«والله زمان وبعودة.. ليلة ابوكم ليلة.. سودا» ، و«لا اخوان ولا مسلمين قتلوا اخواتنا باسم الدين»، «جيش وشعب وشرطة.. إيد واحدة»، سمعوهم.. طلعوهم.. الثوار هيقطعوهم»، هتافات المصريين التى يطاردون بها الإرهابيين الإخوان، ورغم ذلك يحمون نساءهم اللاتى أصبحن مسلحات الآن! لم أجد اى وسيلة سوى تسلق الأسوار الحديدية لمسجد الفتح لإدخاله، مثلما يفعل باقى المتواجدين، وهنا كان يلزم على الأمن أن يتخذ تدابيره بمنع من ليس صفة للدخول إلى المسجد، ليس إلا لتسهيل مهمة إجلاء هؤلاء المعتصمين، خاصة بعد مشاهدتهم لغضب المواطنين من الإخوان وممارستهم. لأهالى المعتصمين ولأحاديثهم الهامسة وبكائهم ونحيبهم على ذويهم، وإصرار الكثيرات منهن على إنكار أن ابنها أو أخاها ينتمى لجماعة الإخوان، والترويج لفكرة «ابنى مش منتمى لتيار سياسى ولالجماعة، ده كان راجع من الشغل ولما لقى الضرب قال يحتمى بمسجد ربنا»!!!
خرج شاب ثلاثينى العمر من داخل المسجد بشوش الوجه يرتدى قميصا فسفوريا مكتوبًا عليه إسعاف القاهرة، هرولت عليه الأمهات تغطى وجهوهن الدموع والآهات، كلا واحدة منهن تصرخ باسم ابنها أو شقيقها وتطلب من الطبيب الاطمئنان عليه، رغم الزحام على الطبيب ومحاصرته بتوسلاتهم وصراخهن، إلا أنه كان هادئا ودودًا طيبا يحنو على كل ام ويربت على كتفها ويقول لها «لا تقلقى يا أمى» سوف اسال على اسمه وأعود لأطمئنك.
عرفت أن اسمه محمد الهلالى من الهيئة إسعاف القاهرة - للاستفسار منه عن حالة المعتصمين وعددهم، وقال لى يتراوح عددهم من بين 350 إلى 400 شخص، وجثة واحدة لشاب فى العشرينيات مقتول بطلق نارى فى الصدر، يرفض أنصار المعزول إخراجه من المسجد من أمس، نحاول اقناعهم للافراج عنها، أما عن الإصابات فكان أغلبها جروحًا قطعية فى الرأس والصدر وتم معالجتهم جميعا، والتفاوض معهم لإخراج النساء والأطفال.
تركنى الطبيب بعد أن استدعاه عدد من الضباط للدخول بالمسجد وسط تواجد أمنى كثيف على بوابته، واتجهت الأمهات إلى الضباط المتواجدين وكانوا ينتمون للشرطة والجيش، تطالبهم بالدخول للاطمئنان على ذويها، وأتذكر فى هذا المشهد عند عودتى للمنزل ومتابعتى لوسائل الإعلام مدى نذالة ورخص قناة الجزيرة وشبكة يقين وصفحات الإخوان التى تحدثت أن قوات الأمن اعتدت على أمهات المعتصمين، وتعاملت معهن بوحشية.
لكى أتذكر هذا الضابط الرحيم، ورغم كراهيتى لهذا الجهاز القمعى والانتهاكات التى ارتكبها فى حق شباب 25 يناير، لكننى لن أنسى ذلك المشهد على الإطلاق، الذى تنحنى فيه هذه البذلة السوداء بدبورتها اللامعة على كتفى الضابط - ليقبل يدى إحدى الأمهات ويهدئ من روعها، لتؤكد لى أن شيئا تغير بعد 30 يونيو وأن عقارب الساعة لن تعود للخلف، وإذا بحثنا عن ميزة واحدة لحكم المعزول الإخوانى لن نجد سوى هذه العلاقة الجديدة التى تكونت بين الشعب والشرطة، قائلا «لا تخافى ياماما محدش هيتعرض لأذى، لترد باكية بس هو إخوان وعشان كده هتقتلوه، فرد قائلا عليها: احنا كلنا مصريين، واحنا بنحميه ليخرج بأمان من داخل المسجد».
وصلت أعلى كوبرى اكتوبر، فى مواجهة المئذنة، وانتظرت أحدق جيدا لها، إلى أن شاهدت بمقلة عينى إطلاق للرصاص من داخل المئذنة.. هذا حقيقى، لا أحلم، استطيع ان اتخيل واحتمل رؤية أى شىء مخيف وقاس ولكن لن تجد سوى دموعك تنهمر من أقسى مشهد يمكن أن تراه وهو إطلاق الرصاص من بيوت الله، أنهم يطلقون النار بعشوائية من مئذنة المسجد ورجال الشرطة والجيش يردون عليهم من أسفل...!!!!
