شهدت تونس ظهيرة الأربعاء «مصيبة»- على حد قول رئيسها- وهى العملية رقم (28) فى سلسلة العمليات الإرهابية التى شهدتها تونس منذ مايو 2011 ولا يتضمن هذا الرقم عمليات الاغتيال السياسى التى شهدتها تونس منذ .2011 وعلى الرغم من فداحة الحادث، إلا أن الأقدار كانت رحيمة، حيث إن هناك (19) حافلة تقل السائحين من ميناء حلق الوادى إلى متحف باردو، وقد غادرت معظم هذه الحافلات مقر المتحف قبل تسلل الإرهابيين إلى مكان الحادث. لم تعرف تونس عمليات استهداف السائحين، إلا مرة واحدة، عام (2002)، وهو حادث الغريبة بولاية جربة، الذى أسفر عن مقتل (14) سائحًا، إلا أنه يعد حادثًا منفردًا، أى أنه لم يأتِ ضمن سلسلة عمليات إرهابية. ومصيبة حادث اليوم لا تتمثل فى عدد الضحايا وكم المصابين فقط، بل يتعدى ذلك لتكون حلقة جديدة فى سلسلة العمليات الإرهابية مصحوبًا بنقلة نوعية تستحق التوقف عندها. فهذا الحادث انتقل بالعمليات إلى قلب العاصمة، واقترب جدًا من مؤسسات السيادة بالدولة (مجلس النواب)، واستهدف السائحين بما يعنى ضرب الاقتصاد فى مقتل لما تمثله السياحة من ركيزة أساسية للاقتصاد التونسى المنهك خلال السنوات الماضية، كما أن الحادث شهد ارتداء الإرهابيين للزى العسكرى. تلك الأبعاد الخاصة بالحادث هى ما تجعله «مصيبة» بالفعل، تستوجب سرعة الرد، ودقة الرد، وشمولية الرد. ∎ المشهد السياسى فى تونس احتفظت تونس لنفسها بصورة منفردة بين شقيقاتها اللاتى شهدن سيناريو «الربيع العربى»، فقد استطاعت أن تستمر لما يزيد على ثلاث سنوات تحت حكم «ترويكا» سياسية مختلفة التوجهات، إلا أن المحرك الفعلى لها كانت حركة النهضة «الإخوان المسلمين». ففى انتخابات 23 أكتوبر 2011 تحصلت حركة النهضة على (89) مقعدًا من بين (217) مقعدًا هى إجمالى مقاعد المجلس التأسيسى، وتشكلت الترويكا من النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطى، ومثل ذلك حالة من التوافق السياسى المتفرد بين دول الربيع العربى. وتغيرت الخريطة السياسية فى الانتخابات التشريعية فى أكتوبر ,2014 حيث تفوقت حركة «نداء تونس» وحصلت على (86) مقعدًا من مقاعد مجلس نواب الشعب ال217)، بينما تحصلت حركة النهضة على (69) مقعدًا، متراجعة بنسبة (22٪) عن انتخابات .2011 وتغير المشهد السياسى لتعتلى حركة نداء تونس الحكم بالحصول على منصب رئيس الجمهورية، ورئيس البرلمان (وأغلبية البرلمان) وحق تشكيل الحكومة بدعم بعض الأحزاب الأخرى، ولم يُرد- أو لم يستطع- الرئيس التونسى تجاهل حركة النهضة فى تشكيل الحكومة التونسية، فانتهى حكم الإخوان لتونس، ولكنهم انتقلوا إلى صف المعارضة، وهم يجيدون اللعب فى هذا الصف، وهم يقبلون به فى هذا الظرف التاريخى بعد فشلهم - ضمن الترويكا- فى إدارة البلاد بشكل جيد، ولا يمكننا إغفال ما شهدته مصر فى 6/30 وإزاحة الإخوان بإرادة شعبية واعية وجارفة، فى التأثير على شعبية الإخوان فى تونس وغيرها من الدول. إن الإرهاب كان لابد أن يطال تونس فى الفترة السابقة- مثل نظيراتها- فقد شهدت تونس انفلاتًا أمنيًا ملحوظًا نتيجة ضعف القبضة الأمنية، وهذا طبيعى فى مثل هذا الظرف التاريخى، كما أن تصدر الإخوان (حركة النهضة) للمشهد السياسى فى الفترة السابقة سمح بتواجد بعض الإرهابيين داخل تونس، وسمح كذلك بظهور بعض تيارات الإسلام السياسى بأجنحتها الإرهابية العسكرية، ذلك فضلاً عن تسرب البعض الآخر عبر الحدود، بالإضافة إلى الأوضاع الليبية الملتهبة، والحدود الساخنة مع الجزائر. كل ذلك جعل من الملف الأمنى أولوية بجانب الملف الاقتصادى أمام الرئيس التونسى والحكومة التونسية وهذا أمر منطقى، أما الأمر المستغرب فقد كان هو الموقف التونسى إزاء الضربة المصرية لمعاقل الإرهابيين فى ليبيا ردًا على ذبح المصريين هناك، فلم تكن تونس من الدول المؤيدة لهذا الإجراء