رغم جماهيرية العندليب الأسمر واتساع حدود شعبيته إلى يومنا الحالى بعد مرور ثمانية وثلاثين عاماً على رحيله فإن هناك بعض المحاولات من القلة لطمس موهبته والانشغال بفكرة سطحية جداً لا علاقة لها بمضمون الفن الحقيقى ألا وهى قوة صوته كمطرب، حيث يدعى هؤلاء ضعف صوت حليم متناسين عدة أمور فنية يجب أن نقف عندها رداً على أصحاب هذا الادعاء. أولها أن صوت حليم قوى بدليل أدائه لكثير من الأغنيات التى أبرزت هذه القوة، وإمكاناته الأدائية الغنائية والتطريبية العالية والتى يصعب على غيره الوصول إليها بنفس التلقائية والعذوبة فى الغناء، كشفها إعادة غناء تلك الأغنيات بأصوات مطربين آخرين لهم مكانة على الساحة، ورغم هذا يخفقون فى أدائها مما يدلل على قوة صوت حليم وقدرته على التطريب بشكل مميز والدليل استمرار نجاحه الساحق حتى الآن. العندليب تمكن فى مطلع أغنية «جبار» تلحين الموسيقار محمد الموجى والتى بدأها بأعلى درجات المقام من أن يظهر قوة صوته لدرجة أنها الأغنية الوحيدة التى يخشى الجميع أداءها على المسرح أيضاً أغنيتا «أهلاً بالمعارك» و«عدا النهار» حيث أعطتنا أغنياته الوطنية حماسة وصلابة ورغبة فى تحدى كل الظروف والمعوقات. ثانيا: إن قوة الصوت وحدها ليست معياراً فنياً يقاس به المطرب إلا فى بعض الحالات القليلة والنادرة والتى يتوفر فيها قوة الصوت مع قوة الإحساس، فقوة الصوت وحدها ليست شرطاً للنجاح وتحقيق الجماهيرية فبالرغم من أن حليم ضمن باقة من الأصوات القوية العملاقة ولم ينفرد وحده بهذه الخاصية على الساحة الفنية آنذاك إلا أنه أفضلهم نجاحاً وذكاء وشهرةً بل وبقاء، حيث تتوافر فيه سمات النجم من حيث الكاريزما الربانية التى حباه الله إياها وتوظيفه لإمكانات صوته خير توظيف، الإحساس الذى يفوق أى مطرب آخر فيخترق مشاعرنا ووجداننا بصدقه. ثالثا: إن صوت حليم يختلف عن الأجيال السابقة له حيث اختلاف مقاييس الحكم على الصوت الغنائى بعد استخدام الميكروفون فربما إذا ظهر حليم فى القرن التاسع عشر ما شهد هذا النجاح لاعتماد هذه الأجيال على قوة الصوت وحدها باستخدام رنين الرأس المرتكز على الأنف فيصدح الصوت بحدة، أما حليم فكان يستخدم رنين المنطقة الوسطى المتمثلة فى الحنجرة والصدر مما يثير الإحساس والشعور والشجن. رابعاً: المساحة الصوتية لصوته محدودة نسبياً لكنه استغلها بذكائه وأجاد الغناء فى المنطقة الوسطى، وكثير من أغنياته فى هذه المساحة الصوتية، لكن هناك استثناءات كما فى لحنى عبد الوهاب «يا خلى القلب» والتى يبدأها من أساس المقام فى طبقة صوتية منخفضة متصاعداً بما يتجاوز الأوكتاف، وأغنية «قوللى حاجة» كما فى المقطع الغنائى (قول يا قلبى.. قول يا أملى) حيث أبرز موسيقار الأجيال إمكانات صوته مع التحكم فى مساحته الصوتية من الجواب ثم الهبوط للقرار فى قفزات لحنية توضح مدى تمكن أداء المطرب، كذلك ثباته على نغمات السلم الموسيقى أو المقام اللحنى مع الصعود والهبوط دون تأثير سلبى على غنائه. خامساً: عبقرية حليم تكمن فى روعته التعبيرية ببراعة وهو أكثر ما يميز أداء حليم مع التفاوت ما بين القوة والضعف، ونجد تجسيد ذلك فى الأدعية الدينية مثل «خلينى كلمة» وتعبيره بكلمة جراح بزخارفها التلقائية عن الجراح فعلياً، أما إدينى بسمة فتشعر بالبسمة بعد هذه الجراح، أيضاً الأغنيات ذات المسحة الشجنية والحزينة مثل «موعود»، «فى يوم فى شهر» حيث عبر ببراعة ومهارة فائقة ليست لإظهار مجرد قوة الصوت لكنها لتجسيد معانى خفية تخاطب مشاعرنا بمجرد سماع صوته الدفين الذى يخرج من أعماقه، وهو ما أبدع فى تحقيقه فعلياً، أما الأغنيات الوطنية فقد أعطتنا حماسة وصلابة وتحدياً، أما الأغنيات العاطفية فقد يبكيك من شدة الاندماج والتعايش فى العاطفة الجياشة وهذا سر نجاح صوت العندليب المغلف بالشجن نتيجة لتأثير البيئة عليه حيث كانت ظروفه الاجتماعية نتيجة ليتمه وافتقاده للحنان منذ صغره ثم مرضه فيما بعد أعطاه انكساراً داخلياً مملوءاً بالشجن وغير مفتعل ترجم تحت إطار التعبيرية التى فى رأيى سر هذا الفيض من الأحاسيس، فكلمة الآه كانت انعكاساً لآه حقيقية داخله. وأخيراً فمن وجهة نظرى أن عنصر التطريب كان قبل حليم يجذب الأذن لقوة أصوات المطربين لكن تطريبه مزيج ما بين إمتاع الأذن وتعميق الإحساس بالشجنية والتطريب التلقائى غير المقصود لذاته دون افتعال رغم تعايشه فى الأغنية بعمق، وهو ما جعله يتميز عن غيره.. ورغم أن حليم بدأ كلون خفيف مثل أغنية «على قد الشوق» البعيدة عن التطريب لرغبته فى ابتكار لون غنائى جديد، لكن لحن له الموجى فى الخمسينيات قصائد غير مشهورة تمثل الاتجاه التطريبى مثل «نداء الماضى» و«ربيع شاعر» وأثبت حليم فيهما مدى تحكمه وقدرته على التطريب مثل عمالقة الغناء فى القرن العشرين، بعد ذلك تضمنت بعض أغنياته هذا النوع التطريبى، وجاءت قصيدة «يا مالكاً قلبى» فى شكل الموشح القديم جامعاً ما بين التطريبية والتعبيرية، ثم «لحن الوفاء» مع المطربة الرائعة شادية ومن ألحان السنباطى التى أبرز فيها إمكاناته الصوتية.. وبالإضافة لكل هذا فقد كان يتمتع صوت عبد الحليم بتريل أو زغردة أبرزت إحساسه فى تقطيع الكلمات بأداء بارع يميزه كمطرب، ونجد بصمته كفنان متألق على تلك الأعمال والتى لا تقتصر على إتباعه لدور الملحن فقط، أيضاً جاء تكراره لبعض الجمل لتغيير شكل الأداء وتطعيم الأغنيات بزخارف مميزة الطابع صبغت أغنياته بصبغة جمالية تسحر القلوب وتخلب العقول بجانب إحساسه الدفين وصدق أدائه وهذا سر عظمة صوته إلى الآن حتى لو لم يكن أقوى الأصوات على الساحة.∎