ولن أنسى واقعتين متناقضتين لسيدتين تخرجان من المسجد، الأولى كانت سيدة فى الأربعينيات ترتدى خمارا، ورغم حماية ضابط الشرطة لها من هجوم أحدالأهالى عليها، إلا أنها كانت تسب وتشتم الجميع وتبصق على أهالى رمسيس، بل تتفوه بألفاظ تطال الأب والأم، وتعجبت من خروج مثل هذه الشتائم من أخت مسلمة من الإخوان العفيفات الطاهرات.
أما المرأة الاخرى فكانت فتاة صغيرة السن، ترتدى نقابا، وتمسك بكل قوة فى يد ضابط الجيش، وتهمس «متسبنيش»، اعتقد أن هذه الأخت كانت قبل ساعات تسب هذا الجيش وتتهمهم بالكفر وأنهم ضد المشروع الإسلامى بل يحاربون من يرفع كلمة الله.
وإن كنت تتصور أن مشاهداتك أمام وفى مسجد الفتح صعبة، فإن الأحداث التى تقع أمام مشرحة زينهم هذه الأيام أصعب بكثير.
لم تكن لدى شجاعة بالقدر الكافى تجعلنى أذهب للمشرحة وأقضى يوما بين الثلاجات والدماء والجثث، ولكن استطعت أن أحصل على شهادات دقيقة وخاصة بل جديدة من قلب مشرحة زينهم تكشف لنا حقيقة هذا المكان الكئيب الحزين الكريه، المطبوع فى أذهاننا بالخوف ومذيل دائما عند ذكرهأو الحديث عنه «ربنا يحفظنا ويكتب لنا نموت على فراشنا بالبيت» إلى أن نصل بعد هذه الشهادات لتفسير إصرار المصريين على أن يموتوا على آسرتهم وليس فى حادث أو مظاهرة أو فض اعتصام.
يقول بيبو محمد - تاجر وساكن بجوار مشرحة زينهم بالسيدة زينب - أنه اعتاد منذ ثورة 25 يناير على التطوع مع أهل المنطقة فى مساعدة أهالى القتلى، وتزويدهم بالماء والأطعمة والعصائر، فضلا عن مساعدة موظفى المشرحة فى تنظيم الأهالى فى صفوف وإعلامهم بأماكن الدخول والخروج من المشرحة واستكمال الإجراءات القانونية والحصول على التصاريح.
وأضاف أنه أصبح معروفا من قبل الدكاترة والموظفين بالمشرحة وبمصلحة الطب الشرعى الذين تقعان إلى جوار بعضهما، وهو ما جعله مصدر ثقة لدخول المشرحة وغرفها ورؤية أكثر من حالة يتم تشريحها.
ويحكى بيبو عن توافد الجثث على المشرحة منذ مساء الأربعاء 14 أغسطس بعد فض اعتصامى النهضة ورابعة، ولكن تكدست وزاد عدد الجثث يوم الخميس 15 أغسطس، حتى أن الجثامين كانت ملقاة على الأرض فى الشوارع المحيطة بمبنى المشرحة لحوالى أكثر من 100 م ، فضلا عن سيارات الإسعاف كانت محملة بالجثث ولا تجد مكانا لتفريغها بها فى المشرحة التى امتلأت ايضا.
أضاف بيبو أنه نظرا لكثافة الأعداد، تم إمداد المشرحة بعربات كبيرة مبردة وهى تستخدم لحفظ الخضار والمنتجات المبردة، ووصلت أول سيارة فى مساء الخميس، ثم توالت يوم الجمعة بعد أحداث رمسيس عربتان مملوءتان بالجثث وكانت تضم «سيدات مفقودة وميتة»، أما يوم السبت والجمعة وتم تزويد المشرحة بسيارتين وتم استخدام واحدة فقط منهما.
أما عن دورة التعامل مع الجثة إجرائيا وتشريحيا فيقول تبدأ بمجىء الأهالى والبحث عن الجثة التى يتعرفون عليها، سواء فى العربات المبردة أو ثلاجات المشرحة، وبعد التعرف على الجثة تدخل إلى المشرحة ليبدأ العمل بها - أى تشريحها ومعرفة أسباب الوفاة - وأول خطواته تبدأ بدخول الجثة على منظار كبير وهو عبارة عن أشعة لتحديد مكان الإصابة بالجثة وهل هو طلق نارى بالقلب أو الصدر أو الرأس، ثم يقوم الدكتور الاستشارى وهو كبير الأطباء الشرعيين، بعد ان يحدد مكان الإصابة يطلب من أخصائى التشريح الفتح فى الجثة.
