فى العام 1991 زار الرئيس الإيرانى رافسنجانى الخرطوم وأعد له النظام حفل استقبال فى مدينة بورتسودان على البحر الأحمر ليشهد تخريج جوقة من ميليشيات (الدفاع الشعبى) السودانية الموالية للنظام وهى قوات أشبه بقوات (الباسيج) التى تتبع الحرس الثورى الإيرانى حيث تلقت تدريبات عالية على أيد إيرانية. كانت تلك الزيارة بمثابة الانتقالة الكبرى فى سير العلاقة بين النظام الإسلاموى الجديد فى الخرطوم والنظام الفاشى الدينى فى إيران، حيث لم تكن العلاقة تتعدى تدريب بعض العناصر الخطرة المنتمية ل «الجبهة الإسلامية القومية» أى تنظيم الإخوان المسلمين السودانيين، كما أن بعض المنتسبين للجبهة كانوا يتمذهبون بالتشيع وبعضهم أعضاء بالمجلس الأربعينى مثل دكتور «حسن مكى» والصحفى الراحل «محمد طه محمد» الذى اُغتيل قبل سنوات و«أمين بنانى نيو» وكما أن البعض ذو قربة فكرية من المذهب الشيعى مثل «أمين حسن عمر» و«عبدالوهاب الأفندى» وعائلة وزير الزراعة الأسبق «عبدالحليم إسماعيل المتعافى» ومنهم شقيقاه الرشيد ومحمد إسماعيل المتعافى وصهرهم عمر محمد خير ووزير الثقافة الأسبق «السمؤال خلف الله». وبلا شك فإن (تنظيم الإخوان المسلمين أو المؤتمر الوطنى أو المؤتمر الشعبى)، أيًا كان اسمه يتحمل المسئولية فى استيراد النموذج الإيرانى العنيف ونشره فى السودان، فهم أول من شرع القتل الممنهج وأول من صبغ القتل بقدسية وحفزوا القتلة المغرر بهم بالاستلذاذ والتمتع بالحور العين وبأن لهم الجنة وما فيها من متع مادية، وقسموا الوطن إلى فسطاطين أحدهما للكفر والآخر لهم ولم يكتفوا بذلك وقسموا الدولة إلى دولتين. ثم كرر رافسنجانى الزيارة فى العام 1996 ومن يومها وإيران تعمل بقضها وقضيضها لملء الفراغ الفكرى الذى تسبب فيه النظام الإسلاموى الحاكم بقدر كبير إذ يشترك السودان مع غيره من بعض البلدان عربية كانت أو إفريقية فى غياب المشروع الوطنى الذى يحدد الاتجاه والمسار ويشيد الأبنية والاُطر الفكرية اللازمة لسير الدولة والمجتمع. سعت الدولة الإيرانية وبهمة تحسد عليها إلى ملء ذلك الفراغ وقوت صلاتها بالنظام الجديد فى الخرطوم الذى بدأ منذ الوهلة الأولى متخبطاً فى سياسة الخارجية فقد أخذت الخرطوم تتدخل فى شئون الجيران على نحو يحاكى إيران فى محاولاتها تصدير الثورة، فقد سعى إسلاميو الخرطوم إلى تصدير مشروعهم المسمى ب«المشروع الحضارى» وكان عراب النظام حسن الترابى يقدم الدعوات إلى المتطرفين من كل أنحاء المعمورة تحت مظلة «المؤتمر الشعبى العربى والإسلامى». استغلت إيران الساعية لتمديد نفوذها فى كل البلدان العربية والإفريقية والإسلامية ذلك الفراغ ووجدت لها موطئ قدم فى القارة الإفريقية بل فى أكبر دولها مساحة والتى تحادد تسع دول، مما جعل لعاب إيران يسيل أمام هذا الإغراء، فنزلت بثقلها فى الاستثمارات الزراعية والبيطرية ومشروعات البساتين وعبر تقديم المنح الدراسية وفرص التدريب فى العمل المدنى والعسكرى ثم نشرت المراكز الثقافية والحسينيات مستغلة المناسبات الدينية فى بيئة صوفية بالكامل يتسمى فيها الأشقاء فى الأسرة