هل يمكن لمصر أن تنتقل من حالة الاشتباك غير الوطنى إلى مرحلة المصالحة الوطنية؟ هل يمكن أن نتحول من حالة رفض البعض للبعض الآخر ونتوصل إلى الاقتناع الكامل أنه لا بديل لنا إلا التعايش؟ منذ عدة أيام عاد الصديق عمرو خالد من رحلة أفريقية نظمتها الخارجية المصرية لدول حوض النيل. وروى لى عمرو خالد انطباعات كثيرة ومهمة عن نتائج مشاركته فى الوفد الشعبى الخاص بهذه الزيارة، إلا أننى توقفت طويلاً أمام انطباعاته الخاصة بزيارة «رواندا». خرجت رواندا فى منتصف التسعينات من حرب دموية قبلية لم يشهد مثلها أى وطن من الأوطان، ولا أى شعب من الشعوب. انقسمت رواندا فى تلك الحرب إلى قبيلتين؛ هما «التوتسى» و«الهوتو»، وفى الصراع العرقى القبلى المحتدم بينهما تحول الصراع إلى حرب أهلية وصلت فى ذروتها إلى مجازر جماعية أصبح فيها القتل على الهوية القبلية. فى تلك الفترة أصبح الجميع يقتل الجميع حتى سدت جثث الشيوخ والنساء والأطفال مداخل الميادين العامة وتسممت المياه بدماء القتلى. وعُرفت جرائم رواندا على أنها أكبر مجازر جماعية فى التاريخ المعاصر. ويكفى أن تعرف أن الشعب الرواندى فقد فى تلك الأحداث مليوناً من الشهداء، ويكفى أن تعرف أن عدد السكان بلغ وقتها 11 مليوناً. إذن هذا الشعب فقد مليوناً من 11 مليوناً، ما يعنى أن هذه المجازر أفقدت هذا الشعب قرابة عشرة بالمائة من تعداده. وتمت محاكمات شملت 40 ألفاً من المحرضين والمعتدين، وقررت رواندا بعد ذلك أن تطوى نهائياً صفحة المجازر القبلية، وحدثت عملية مصالحة وطنية، وتم تشجيع التزاوج بين التوتسى والهوتو بدعم مالى من الدولة وتوقف المجتمع فى سلوكياته عن مبدأ الانقسام القبلى. واليوم تأتى رواندا فى مقدمة الدول الجاذبة للاستثمار المباشر فى القارة الأفريقية. إذن المصالحة أدت إلى استقرار أدى بدوره إلى جذب استثمار سيؤدى منطقياً إلى نهضة. كيف يمكن أن نخرج من حالة التعالى الفرعونية ونتعلم من تجارب أشقاء لنا فى أفريقيا ونتحول من حالة الخصام والتشرذم إلى التعايش الوطنى؟! نحن أمام اختيار تاريخى: «التعايش الوطنى» أو «الوفاة السياسية». لم تتقدم دولة عظمى بعد ثورة كبرى إلا من خلال إغلاق ملف الماضى وإحداث حالة من العدالة الانتقالية وليس العدالة الانتقامية. حدث ذلك فى جنوب أفريقيا وتركيا والبرازيل والأرجنتين وشيلى ورواندا والبوسنة والهرسك ورومانيا مؤخراً. وحدث ذلك فى بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا والنمسا تاريخياً. فى لحظة ما تتوقف الدماء والمقاصل والمشانق ومبدأ التفكير والعمل للبناء والعمران والإصلاح والتقدم الحقيقى للبلاد والعباد.