وأستوقف بيبو عند هذه النقطة مؤكدا أنه يريد الرد على تلك الشائعات التى تقول أن الأطباء بيهينوا الجثث، ويفتحوها ويتركوها بدون خياطة، مثلما قال أحد الشهود فى إحدى القنوات أنه وجد شقيقه وبطنه مفتوحة وأمعاؤه بالخارج، حيث أكد بيبو قائلا شهادة سوف يتم محاسبتى عليها ليوم الدين من داخل إحدى غرف التشريح ان هذا لا يحدث.
أما عن الخطوة الثانية بعد التشريح فهى كتابة المصلحة لتقريرها، وتطلب من الأهالى توثيقه فى مكتب الصحة المجاور للمصلحة، ثم تتحول الجثة إلى المغسلة ثم التكفين، ويستلمها الأهل على الدفن مباشرة.
وأشار إلى أن التغسيل يتم على أيدى ثلاثة من شيوخ المصلحة فى الثلاثينيات من عمرهم، يتميزون بدماثة الخلق، أما عن الكفن ويتوافر بكثرة داخل المشرحة بالمجان من خلال إحضار اهل الخير له، فهو يكفى مليون جثة، فضلا عن وجود الصناديق بالمجان أيضا، وهناك عربات تتطوع لتوصيل الأهالى والجثامين إلى بلادهم.
أما عن تصميم المشرحة بالداخل فيقول «بيبو» تتكون من غرفتين للتغسيل تتصل بممر كبير لخروج الجثة إلى الأهالى على البوابة مكفنة، ويوجد أيضًا غرفتان للتشريح والأشعة متصلتان بممر كبير احتياطى يتم التشريح به فى وقت الأزمات والضغط وكثرة أعداد الجثث، وحجرة ثلاجات للموتى.
وبسؤاله عن الضغط الذى تعرض له الأهالى للموافقة على استلام التقارير ومسجل سبب الوفاة بها انتحار، قال هذه شائعات استمعنا لها أيضا، بل تم الكذب والترويج ان المصلحة ساومت الأهالى على استلام الجثث أو القبول بالتقاريرعلى هذا التوصيف.
وأشار بيبو إلى أنه رأى التقارير بعينيه مكتوب فيها سبب الوفاة بالضبط، وما إذا كان القتيل مصابا بطلق نارى فى الرأس أو الصدر أو الجمجمة أو تعذيب وهكذا.. حتى أنه نظرا لكثرة الشائعات تطوع أحد الموظفين بتصوير قائمة بأسماء من تم استخراج تقارير وفاة بشأنهم وسبب الوفاة وتعليقها على باب المشرحة لسهولة الاطلاع عليها.
وأضاف فيما يتعلق بأن المشرحة تستغل جثث الموتى فى سرقة أعضائهم، مشيرًا إلى أنه كان يمكن أن يصدق هذه الشائعة فى حالة واحدة فقط، وهى عدم رؤيته لجثة وصلت للمشرحة لرجل كبير فى السن يوم 19 اغسطس، وكانت الجثة بطنها ودماغها مفتوحة ولكنها مغطاة، فشاهدت مدى الدقة والفحص من الاستشارى وإصدار تعليماته لطبيب التشريح للتأكد ومراجعة كل عضو من أعضاء جسد المسن من رئة وكلى وقلب وكبد.
وبسؤاله ماهى نوعية الضغوط التى يتعرض لها الأطباء، قال بيبو أولها أنهم يعملون فى بيئة عمل غير مناسبة وغير صالحة لخطورة مكان بحجم مشرحة زينهم، تسجل فيه الوقائع الأخيرة عن وفاة أى شخص، وأبسط أمثلتها هو غياب عمال النظافة من المشرحة، وتراكم المخلفات فى المشرحة منذ الخميس 15 أغسطس سواء ملابس القتلى بدمائها وترابها، والأكفان المبدئية التى تكون الجثث ملفوفة فيها لمجرد الوصول إلى المشرحة، وهذه المخلفات متراكمة فى غرف التشريح، مما دفع الاطباء والاخصائيين إلى مسح الغرف وقمت بمساعدتهم مع بعض المتطوعين، وقمنا بتعقيم المشرحة والأرضية بالديتول المركز.
وأضاف «بيبو» أنه مازالت ثلاجات المشرحة مكدسة بالجثث الذى لم يعثر أهلها عليها وتحولت إلى ما يشبه بغرفة تتراكم الأسرة فوق بعضها مليئة بالموتى، فضلا عن سيارة التبريد، ليصل عددهم إلى أكثر من 300 جثة.