الواحدة باسم «على ومعاوية» وتلك بيئة غريبة على عقل النظام الإيرانى الذى صمم على الطائفية والتمذهب الدينى الحاد عقب ما عرف بالثورة الإسلامية وإعلان الجمهورية. واستخدمت إيران المذهب الشيعى كوسيلة لجذب المتدينين من شتى المذاهب الإسلامية الأخرى فى السودان وغيره، ولكن تبقى المذهبية فى نهاية المطاف أطروحة فكرية بائسة وضيقة الأفق، وحيث لا تملك الحكومة الإيرانية مشروعًا نهضويًا أو إحيائيًا أو تحرريًا حالة كونها ترفع شعارات دينية، فإيران المٌحتلة لا يمكن أن تكون داعمة للتحرر، وهى الدولة التى ابتلعت دولة كاملة منذ العام 1925 حين استلمت تسليم مفتاح دول الأحواز من بريطانيا كما استولت على أجزاء من أفغانستان وأجزاء من كل من أذربيجانوأفغانستان وتركمنستان وبلوشستان. فى الداخل الإيرانى نجد أن الحكومة الجديدة فى مرحلة أسلمتها وثورتها بعد العام 1979م أخذت توالى المجموعة ذات النزعة الفارسية التى تشكل قرابة ال51٪ من بين مكوناتها على حساب التشكيلات القومية الأخرى كالاكراد والجيلاك والبختيار واللور والتركمان الآذريين (الأتراك) والبلوش و العرب والأرمن، ناهيك عن العسف والظلم الذى يلاقيه أصحاب الديانات الأخرى كالزردشتية والبهائية والمسيحيين واليهود بل حتى المسلمين السنة وهم الأكثر قمعاً فى الجمهورية الإيرانية الإسلامية. ∎ دولة عنصرية: يرى الكثير من المراقبين أن النظرة المتحكمة فى السياسة الإيرانية الداخلية قديمة الجذور وأنها (خاصية تعود إلى النظام الشاهنشاهى خلال الحقبة البهلوية - نسبة إلى رضا بهلوى - (1925-1979) وأنها مقتبسة من نظرية العرق الآرى ومن ألمانيا على وجه التحديد)، وهذا مما هو شائع وإن لم يكن علميًا ودقيقًا ولكن ما أتبع من سياسة عنصرية مارستها الدولة الإيرانية فى حقب مختلفة يرجح هذا الرأى. وفى السودان التقى النظام الإخوانى الحاكم مع نظام يشبهه فى كل شىء، أيديولوجيا دينية فاشية متطرفة، استخدام العرق فى السياسة، حصر الامتيازات على فئات دون الأخرى، طبقة سياسية فاسدة وتحمل مشروعًا فى أحسن الأحوال مشروعًا وهميًا غير ملموس حياتياً باختصار مشروع للآخرة وليس للدنيا يقدم لك الجنة بكل يسر إذا كنت جاهزاً للموت فى سبيل تثبيت أركان المشروع الوهمى نفسه! ثم قدمت إيران نفسها فى السودان كحامى حمى الإسلام ومقدساته. وعلى ذات النهج الإيرانى سارت حكومة إخوان الخرطوم فاستخدمت التكفير والقتل والتعذيب والتشريد والوعد بالجنة والظفر بالحور العين مثلها مثل حكومة الملالى، فقد هتف الذين يحكمون السودان الآن فى سبعينيات القرن الماضى عقب وصول الخومينية إلى السلطة «إيران فى كل مكان» احتفالاً بانتصار الخومينى ووصوله طهران! وسارت استراتيجيتهم على هدى «الإمام» الخومينى فقد سعوا إلى تحقيق اهدافهم بتقية وتمكين تدريجى ثم استخدموا سلاح إرهاب الخصوم السياسيين والانقضاض عليهم ومخادعتهم وبرروا لأنفسهم استخدام كل أساليب التضليل والخداع وهذا ما حدث عقب المصالحة الوطنية الشهيرة فى العام 1977 بين الرئيس جعفر النميرى وبعض قوى المعارضة وهو تاريخ بداية التمكين. إيران