منذ ال30 من يونيو الماضى دخلت مصر دوامة من العنف الممنهج استهدف فى أغلبه قوات الشرطة والجيش، وهو ما طرح تساؤلا مشروعا حول عودة الحركات الإسلامية الجهادية التى تتخذ من القتل قربانا يتضرعون به إلى الله، ورغم إعلان جماعة أنصار بيت المقدس مسئوليتها عن معظم هذه الحوادث التى أصبحت شبه أسبوعية .. كان أن أعلنت جميع أطياف العنف الدينى «الحرب» على القوات المسلحة المصرية احتجاجا على تأييدها لثورة الجماهير الغاضبة من حكم الإخوان . واعتبرت مجموعة إسلامية أخرى تعرَف ب«أنصار الشريعة» أنه من واجب المسلمين المصريين أن يجمعوا الأسلحة ويخضعوا للتدريب العسكرى استعداداً للمواجهة المحتملة والمقبلة فى مصر. وعلى الرغم من هذه التصريحات المتشددة الصادرة عن مجموعات تعمل فى الخفاء، فإنه لايزال مستبعدا أن تشهد مصر عودة إلى التمرد العنيف الذى اصاب البلاد تحت وطأته فى التسعينيات حسب دراسة قام بها الباحث جيروم دريفون بمركز كارينغى لدراسات الشرق أوسطية.
اللافت أن الجماعة الإسلامية التى كانت تتصدر فى السابق المعارضة العنيفة ضد النظام فى مصر، باتت الآن فى وضعية مختلفة جوهريا ومن المستبعد جداً أن تلجأ إلى العنف من جديد فى المستقبل القريب لعدة اسباب نوجزها فى الآتى:
فقد أصبح للجماعة ذراع سياسية يعرف بحزب البناء والتنمية أثبت نضوجه السياسى واعتداله فى المواقف التى اتخذها فى العامين الماضيين، كما أظهر قادة الجماعة رفضهم للعنف انطلاقًا من المراجعات الأيديولوجية التى أجرتها الجماعة الإسلامية فى العقد المنصرم والجميع يتذكر مراجعات لا تراجعات.
الآن وبعد ثورة ,2011 فهم لم يكتفوا مثلاً بإدانة الدعوة إلى العنف التى وجهها أنصار القيادى السلفى حازم أبو إسماعيل بعد استبعاده من الانتخابات الرئاسية العام الماضى، بل رفضوا تقديم الدعم السياسى له.
وخلال الانتخابات الرئاسية الماضية رفضت الجماعة الإسلامية الوقوف بجانب مرشح جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسى وفضلوا تأييد البرنامج الأكثر شمولاً للمرشح المعتدل عبد المنعم أبو الفتوح.
أما على المستوى التنظيمى فقد أصبحت الجماعة الآن مجرد ظلّ لما كانت عليه فى الثمانينيات، عندما كانت تتمتع بشعبية واسعة فى مختلف أنحاء البلاد، إذ كان الناس يرون فيها حركة ثورية ويتعاطفون معها، فظهرت بمثابة بديل عن الدولة الأمنية التى كانت تعتقل كل ماهو إسلامى تنظيمى، وهو ما دفع عدداً كبيراً من الشباب إلى الانضمام إليها، وكان هذا عاملا مهما فى انطلاق دورة من العنف فى مواجهة الأجهزة الأمنية، رغم أن قيادات الجماعة كان بعضهم فى السجن والبعض الآخر فى الخارج.
أما الآن فهى تعانى حالياً من محدودية فى شعبيتها وإجهاد فى مواردها، مما يجعلها غير قادرة على استعادة القوة التنظيمية التى كانت تستعين بها فى مواجهة الدولة فى التسعينيات، ولقد أكد الجيل الجديد رفضه للجماعة الإسلامية جملةً وتفصيلاً، وهذا ما أقرّ به مفتى الجماعة، الشيخ عبد الآخر حماد، الذى قال إنها فشلت فى الوصول إلى الجيل الجديد الذى وقع تحت تأثير «الشيخ غوغل»، بحسب تعبيره. ولذلك من المستبعد إلى حد كبير أن تعود الجماعة إلى ماضيها العدوانى، انطلاقاً من هذه الوقائع الأيديولوجية والسياسية والتنظيمية الجديدة.
ولم تكن جماعة الجهاد الإسلامى المصرى- المنافس الرئيسى الأساسى للجماعة الإسلامية فى التسعينيات- بحال أفضل- خصوصا بعد اللهجة الحادة التى صدرت عن بعض قادتها وأعضائها السابقين بعد ثورة ,2011 إلا أنهم لم ينجحوا دائماً فى تقديم تحليل دقيق عن الجماعة أو قدرتها على إطلاق مواجهة مسلحة فى الظروف الراهنة.
