هل كان مجدى عبدالملاك يحس بدنو الأجل حين كان «يفضفض بأحلامه»؟ صاحب مقهى «ريش» التاريخى، برلمان المثقفين الذى شهد سجالاتهم منذ 107 أعوام، كان قال ل«روزاليوسف» قبل الرحيل بأيام إنه يحلم بتحويل المقهى إلى «محمية ثقافية» تديرها الدولة، بما يحفظ للمقهى الذى يشكل معلما تاريخيا ل «وسط البلد» بالقاهرة، طابعه التراثى والتاريخى. ويقول شاعرنا الراحل نجيب سرور فى ديوانه «بروتوكولات حكماء ريش»: يعيش المثقف على مقهى ريش.. إذن رحل صاحب المقهى، فهل ستعيش الثقافة والمثقفون على المقهى؟! قال مجدى ل«روزاليوسف» قبل أيام من وفاته: إنه يسعى بدأب للحصول على موافقة وزارة الثقافة لتدير المكان مدى الحياة حتى يضمن استمراره بطابعه التراثى والثقافى، بأركانه التى تحكى عن نوادر الحكيم وندوات محفوظ وأشعار نجم وعبدالصبور وكواليس حفلات أم كلثوم، كما شهد التقاء «فاطمة اليوسف» بزوجها المطرب «محمد عبدالقدوس». استطاع «عبدالملاك» أن يستعيد ريش إلى الوضع التى كانت عليه بعد أن أغلقت لسنوات فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات وبعد زلزال 1992 طور المقهى وتحول إلى (مقهى ومطعم) مع الحفاظ على الطابع الأدبى، حيث لم يخل من نقاشات وسجالات المثقفين والسياسيين المصريين والأجانب أيضًا. بدأ مجدى إجراءات تحقيق حلمه منذ ما يقرب من عامين عندما كان محمد صابر عرب وزيرًا للثقافة فى عهد حكومة حازم الببلاوى عام 2013 ثم جدد السعى فى عهد الدكتور جابر عصفور حين زاره فى مكتبه، واستعاد الأمل فى عهد الوزير الحالى عبدالواحد النبوى.. فقبل شهر ونصف الشهر طلب منى مساعدته فى طبع نسخ من أوراق ملكية وتراخيص المقهى التى تعود لأكثر من 70 عامًا، بالإضافة لعمل نسخ من مقالات كتبت عن المكان منذ 100 عام وحتى 2015 وجلست بجانبه وهو يعد الملف الذى سيعطيه للوزير ورقة تلو الأخرى وبترتيب دقيق. مجدى لم يفصح عن سر حلمه إلا للأقرباء الذين أحبوا الجلوس بجانبه ليتبادلوا الآراء حول الأحداث الأدبية والسياسية، لكن السر لم يعد سرًا الآن والحلم لم يعد سهلًا أيضًا، فالمكان تحولت إدراته إلى مراد عبدالملاك الأخ الأكبر والوحيد المتبقى لمجدى، الذى هاجر إلى الولاياتالمتحدة منذ عقود ولا أحد يعلم ماذا سيفعل، هل سيتجاهل المقهى ويبقى مغلقًا، هل سيبيعه لشركة أو مستثمر، هل سيأتى ليديره بنفسه ويغير من طابعه الخاص.. لا أحد يعلم والأمر الآن فى يد القضاء والوريث الوحيد. الدكتور مصطفى الفقى المحلل السياسى الذى كان مقربًا لمجدى، حضر إلى ريش قبل أسبوعين ليخبر مجدى أنه تحدث إلى وزير الثقافة بخصوص سرعة تحويل المقهى لمحمية ثقافية وأن الوزير متحمس جداً للفكرة، لكن كان مجدى وقتها مريضًا لم يستطع مقابلة الفقى، وبعدها بأيام دخل المستشفى. وأخيرًا يقول الفقى: إن الدولة لن تستطيع فعل شىء مع المقهى الآن إلا عندما يأتى الوريث ويفتتحه مرة أخرى، والحل أن يكون هناك نزع ملكية وتعويض عن ذلك لصالح الوريث ومن ثم تتحول ملكيته للدولة. من ناحية أخرى يقول المهندس عباس محمود، الصديق المقرب لمجدى إنه تلقى اتصالاً من لجنة التنسيق الحضارى يفيد بأنه تمت الموافقة على طلب تسجيل المقهى كمبنى أثرى لا يجوز هدمه، وهذا يعنى أن الوريث يستطيع بيعه لكن لا يستطيع إزالته، يستطيع تغيير طابعه وشكله من الداخل لكن لن يستطيع تحريك أى جدار فيه. محمود الذى ساهم فى عملية إعادة إحياء المقهى فى تسعينيات القرن الماضى أكد أن أزمة ريش الحالية تتمثل فى غموض فى موقف الوريث، وقال: إنه ربما تستطيع مجموعة من السياسيين والأدباء من الرواد التاريخيين للمقهى أن يجمعوا مبلغا كبيرا ليعرضوا شراءه من الوريث ومن ثم يشكلون مجلس أمناء يدير المكان يتكون من رواده، ورغم جاذبية الفكرة فإنها تبقى فى موقع الاقتراح أو الأمل الذى لا يعرف أحد إلى أين يأخذنا. واجه مجدى إغراءات كثيرة لبيع المقهى لمستثمرين مصريين وأجانب على مدار العقود الثلاثة الماضية، لكنه صمد ووقف قويًا أمام عمليات طمس القاهرة التاريخية، وقرر الحفاظ على المكان الأصيل الذى شهد الحفلات الأولى لأم كلثوم ومسرحيات نجيب الريحانى وعزيز عيد، كما يحتفظ «قبو» المقهى بالطابعة التى نسخت منشورات ثورة 1919 واختبأ به الثوار من هجمات الإنجليز، مثلما اختبأوا من قنابل الغاز إبان ثورة 25 يناير، وضمت المتمردين على حكم الإخوان عام .2013 بعض المثقفين الصغار ورواد مواقع التواصل الاجتماعى يهاجمون مجدى عبدالملاك الآن، ويقولون: إنه كان ينتقى زبائنه بشكل طبقى ويميل للأجانب أكثر من المصريين، وهو ما يعتبر «قُصر نظر» لأن مجدى الذى عاش فى ريش طوال 55 عامًا تأكد أنه لا يمكنه أن يترك المقهى يتحول إلى مكان لشرب الخمور فقط، وأصر أن يكون ريش «مطعماً ومقهى»، فكان يسعد عندما يرى أسرة مصرية بسيطة تجلس على إحدى الطاولات تتناول الغداء. ولأن عبدالملاك كان طيارًا من أبطال حرب أكتوبر وخرج من الجيش برتبة لواء، استغل خبرته العسكرية وأدار المكان بأسلوب الضبط والحزم ورغم أن ذلك لم يرض بعض العاملين فإنه ساهم فى الحفاظ على ثبات أسلوب معاملة الزبون، بداية من ملابس ال«جارسونات» الزرقاء والطاقية البيضاء التى تشعرك بعودة عصر القاهرة الخديوية. حلم مجدى الذى رافقه لسنوات أصبح الآن حلم الكثيرين ممن تربوا على طاولات «ريش» عليهم أن يبذلوا كل الجهد ويطرقوا كل الأبواب ويسعون فى كل الاتجاهات لتحقيق الحلم، وفتح المقهى، وإعادة شمس الأمل فى ميدان طلعت حرب.∎