تدرك أهمية السودان وترى فيه مدخلا مناسبا لتمديد نفوذها أفريقيا مما جعلها تعقد فى عام 2008 اتفاقية عسكرية معه، وأصبح السودان مرتعاً لوزارة الدفاع الإيرانية وأذرعها، سواء سلاح المهندسين أو البحرية الإيرانية التى ثبتت أقدامها فى البحر الأحمر وتمدد نفوذها ليشمل إريتريا أيضاً. أصبح السودان معبراً لتمرير الأسلحة لكل الجماعات المتطرفة مثل حماس الفلسطينية والمجموعات الليبية (أنصار الشريعة) والتيار الجهادى الليبى وغيرها، إذ يقوم النظام الإسلاموى فى الخرطوم بلعبة الاحتواء المزدوج للحركات الإسلاموية بغض النظر عن منبعها المذهبى لتحقيق أهداف التنظيم الدولى للإخوان المسلمين ومع ذلك تجد في نظام الخرطوم من يعبر عن ولائه لإيران علناً. وكشف الخلاف بين وزارة الخارجية السودانية من جهة وجهاز الأمن والمخابرات على خلفية طلب إيران نصب صواريخ فى مينائى بورتسودان وسواكن، عن تنامى نفوذ المجموعة الموالية لإيران داخل المنظومة الأمنية السودانية وقال على كرتى وزير الخارجية: إنه لم يكن على علم بوجود بوارج إيرانية فى البحر الأحمر! إن إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية وطرد الملحق الثقافى أمر شكلى يأتى استجابة لضغوط بعض بلدان الخليج العربى، ويؤكده نفى مساعد وزير الخارجية الإيرانى أمير عبداللهيان الذى قال لوكالة الأنباء الإيرانية: (إن بعض التيارات السودانية تحاول التأثير على العلاقات الطيبة بين طهرانوالخرطوم إلا أن سفارتي البلدين والمراكز الثقافية والاقتصادية تواصل نشاطاتها العادية في كلا البلدين). نظام الخرطوم لا يمكنه أن يضحى بالروابط الأيديولوجية والعسكرية التى تجمعه بإيران وما حدث باختصار واحدة من ألاعيبه التى يجيدها، وإن كان ذلك لا يجدى فتيلاً فى ظل الصراع الإقليمى المشتعل والذى تكسب فيه إيران يوماً بعد يوم من خلال تمديد نفوذها بقوة فى سواحل البحر الأحمر والقرن الإفريقى واستغلالها لظروف تلك البلدان، خصوصا بعد زيارة الرئيس السابق أحمدى نجاد إلى جيبوتى وتوقعيه على اتفاقيات عديدة من ضمنها تقديم منح دراسية للطلبة ومنح وقروض مالية بشروط ميسرة لكل من جيبوتى وإريتريا، فقد باتت الآن السفن الإيرانية ترسو فى موانى جيبوتى وعصب بإريتريا بشكل سلس. ثم جاءت الطامة الكبرى بوصول البوارج الإيرانية إلى سواحل مينائى بورتسودان وسواكن السودانيين مما يعزز موقف إيران فى البحر الأحمر ويكسبها موقعا مميزاً فى القرن الإفريقى القريب من كامل منطقة الشرق الأوسط والمطل على مضيق باب المندب شريان البحر الأحمر وقناة السويس، وقريب من الحوثيين فى اليمن الحلفاء المحتملين لإيران حالة وصولهم إلى السلطة منفردين أو شراكة، حيث يمثل الحوثيون خطراً على الخليج بعد تمدد ميليشياتهم فى اليمن وبعد دعم إيران لهم بإنشاء معسكرات تدريب ليشرف عليها الحرس الثورى بالاتفاق مع الحكومة الإريترية فى معسكرى «ساوى» ومنطقة «إبريطي» الساحلية، ويستخدمون ميناء عصب الذى يعد نقطة عبور لتهريب الأسلحة من إريتريا إلى محافظة صعدة معقل ميليشيات الحوثيين.∎ صحافى سودانى مقيم فى القاهرة