وبسؤاله عن الحالة الاجتماعية لأهالى القتلى، قال أن أهالى معتصمى النهضة ورابعة كان يبدو عليهم الثراء حيث السيارات الفخمة، ومستواهم الاجتماعى مرتفع، بينما أهالى أحداث رمسيس كانوا أغلبهم ينتمون لوجه قبلى من الصعايدة ودلت على ذلك لغتهم وملابسهم، فضلا عن وجود بعض من ينتمون إلى البدو أو القبائل العربية ممن يرتدون الجلابية وعليها صديرى وعقال.
وأضاف أن الإخوان المسلمين يعانون من غباء شديد وعدم احترام لهيبة الموت وحرمته، ولديهم كبت شديد ومشاعر انتقامية وعدائية للجيش والشرطة على وجه الخصوص ومن خلال ما استمعت اليه منهم يوم الخميس ثانى يوم فض الاعتصام، أدركت أنهم سوف يشعلون البلاد يوم الجمعة.
وأشار إلى أن الجنازة وهى تسير كانت لاتمنعهم من السير فى صمت وهدوء، بل كانوا يهتفون ضد الجيش والشرطة، ويقومون بالدعاء عليهم، وعلى من اعطى التفويض للسيسى.
وطالب «بيبو» بضرورة تأمين الجيش للأحياء والمناطق الشعبية ولا يكتفى بتأمين الميادين والشوارع العمومية فقط، لوأد المشاجرات والاشتباكات بين البلطجية والأهالى الآمنين، وخاصة حى السيدة زينب والمعروف أنه ملىء بمناطق شعبية.
ومن الشهادات الأخرى: «س. على» قال إن قتلى عربية أبو زعبل، تختلف الآثار على الجثث، مشيرا إلى أن بعض الجثث كان يبدو عليها آثار صعقات فى الرقبة والصدر، وكان السواد يغطى أجسادهم وكأنهم محروقون بطريقة أكثر بشاعة مما كان يسقط من جثث فى حريق قطار الصعيد.
بينما جاءت شهادة اشرف عباس مؤسس حملة أنا ضد التعذيب- أذهب للمشرحة منذ يوم 15 اغسطس، بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة، وكان هذا اليوم يشهد تكدسا لأعداد كبيرة من الجثث داخل وخارج المشرحة، تناقلت روايات الأهالى وقتها بأن إدارة مصلحة الطب الشرعى تجبرهم على الحصول على تقارير بحالات انتحار، الأمر الذى دفعنى ضرورة مقابلة د.ماجدة القرضاوى مدير المصلحة وقتها، ولكن كان باب المصلحة مغلقا، وباب الجراج يمنع مرور المواطنين منه من خلال وقوف أمن المصلحة عليه.
أضاف أشرف أن كثرة أعدد الجثث يوم الخميس، كان يذكره بشادر السمك، حيث الصناديق الخشب تنتشر على أرض المشرحة والأرصفة فى كل مكان، وعليها قطع من الثلج منعا لتعفن الجثث.
أشار عباس إلى أنه كان من الغريب ان يغلب على أهالى القتلى يوم الخميس أنهم لا ينتمون لجماعة الإخوان، بل كانوا من المؤيدين للشرعية وضد الانقلاب، أما أغلبهم فمن السلفيين الذين ينحصر المشهد لديهم فى صورة واحدة فقط أن ماحدث هو حرب ضد الإسلام، والذى قتل أولادهم هو جيش السيسى وجيش النصارى، موضحا أنه بسؤال أحد الاهالى «ماذا تعنى بجيش النصارى ؟» رد قائلا: كنا نرى الجيش بعد ان يتم قتله للمواطنين، يسلم الجثث للنصارى لتصليب الموتى.
أما يوم 16 اغسطس فقد لاحظت استمرار معاناة الأهالى فى عدم وجود أماكن لجثث ذويهم بالمشرحة، إلى ان جاءت سيارات كبيرة عبارة عن مبردات وهو ما أدى لتهدئة الأهالى ولو قليلا.
وعن يومى 17 و18 اغسطس، فقد جاء للمشرحة عدد كبير من الأهالى يبحثون عن ذويهم ومفقوديهم سواء فى فض الاعتصاميين أو أحداث شارع رمسيس، فضلا عن أن يوم 18 أغسطس الذى شهد بالتحديد بداية العداء الشديد من الأهالى ورفضهم للميديا المصرية وطردهم لأى كاميرا تابعة لمصر، واتهامها بأنهم تسببوا بشكل مباشر فى قتل معتصمى رابعة والنهضة، بينما على العكس كان هناك ترحيب بالميديا الأجنبية ومراسلى الغرب.
أما عن يوم 19 اغسطس، فإن الأهالى كانوا يبحثون عن جثث أولادهم المفقودين فى أحداث رمسيس، وكما رأيت داخل المشرحة أكثر من 300 حالة مجهولة الهوية، فضلا عن أعداد كبيرة من جثث مشوهة ومحروقة من بقايا اعتصام النهضة ورابعة العدوية.