اثنان وعشرون شهيدًا أو قتيلاً أو ضحية، ليست الأوصاف والمسميات أمرًا ذا أهمية، فالأرواح صعدت إلى السماء، ولله الحكم فى أمرهم، وهو العزيز القدير. وبغض النظر عن ملابسات مذبحة استاد الدفاع الجوى، وعن الروايات المتضاربة، التى تتهم رجال الشرطة بالإفراط فى استعمال القوة، أو التى تتهم شباب رابطة مشجعى الزمالك «وايت نايتس» بالتسبب فى الفاجعة التى أدمت قلب مصر من نوبتها إلى إسكندريتها ومن مطروحها إلى سينائها، تبقى الحقيقة الواضحة أن إعلامنا المرئى ليس على مستوى الحدث، وربما ليس على مستوى أى حدث، إعلام تحكمه الجهالة والغوغائية، ويتصدره التحريضيون الصارخون الفارغون من الوعى والثقافة. ما إن وقعت الكارثة، حتى خرج إعلاميون من كل فج عميق، كلٌ يدلى بدلوه، وكل يتناسى أن وظيفته ليست أن يقدم الرأى الأوحد، أو أن يتحول إلى محاضر يلقن المشاهدين أفكاره ورؤاه، ويتبنى وجهة نظر حاسمة لا تقبل بالنقاش أو المساس بها. لم يكن العويل وحده يخيم على مصر، ولم يكن ارتداء الأسود حدادًا فحسب هو ما يوجع قلبها، فمع ما يثيره هكذا حادث من كآبة قاتمة، علت أصوات تحرض، وتزعم زورًا أن هيبة الدولة فوق الجميع، فليذهب الشباب إلى الجحيم، ولتندلع الحسرة نارًا فى قلوب الأمهات، ولا بأس من الانحياز إلى رواية الشرطة الرسمية وتجاهل كل الروايات الأخرى. لا نقول رواية الشرطة كاذبة، ولا ندعى أيضًا أن الباطل لا يأتيها من فوق أو من تحت، لكن أليست أبجديات الإعلام تقتضى ألا ينحاز الإعلامى إلى رواية دون غيرها؟.. أليس عليه أن يعرض الرواية والرواية المضادة فى آن واحد؟ بالطبع نعم.. لكن شيئًا من هذا لم يحدث، فبعد المباراة مباشرة، سارع هذا وذاك وتلك إلى تبنى رواية واحدة.. القتلى هم السبب، لقد تدافعوا وأرادوا اقتحام الاستاد دون قطع تذاكر فتعاملت معهم قوات الشرطة.. تأمل العبارة «تعاملت معهم». الإعلامى أحمد موسى بدوره لم يبعد كثيرًا أو قليلا عن الخطاب التحريضى، فإذا به يجزم بأن شهود عيان أكدوا أن الشرطة لم تطلق رصاصة واحدة، وحالات الوفاة نجمت عن التدافع بين الجماهير، لكن أين أولئك الذين يصفهم الإعلامى الجهبذ بشهود العيان؟ يبدو أنهم شهود سريون، يستحضرهم بطرق سحرية عبر تعاويذ وطلاسم يلقيها فى غرفة مظلمة، فيظهرون له ليكشفوا عن كل الأسرار، ومن ثم ينصرفون فى سلام فلا يؤذونه ولا يؤذيهم! ولم يكلف موسى نفسه عناء التقدم بالتعازى إلى ذوى الضحايا، متمسكًا بأن لا أحد وراء المجزرة سوى عناصر جماعة الإخوان الإرهابية.. ومجددًا لم يأت الإعلامى المكشوف عنه الحجاب - لا نقول الغطاء - بمعلومات دامغة تدين هذا الطرف أو ذاك، بل إنه سارع إلى وصف الضحايا بالبلطجية والمخربين.. إنه الانحياز واختلال الموازين فى أقبح صورهما وأكثرهما تطرفًا. وإلى جوار الإخوان اتهم أحمد موسى، أنصار حازم صلاح أبوإسماعيل، بالوقوف وراء الأحداث، واصفا المذبحة بالمؤامرة لإثارة الفوضى للمتاجرة بدماء الضحايا فى الخارج، وهكذا يصبح السؤال محظورًا والتفكير محظورا. إنها نظرية المؤامرة إذن.. النظرية التى أفرط الإعلام فى استعمالها حتى كادت صلاحيتها تنتهى، وهى ما ظهر فى خطاب الإعلامى مدحت شلبى أيضا، والذى قال: «إن التدافع بين الجماهير تسبب فى الكارثة».. هذه رواية الداخلية دون نقص أو زيادة، وقد تكون صحيحة، لكن هل يصح أن ينحاز إعلامى إلى رأى دون آخر خاصة أن التحقيقات لم تكن قد انتهت بعد، حيث خاض شلبى المشهور ب«شلبوكا» فى الأمر بعد انتهاء المباراة مباشرة، وفيما كانت مشرحة زينهم تستقبل جثامين الشهداء. وهل ثمة علاقة بين كون «شلبوكا» ضابط شرطة سابقًا وبين انحيازه لرواية الداخلية؟.. هذا سؤال لا يجيب عليه إلا الإعلامى ذاته. الإعلامى المثير للجدل توفيق عكاشة، لم يتمالك نفسه على الهواء، بسبب الاشتباكات التى وقعت فى استاد الدفاع الجوى، قائلا: «شوف نتائج الحادث ده.. وشوف الطين الأسود علشان حمير مش مقدرين الموقف.. ويقول لى كورة الله يخرب بيت الكورة»، مشيرا إلى أن «الوايت نايتس» مخترق من أنصار حازم أبو إسماعيل، خلال برنامجه على قناة «الفراعين». الإعلامية إيمان عز الدين، لم تحلق خارج السرب، فالألتراس هم أذرع خيرت الشاطر نائب المرشد العام لجماعة الإخوان الإرهابية، وهكذا تصبح الداخلية بريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وطالما أننا نحارب الإرهاب فإن التساؤل عما إذا كان رجال الشرطة لم يتمكنوا من ضبط النفس، أو عما إذا كانوا أفرطوا فى استعمال القوة، يعد من قبيل الوقوف فى صف الجماعات الإرهابية، ومن ثم يصبح كل من يحاول الوقوف على الحياد، من عناصر الطابور الخامس و«الخونة النشتاء والحكوكين». وإذا كان أداء بعض الإعلاميين يمثل فضيحة فإن أداء قناة النيل الرياضية يعد من قبيل الكوارث والمهازل، فالقناة تطرقت فى الاستوديو التحليلى بعد المباراة مباشرة إلى خبر مقتل المشجعين فى إشارة سريعة، وكأنه خبر عن ارتفاع أسعار الكافيار مثلا، ومن ثم مضت تتحدث عن الموقف فى مسابقة الدورى العام وترتيب الفرق على جدول المسابقة وكذلك المباريات المقبلة لفرق القمة والقاع ذلك قبل أن تتلقى بيان اتحاد الكرة ومن بعده قرار مجلس الوزراء بوقف المسابقة إلى أجل غير مسمى. مشهد غريب لزج يعيد إلى الأذهان خطايا ماسبيرو إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير حينما كانت كل فضائيات العالم تنقل ما يحدث فى ميدان التحرير، بينما عدسات التليفزيون المصرى تنقل صورة صفحة النيل الهادئة وتتلقى اتصالات من «تامر بتاع غمرة» حول المخربين الذين يريدون تخريب البلد من «آكلى الكنتاكى» والمأجورين والفئة المندسة.∎