياء بمعايرة إبراهيم بفقره وضعفه وعدم ملاءمته لمكانتها، إلا أنه يتوعد لها ويقسم على أنها سوف تندم، وهو ما حدث بالفعل، حيث يصعد نجم إبراهيم بينما يخفت نجم سهير التى لا تتحقق من جديد إلا بوقوف إبراهيم إلى جوارها. وبعيدا عن الغناء وبالعودة إلى العالم العادى والعمل البناء، تأتى شخصية «صلاح» فى «يوم من عمري» إخراج عاطف سالم عام 1961 «صلاح» يعمل صحفيًا وإن كانت المهنة تقدم بشكل سلبى إلا أن صلاح لم يتلوث ويظل شريفا وغير انتهازى على عكس رئيسه فى العمل الذى يسعى من أجل السبق الصحفى، «صلاح» يقع فى حب «نانا زبيدة ثروت» الفتاة الثرية التى اعتقد فى البداية كالعادة أنها مجرد فتاة عادية وفقيرة، أسرة «نانا» الثرية تظهر هى الأخرى وأيضا كالعادة بشكل سلبى فالأب متعالٍ ومغرور وزوجة الأب انتهازية وشريرة، أما الطبقة الفقيرة التى ينتمى إليها «صلاح» فهى مليئة كالعادة أيضا بالنماذج البشرية الأصيلة «المقارنة بين طبائع شخصيات الطبقة العليا والسلفى تظهر تقريبا فى معظم أفلام عبدالحليم والانتصار دوما حليف الفقراء فى مقابل الأغنياء الذين يشعرون بالصغر أمام عظمة هؤلاء الفقراء» «نانا» تقع هى الأخرى فى حب «صلاح» وتذوب الفوارق بزواجهما فى النهاية السعيدة «نفس نهاية حكاية حب»، عبدالحليم لم يكن أبدا لينتمى إلى طبقة ثرية دون جهد وعمل، وفى الفيلمين اللذين عاش فيهما فى سرايات فاخرة كان أقرب للدخيل على هذه الحياة، ففى «أيام وليالى» إخراج هنرى بركات عام 1955 كان يعيش مع والدته فى بيت زوجها، حياة ثرية لا تليق بابن الشعب الفقير، لذلك فهو يرفض هذه الحياة ويعود للبحث عن جذوره، عن والده الفقير المعدم القاطن فوق السطوح، وفى «الخطايا» إخراج حسن الإمام عام 1962 تسير الأحداث لتلقى به خارج جدران «الفيلا» فهو ليس ابنا شرعيا للرجل الثرى، ولكنه مع ذلك ابن الأم أو ابن مصر، فى «الخطايا» تنفر الطبقة العليا من البطل بعد اكتشاف حقيقته، فالأب يرفض ارتباط ابنته «سهير نادية لطفي» من «حسين عبدالحليم» بعد معرفة أنه لقيط على الرغم من أنه كان مرحبا فى البداية بارتباطهما عندما كان يظن أنه ابن صديقه الثرى، «حسين» الذى يواجه هذه المأساة يعرف فيما بعد أنه ليس لقيطا وأن والدته بالتبنى هى أمه الحقيقية، حسين يدرك أن شخصية المرء بإثبات وجوده فى المجتمع، بالعمل الجاد ينال احترام الجميع، بالضرورة كان يعمل «حسين» مهندسًا يبنى ويؤسس مصر الجديدة بعد الثورة. فى حياته الحقيقية عاش العندليب قصصًا تشبه أفلامه، فهو الشاب الفقير المجهول المعدم الذى يحاول صعود سلالم المجد، ليصبح مطربا مشهورا ثريا، ولكنه مع ذلك لم يرحب به فى الطبقات الأرستقراطية، وكادت الفوارق الطبقية أن تحرمه من حب حياته التى ماتت قبل أن يتزوجها، ولكن قبل وفاتها واجهت مأساة رفض أسرتها له، ربما ظهرت بوادر الانتقام من تلك الطبقة فى أفلامه، وربما ظهرت أيضا الروح الانتقامية والرغبة فى إذلال هذه الطبقة فى السينما عامة وسينما حليم خاصة بعد الثورة، وكان على الأميرات الاختيار إما الذهاب مع الفارس النبيل أو الانصهار مع طبقتها المرفوضة.. عبدالحليم هو النموذج المثالى لمن جنت عليهم الطبقة العليا، يمثل بالضبط حال أبناء مصر معدومى الحال من علية القوم هؤلاء الذين هبطوا للقاع فى اللحظة التى بدأت تصعد فيها الثورة ويعلو فيها صوت عبدالحليم، حتى وإن كانت آخر كلماته أن حبيبة قلبه مازالت نائمة فى قصر مرصود، من يدخل حجرتها من يطلب يدها من يدنو من سور حديقتها.. مفقود.. مفقود.