واقع الحال هو أن الغالبية الكبرى من أعضائها رفضت اللجوء إلى العنف بعد الثورة، وتمحورت مخاوفها فى شكل خاص حول المستقبل الضبابى للجماعة وبقائها السياسى. حتى لو دفعتهم الأحداث الأخيرة إلى تبديل آرائهم حول مشروعية العنف، كما أن قاعدة أنصارهم محدودة جداً.
ويقرّ بعض القادة فى الجهاد الإسلامى المصرى، وبينهم أسامة قاسم وعلى فراج ومجدى سالم، بأنهم فشلوا أيضاً فى بناء جيل جديد من المجاهدين المصريين. وذلك نظراً لضعف الشبكات، وغياب الدعم الشعبى، وقلة الموارد، وبالتالى لا تمتلك جماعة الجهاد الإسلامى القدرة على إطلاق هجمات مسلحة أو خوض القتال لفترة طويلة.
لكن فى المقابل، يعبر بعض القادة السابقين فى الجهاد الإسلامى المصرى عن آراء متشددة منذ العام 2011 وهو ما يشير إلى نزعة جهادية سلفية خطيرة فى القاهرة، من خلال الدعوات إلى الجهاد والتلويح بأعلام تنظيم القاعدة، بعد أن نجحوا فى استقطاب عدد كبير من المجاهدين السلفيين فى صفوف الشباب وكلنا يتذكر مليونية قندهار الشهيرة بوسط ميدان التحرير حينما تحولت مصر إلى أفغانستان جديدة.
ورغم ذلك من المستبعد أن تتحول النزعة السلفية الجهادية الى تنظيم مسلح فى مصر، وذلك لأسباب عدة لعل أهمها الانقسامات الفقهية والشخصية التى تشهدها الجماعة فى صفوفها منذ نشأتها. فالعقيدة التى يتشاركها أعضاؤها الذين يلتقون مثلاً حول رفض الديمقراطية والعملية السياسية، لم تكن كافية لتخطى التصدعات المستمرة فى العامين الماضيين. وخير دليل على ذلك عزل عدد كبير من أعضاء الجماعة وأنصارها، فيما يسلط الضوء على طبيعة هذا التيار ويظهر فشله الداخلى فى توحيد أعضائه.
وغالب الظن أن النزعة الجهادية السلفية فى مصر ستظل خارج دائرة الضوء بانتظار مزيد من التطورات. فعدد كبير من أعضائها يعملون فى الخفاء. وخلال الأزمة الحالية من المحتمل أن يستغلوا ما حدث فى ال30 من يونيو لنشر رسالتهم لدى السلفيين الذين يتعاطفون معهم، والتنديد بما يعتبرونه آمالاً واهمة ودربا من دروب الخيال، أنه من الممكن تطبيق الشريعة الإسلامية عن طريق الانخراط فى العملية الديمقراطية خصوصا بعد عزل محمد مرسى وبالتالى يروان سبيلهم الوحيد هو المواجهة المسلحة.
إذاً، من المستبعد جداً، فى ظل الظروف الراهنة انطلاق حركة تمرد دينية تقودها مجموعة مسلحة منظمة جيداً، ولكن فى نفس الوقت من الوارد بل المحتمل جدا أن يستمر اللجوء إلى العنف بصورة متقطعة، الأمر الذى يمكن أن يؤدى إلى اندلاع مواجهات عنيفة جديدة.
ومن شأن الفوضى السائدة حالياً أن تتيح للمجاهدين الإسلاميين - الأكثر ميلاً إلى تبنى آراء عنيفة حتى لو لم يستخدموا العنف حتى الآن - أن يروجوا أجنداتهم الخاصة، ويستعملوا كرههم للجيش لتبرير استهدافهم للقوات المسلحة بواسطة الهجمات المسلحة، وقد أعرب بعض أعضاء الجهاد الإسلامى المصرى عن غضبهم من محمد مرسى قبل بضعة أشهر، بسبب فشله فى محاكمة ضباط معروفين فى الأجهزة الأمنية متواطئين فى تعذيب رفاق لهم فى الجماعة. وهكذا من شأن تدهور الوضع الأمنى أن يؤمن غطاء لتصفية الحسابات القديمة.
أخيراً، إذا توصلت المعارضة أو الجيش إلى استنتاج بأنهم يملكون شيكاً على بياض من الشعب للقضاء على الحركات الإسلامية وإقصائها من العملية السياسية كما يفعل بعض النخبة من إطلاق عبارات مثل «اعدم يا سيسى وإحنا وراك»، فقد يكون ذلك كافياً للتسبب فى رد فعل عنيف لدى أنصار الإسلاميين الذين يخشون التعرض للقمع نفسه الذى خضعوا له فى ظل الأنظمة السابقة خصوصا أن ثوار يناير أنفسهم يتخوفون من الأمر نفسه قياسا لما يحدث للنشطاء فما بالنا بالإسلاميين!!