عاد زميلى سولانجى إلى المكتب الذى جمعنا لمدة شهر بالخدمة الإفريقية لهيئة الإذاعة البريطانية وهو يحمل علبة بها حلويات تقليدية قال إنه عاد بها من زيارته لأسرته فى إفريقيا. وعلى طريقة «من أين أخا العرب» سألته، من أين أخا إفريقيا؟.. من رواندا! وعلى الفور قفزت إلى ذهنى ذكريات ما قرأت عن الحرب الأهلية الطاحنة التى اجتاحت هذا البلد الصغير فى وسط إفريقيا بين شعبى الهوتو والتوتسى اللذين يشكلان معا سداة ولحمة الشعب الرواندى. ومن باب تجاذب أطراف الحديث، سألت سولانجي: هل أنت من الهوتو أم من التوتسى؟ وجاءتنى الإجابة على هيئة نظرة باردة لا تتضمن أى رد فعل، ثم رد مقتضب بصوت هادئ قال فيه: هذا سؤال غير لائق.. عيب! لقد قامت أغلبية الهوتو التى تمثل نحو ثمانين بالمئة من الشعب الرواندى فى يوليو 1994 بعملية تطهير عرقى واسعة وخاطفة استمرت نحو مئة يوم فقط، وأدت إلى إبادة نحو ثمانمائة ألف شخص، ومئات الآلاف من عمليات الاغتصاب، وتركت وصمة فى جبين البشرية التى صبرت بهيئاتها الدولية على هذه المجزرة غير المسبوقة إلى أن اكتملت، وخلفت جرحا غائرا فى التماسك الوطنى فى الجمهورية الرواندية التى نالت استقلالها عن بلجيكا عام 1962. لكن هذه الدولة الصغيرة الفقيرة قدمت للعالم درسا فى التعقل قبل أن يجرفها طوفان الصراعات الداخلية إلى هاوية محققة، وفهم قادتها المتناحرون أن استمرار الحرب بينهم سيودى ببلدهم الصغير، فقرروا وقف نزيف الدم، والعودة إلى خط البداية للانطلاق فى طريق صحيح نحو مستقبل جديد للبلاد. ووقعت اتفاقية المصالحة الوطنية التى رفعت شعار التآخي، والعفو المتبادل عما سلف، مع محاسبة كل مجرم على جرمه. وتمت المصالحة، وعاد الشعب الرواندى إلى الوحدة والإخاء والسلام، وعفت روح التسامح عما وقع خلال هذه الفترة العصيبة، وعاد شطرا الشعب الرواندى إلى الالتئام مرة أخرى مع التئام جرح الماضى الدامى. وحرم الشعب الرواندى على نفسه مجرد الكلام عن الخلاف العرقى بين الهوتو والتوتسى، وهذا تفسير نظرة زميلى سولانجى الباردة ورده المقتضب، فالسؤال وإجابته المفترضة يفتح بابا للمخاطرة بالمصالحة والوحدة التى دفع مقابلها الشعب الرواندى نحو مليون مواطن، وهو أمر لا تهاون فيه. هذه إجابة السؤال المعضل الذى يدور فى دول الربيع العربى كلها، ويظن كثيرون أنه سيظل بلا إجابة فى المستقبل المنظور على الأقل، هل يمكن أن يتصالح الإسلاميون والعلمانيون فى تونس؟ هل يمكن أن يتصالح المصريون والإخوان فى مصر؟ هل يمكن أن يتفق الفرقاء على شىء فى ليبيا؟ هل يمكن أن يتوقف الدم النازف فى سوريا، وأن تحدث مصالحة ترتق ما انفتق فى نسيج هذا البلد؟ هل يمكن أن يرى اليمن الهدوء أو الوحدة أو السلام مرة ثانية؟ هذه إجابة السؤال الصعب الذى يسأل فى العراق وفى فلسطين أيضا، هل يمكن أن يتصالح السنة والشيعة؟ هل يمكن أن يتصالح العرب والأكراد؟ وهل يمكن أن يعود الوفاق بين الحمساوية والفتحاوية؟ التجربة الرواندية تقول إن كل الأسئلة السابقة يمكن أن تكون إجابتها «نعم!»، مع الوضع فى الاعتبار أننا- كأمة عربية وكشعوب عريقة داخل هذه الأمة- نملك من الثقافة والتاريخ ما يؤهلنا لتجاوز الخلافات السياسية والصراعات الطائفية، لكن أزمتنا الحقيقية هى أننا لا نعرف الطريق إلى استعادة إنسانيتنا- إن كان لها وجود فى أى حقبة من تاريخنا أصلا- ولا نعرف الطريق إلى وقف الانتماء وقصره على الوطن وحده كما فعل الروانديون. ربما بدا هذا الكلام مبكرا عن موعده المتصور، خاصة إذا فهم منه أنه دعوة للمصالحة فى مصر وحدها وإن كنت أعنى كل ما قلت لا تغليف رغبة مبكرة للمصالحة فى مصر وحدها، لكنه ليس أكثر من فكرة نظرية حتى لو كانت قياسا على التجربة الرواندية الناجحة، فالفارق كامن فى النوايا الصالحة للأطراف التى تصارعت فى رواندا وهو أمر لا نتمتع برفاهيته فى الوقت الحالى.