الدفاعى للأمن القومى المصرى، وأيًا ما كانت الاعتبارات السياسية التى قام عليها الموقف التونسى، إلا أنها جعلت تونس كأنها لم تكتوِ بنار الإرهاب، ولم تحصد العمليات الإرهابية (67) شهيدًا من الجيش والشرطة، ولم تفقد بعض أبنائها الوطنيين من الساسة والمناضلين، ولم يخطف الصحفيان التونسيان (سفيان الشواربى ونذير القطارى) داخل الأراضى الليبية وغموض مصيرهما. ولكن مع كلمة الرئيس التونسى اليوم- عقب الحادث- وما أعلنه من إصرار على دحر الإرهاب، وكذلك فى محادثته الهاتفية مع الرئيس المصرى «عبدالفتاح السيسى» وما أكده من ضرورة توحيد الجهود لمواجهة الإرهاب فى المنطقة يعود الأمر مرة أخرى ليبدو منطقيًا. إن لتونس تجربة فريدة فى مواجهة الإخوان فى الثمانينيات، ونجحت نجاحًا مشهودًا فى «تجفيف منابع الإرهاب» فهل تستطيع الآن معاودة التجربة؟ إن تغير الظروف التونسية والإقليمية والدولية يجعل من الأمر صعبًا، فالظرف التونسى أصبح مختلفًا تمامًا، وأصبح الإخوان جزءًا من المشهد السياسى، والقوة السياسية الثانية فى البلاد، كما أن الحركة السلفية أصبحت متواجدة فى تونس، بل والسلفية الجهادية، وهذا كله يُعد عائقًا أو على الأقل معطلاً للتحرك الحاسم لمواجهة هؤلاء الإرهابيين الذين ينتمون لجماعات إرهابية ترتبط أو تتماس فكر الإخوان وتنظيمهم. أما الظرف الإقليمى فهو متوتر فى مجمله، ليبيا تُعد- فى أجزاء عديدة من أراضيها- مرتعًا لتلك الجماعات الإرهابية، وذلك حتى إشعار آخر من القيادة الجديدة للقوات المسلحة الليبية «اللواء خليفة حفتر» بإعلان نجاحه فى استعادة المناطق التى تسيطر عليها تلك الجماعات الإرهابية، والحدود مع الجزائر تمثل بؤرة إرهابية تستنزف من جهد الجيش التونسى الكثير، ومصر تعيد بناء اقتصادها بيد، واليد الأخرى تقضى على فلول الإرهاب. هذا الظرف فى عمومه يبدو غير مساعد ومعاون للتوجه التونسى فى مواجهة الإرهاب، إلا أن توحد الخطر والتهديد بين هذه الدول قد يكون هو المساعد لهم جميعًا على التوحد لمواجهته. أما الظرف الدولى فهو مختلف فى تفاصيله، فالولايات المتحدةالأمريكية تدعم الإخوان بإرهابهم ويغضبها مواجهة الدول لهؤلاء الإرهابيين، فى حين أن إيطاليا مستعدة للتعاون مع العرب فى مواجهة هذا الخطر، أما فرنسا فقد عانت من هؤلاء الإرهابيين وما نفذوه من عمليات على أراضيها. هذا الظرف يمكن توحيد تفاصيله- أو أغلبها على الأقل- فى حالة وجود تكتل عربى لمواجهة الإرهاب. فهل تستطيع تونس «تجفيف المنابع» فى ظل تلك الظروف المحلية والإقليمية والدولية؟ وهل يستطيع الاقتصاد التونسى تحمل تكلفة مواجهة هذا الإرهاب؟ وهل ستجد تونس الدعم الدولى اللازم لمساعدتها فى هذه المواجهة؟ تلك التساؤلات تكون إجابتها بنعم بشرط التنسيق والتعاون على المستوى الإقليمى وهو الأهم والأكثر إلحاحًا، سواء بشكل جزئى «دول الجوار» أو بشكل كلى على مستوى العالم العربى من خلال جامعة الدول العربية ومنظماتها. إن المواجهة الأمنية والعسكرية هى الحل العاجل فى استراتيجية المواجهة الشاملة لهذا الإرهاب، أما الحلول الآجلة- على المدى الطويل- فتستلزم تضافر الجهود الثقافية والدبلوماسية والإعلامية والتعليمية، من أجل تنوير العقول لأجيال حالية وقادمة. وفى هذا الصدد وبمناسبة قرب انعقاد القمة العربية، فيتعين على جامعة الدول العربية وقمتها القادمة قريبًا أن تبحث سبل التعاون العربى (الفعلى وليس الورقى والبروتوكولى) فى مواجهة هذا الإرهاب الذى يضرب فى الجسد العربى المنهك، وأن يثمر هذا البحث عن استراتيجية عربية شاملة لمواجهة الإرهاب، تتضمن تفعيل التعاون الأمنى والعسكرى، وإطلاق خطة ثقافية تنويرية، واعتماد رؤية تعليمية، وبدء خطة تحرك دبلوماسى متكاملة، ووضع خطة تحرك إعلامى تدعم كل الخطوات السابقة، وتوفير الدعم المادى العربى لكل ذلك.∎