الكاتب المسرحى المصرى الوحيد الذى اعترف بأنه لم يدرس المسرح دراسة نظامية، ولكنه عشق المسرح واتخذه طريقا للتعبير عن موقفه من الحياة، دون أن يقرأ كثيرًا لكتاب المسرح الراسخين هو ميخائيل رومان مثله مثل علامة الوهج المصرية العبقرى يوسف إدريس الذى أفصح عن سره عندما قال: «أنا أكتب وأتأمل البشر والحياة أكثر مما أقرأ الكتب»، وميخائيل رومان (1924 1973) واحد من هؤلاء الذين يكتبون ما يعتقدون وما يحدث حقا كل يوم، ولأن فطرته الدرامية تستطيع تركيب العالم الدرامى الذى يمكن أن يحدث فكان أن جاءت أعماله فى إطار واقعية خاصة ذات طابع عاطفى، ولأن صنعته غائبة ففطرته الممثلة فى معرفة محدودة بتقنيات المسرح جعلت لعالمه الدرامى طابعا خاصا أصيلا، يعتمد على حديث الشخصية الرئيسية التى اختار بها اسما واحدا فى معظم أعماله وهو حمدى، هذا الاسم الذى شكل أيقونة خروج معظم المثقفين على تناقض وزيف الطبقة البرجوازية الجديدة (المتوسطة الستينية المصرية التى تمركزت حول التعليم والوظيفة الحكومية). وواحدة من قراءاته فى مشاهد الحياة اليومية لتلك الشخوص المتوسطة الصغيرة هى مسرحيته الرائعة «الدخان»، التى ترصد الأهداف المحدودة لأفراد أسرة رحل عنها الأب وأم احتملت الحياة حتى كبرت ابنتها ليأتى لها عريس هو فؤاد الذى يحسب كل شىء بحساب المكسب المادى المحدود وكان قد اتفق على أن تشارك خطيبته أخت حمدى فى الزواج بمبلغ ثلاثمائة جنيه آنذاك، وهكذا ظل المبلغ فى 2014 فى عرض مسرحية «رئيس جمهورية نفسه» على مسرح متروبول بقيمته الستينية ولكن حمدى دمر المبلغ فى شراء مخدر الحشيش والأفيون، وهذا هو سر جمال رؤية المخرج سامح بسيونى فى حفاظه المتردد على عالم رومان الستينى الدافئ، ألوان حوائط البيوت الصفراء.. ماكينة الخياطة اليدوية القديمة.. سرير النوم الصغير.. صورة الزعيم جمال عبدالناصر فى رؤية تشكيلية لمصمم المناظر المثقف حازم شبل، وفى براءة مفردات أغنيات الشاعر الرقيق وائل هلال، الذى استعادته المسرحية بعد غياب طويل، ولكن تردد رؤية المخرج المنتمية لزمن النص الستينى اخترقتها إضافات الممثلين، خاصة إضافات مفردات اللغة الجديدة للهامش الحر المعتاد لاستخدام المخدر الآن.
لكن هؤلاء الذين يمكن أن يفشلوا زيجات بسبب خلاف على نوع صالون الضيوف، لا يزالون يعيشون بيننا بلا أهداف ذات معنى أبعد من أهداف الحياة الخاصة الصغيرة.. يسخرون من حمدى وأمثاله أصحاب عالم الفكر الرومانسى، ولهذا هرب حمدى من تكرار يومه وتناقض أفكاره الحساسة مع العالم المصمت الروتينى الخالى من المشاعر، والذى استشعر حمدى عبثيته عبر رصده للتكرار فذهب لعالم
المخدر ليهرب من قلق وجودى يعترى أصحاب العقول ومفرطى الحساسية، فى الأيام متوسطة القيمة مع المتوسطين المتكررين فى الشوارع والبيوت المتشابهة، ولهذا يسقط حمدى فى صراع مع عالم المخدر، حيث يحاول المعلم رمضان الذى جسده الفنان القدير على عبدالرحيم أن يسلبه إرادته ليجعله لصا ويجعله تاجراً للمخدرات ويزوجه من سيدة متعددة العلاقات جسدتها الفنانة شمس، وتاجرة مخدرات أيضا، لكن روح حمدى ترفض، وعن حكى رمضان على المعتقل السياسى الذى زامله فى السجن، والذى رفض أن يركع عندما طلب السجان ذلك، بينما ركع كل المساجين فقرر ألا يركع، وعاد لمنزله معلنا انتصار إرادته الإنسانية.
مسرحية ميخائيل رومان الدافئة حديث عن القلق الوجودى وضرورة انتصار الإرادة الإنسانية، ولكنها تحمل فى رؤيتها الإخراجية تفسيرا جديدا يشتبك مع الحاضر، الفنان على عبدالرحيم فى دور رمضان والفنانة شمس فى دور المعلمة حضور مسرحى خبير وتزان وفهم للشخصية الدرامية أتاح للفنانة دنيا فى دور حسنية وللوجه الجديد رباب طارق فى دور أخت حمدى، ومحمود عبد الحافظ فى دور خطيبها مساحة من الحرية للتمثيل الهادئ الذى تحميه خبرة على عبد الرحيم، مما أكد أيضا طريقة الفنان محمد رمضان فى تقديم تمثيل دافئ يعبر فيه عن بصمة جديدة خاصة، بساطة وهدوء وتقمص وجدانى للشخصية، وتفاعل مع تفاصيلها يفارق فيه ما قدمه فى السينما إذ يذهب للاختيار الذى قدمه له ياسر صادق مدير المسرح الحديث وفتوح أحمد رئيس البيت الفنى للمسرح، ليؤكد أن اختيارهما له للجذب التجارى الجماهيرى فى السينما إلى الثقافى فى المسرح، واهتمام محمد رمضان بالذهاب للهامش الثقافى يؤكد أن تفكيره يتسم بالذكاء، حيث يبحث عن القيمة بعد أن حصد المال والحضور، كان جمهور المسرحية كما لاحظت يختلف عن جمهور رمضان فى السينما، إنه بعض من جمهور المسرح الذى ظن الجميع أنه اندثر، وعلينا أن نستعيده وأن نحاول استعادة انضباط الصيغة الاحترافية المفقودة فى المسرح المصرى، وقد حاول العرض ذلك رغم بساطته وصياغته المشهدية السهلة، إلا أن عالم رومان الوجدانى المتوهج احتوى الجميع بصدقه، فكان عرض «الدخان» بلا افتعال، بسيطا لكنه خطوة حقيقية نحو الإنتاج المحترف فى البيت الفنى للمسرح لكن طريقة إدارة هذا الإنتاج تكشف الخلل الهيكلى فى عملية الدعاية والتسويق فى المسرح الدولة.