رأت الشيخة رجلا حائرا وهى تسير فى السوق بجلبابها الأبيض وخمارها الأخضر فسألته: عما تبحث يا رجل؟ فأجاب بصبر نافد: أبحث عن ماء طاهر، فقالت بلهجة لم تخل من عتاب: لا يوجد ما هو أطهر من عرق المرأة. هذا النص الذى يرد فى «أصداء السيرة الذاتية» لأديبنا العظيم نجيب محفوظ، قد يبدو خادشًا للحياء، حسب عقلية النائب البرلمانى أبوالمعاطى مصطفي، الذى لم يتورع عن أن يطلق تصريحًا بأن أديب «صاحب نوبل» ابن الحارة المصرية، يخدش الحياء.. بل كان تجب محاكمته. المتعارف عليه فى علوم النقد، أن النص الأدبى لا يخضع لمعايير العيب، فلا تقييم قيميًا له، ولا إخضاعًا لفكرة الأخلاق، وفى ظل هذه الحقيقة، فإن أسلافنا الأمويين والعباسيين، بل حتى فى الشعر الجاهلي، كانت هناك نصوص أكثر إفصاحًا عما يراه النائب الذى يحمل درجة الدكتوراة «فى مفارقة مذهلة» عن الجنس والعلاقات الحميمية. القرآن الكريم أيضًا بما أنه كتاب «لغوي» بالإضافة إلى كونه كتاب عقائد وأخلاق ودستور حياة، تطرق إلى قصص الرسل بنصوص لا نعرف ما إذا كان النائب إياه يراها خادشة للحياء، وإذا كان الأمر كذلك فترى سيحاكم مَنْ هذه المرة؟ فى سورة يوسف، يقول عز وجل: «ولقد همت به وهم بها» و«قد شغفها حبا».. وهكذا يصور الله قصة إغواء امرأة العزيز ليوسف الصديق، وكيف قدّت قميصه من دبر؟.. ولم يكن فى الوصف ما يخدش حياء أمهات المؤمنات وهن يتعلمن ويقرأن ويحفظن. بالعودة إلى الشعر الجاهلى نجد أيضًا أن امرأ القيس أمير شعراء الجاهلية، يصور مشاهد ارتياده خيم الحسان من بنات البدو، وكيف يقبلن على ممارسة الجنس معه فى شبق وشغف، وهو ما يدخل فى تصنيفات الشعر تحت بند «الغزل الصريح»: «فلمّا تنازعنا الحديثَ وأسمحت هصرتُ بغصن ذى شماريخِ ميّالِ، وصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلالِ/ فأصبحت معشوقاً وأصبح بعلها عليه القتامُ سيئ الظنّ والبال». هذه الأبيات الثلاثة تصور بداية مراودته صاحبته عن نفسها، حتى تخون زوجها معه، فهل يا ترى علينا أن نحذفها وغيرها من المعلقات حتى يرضى حراس الفضيلة؟ وعلى مدى تاريخ طويل من الإبداع، صار الأدباء يكسرون التابوهات، فإذا بشاعرنا نزار قبانى يستهل دواوينه ب«طفولة نهد»، بل إن فيروز تتغنى ب«سكن الليل، فتعالى يا ابنة الحقل نزور كرمة العشاق، علنا نطفى بذياك العصير حرقة الأشواق، لا تخافى يا فتاتى فالنجوم تكتم الأخبار، وضباب الليل فى تلك الكروم يحجب الأسرار». إن النص يصور دعوة من عاشق إلى صاحبته أن يحتسيا الخمر، ويستغلا الليل الذى يحجب الأسرار، حتى يتطارحا الغرام.. وهذا نص بالطبع يحض على الرذيلة والعياذ بالله! فهل خدش جبران خليل جبران الحياء عندما تغنت فيروز بكلماته؟ لو كان نجيب محفوظ العبقرى المبدع الذى نقل الحارة المصرية إلى العالمية، قد خدش الحياء برواياته الخالدة: الثلاثية قصر الشوق والسكرية وبين القصرين، وأولاد حارتنا، وثرثرة فوق النيل، والحب فوق هضبة الهرم، وزقاق المدق، فليت أحدًا مثله يخدش حياءنا اليوم، لينقذنا مما نراه من الانحدار الإبداعى الذى أصاب كل كل شيء! إن القاعدة الفقهية هى أن لا حياء فى العلم، والأدب بمعيار موضوعى هو علم له قواعد وقوانين، ليس من بينها العيب.. والمؤسف حقًا أن نرتد إلى الخلف هذه الردة الحضارية، وهى فى واقع الأمر ليست غريبة فى أمة أصبحت تعتبر حتى الاسم السادس من الأسماء «الستة» لا الخمسة «عيبًا» لا يجوز تعليمه فى دروس النحو، وهو اسم «هنو» الذى يستقبح ذكره لأنه يعنى «عورة الرجل والمرأة» فيقال: هناة الرجل، أو هناة المرأة، ويقال هناتك يا رجل، وهناتك يا امرأة. ربما علينا أيضا أن نلغى دروس الأحياء فى المدارس فهى أيضا خادشة للحياء ولا ينبغى أن ندرس الطلاب تشريح الأعضاء التناسلية الذكرية والأنثوية وكيفية دخول الحيوانات المنوية إلى المهبل والرحم وتخصيب البويضة لإنتاج الأطفال. أيهما يخدش الحياء نص أدبى أم مسنون ينامون فى هذا البرد فى الشوارع؟ وأليس خدشا للحياء من يأكلون من صفائح الزبالة ويمدون أيديهم للمارة حتى يستطيعوا سد جوعهم؟ وأطفال الشوارع الذين يهيمون على وجوههم ألم تخدش براءتهم حياء سيادة النائب بعدما قدرت منظمة «يونسيف» عددهم فى مصر بنحو 2 مليون طفل؟! ألا يخدش تعرضهم للاغتصاب والتحرش الجنسى حياء المجتمع بأسره؟.. هذا فى الوقت الذى تؤكد فيه الدراسات الحديثة أن نحو نصف فتيات الشوارع مارسن الجنس ونحو 45% منهن اغتصبن، فيما يؤكد القائمون على رعاية الفتيات أن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك، وعادة كما يقولون فإن الاغتصاب من أولى التجارب التى تمر بها الفتاة عندما تخرج للشارع، والعديد منهن لا يتمكن من استخراج شهادات ميلاد لأطفالهن لأن الأب مجهول أو ينكر البنوة. إن ما يخدش الحياء حقًا هو أن نحاكم الأدب، ونترك واقعا فاحشا بحق، وأن ننشغل بسفاسف الأمور، والثابت أن الذى يريد أن يحاكم الأدب بمعايير الأخلاق هو شخص لا يعرف الأدب.