أن تكون شاهد عيان على حدث تاريخى مثل «تفكيك مستوطنة« رابعة الإرهابية، فهذا شىء فى غاية الأهمية، يجب تسجيله بالتفصيل، خاصة أن هناك أوقاتًا طويلة غابت عنها كاميرات الفضائيات التى اهتمت بتمشيط اعتصام (النهضة) بعد إخلائه النهائى! عشنا ساعات القلق التى عاشها المعتصمون بعد صعقة الفض وترديد أنباء القبض على قياداتهم الذين كانوا يطمئنون عليهم كلما زادت أنباء سقوطهم فى أيدى الجيش والشرطة! مشهد رأسى فى تمام الساعة الثامنة والنصف صباحا أعلى كوبرى أكتوبر، ومن داخل الميكروباص لأصل إلى اعتصام رابعة، أجواء عادت بى سريعا إلى حريق القاهرة يناير 1952 ألسنة اللهب المشتعلة من الاعتصام الإرهابى، والدخان الذى يعبئ سماء مدينة نصر بأكملها بلونه الأسود والرمادى، كان لابد أن يقبض روحك ويجبرك على الدخول فى حالة من التوتر والخوف.
سواق الميكروباص «يلا خلى الداخلية تخلص على الإخوان الإرهابيين المجرمين»، سيدة مسيحية تجلس فى المقعد الذى أمامى وتقول «والله يابنى لا مسلمين ولا لهم علاقة بالإسلام، دول بتوع سياسة كل اللى شاغلهم الكرسى، دول خلوا صورة الإسلام فى الأرض.. وهدوا كنائسنا وحرقوها، بس إحنا غلطانين كنا لازم نحرق مساجدهم عشان يعرفوا يعنى إيه دور عبادة».. شاب تلاتينى بجوراها «ما الداخلية حذرتهم أكتر من مرة وطلبت منهم يفضوا الاعتصام بدل استخدام العنف»، بينما يجلس ملتح فى آخر العربة قائلا فى حنق وغضب «الجيش الكافر بيقتل المسلمين عشان شعب يريد تطبيق شرع الله».
وفى الوقت الذى كانت تتأهب بالهجوم عليه فتاة تجلس أمامه قاطعها شيخ مسن قائلا: «الدم المصرى كله حرام»، وأنا فى وسطهم تنهش رأسى كلاب مسعورة من الأفكار السوداء على تلك الصديقة التى نزلت من بعد الفجر لتغطية فض الاعتصام ولا ترد على هاتفها، وأنظر إلى يسارى لأجد أحد إعلانات مسلسلات رمضان بعنوان «موجة حارة»، لأشعر وقتها أنه بالفعل لن يكون يوما عاديا.. بل سيشهد من توالى أحداثه حرارة والتهابًا وموجات من العنف لم نرها من قبل.
تعمدت أن أرفع صوتى وأطلب من السائق أن يساعدنى على توصيلى لأقرب مكان من منصة «رابعة» فى محاولة منى لإنهاء برنامج التوك شو المصغر هذا الذى يعكس حالة مصر كلها، هبطت من الميكروباص بجوار أحد الشوارع المؤدية لشارع الطيران لأجد خلفية مبنى المدينة الجامعية التابعة لجامعة الأزهر للبنات على يسارى، لأن شارع النصر مغلق من أول مبنى قاعة المؤتمرات.
ولكن فوجئت بهذه السيدة المسيحية التى بدت متعصبة وبشدة فى الميكروباص تنادى عليىِ وتقوللى «يابنتى خلى بالك من نفسك وابعدى عن الضرب والرصاص متحرقيش قلب أمك عليكى..» وفجأة كر وفر وقنابل كثيفة ومدوية للغاز المسيل للدموع دفعتنى للانكفاء على وجهى والسقوط فى أحد الشوارع الجانبية، لم أتمكن وقتها من تحديد اتجاه إطلاق القنابل ومن يقوم بإطلاقها الداخلية أم الجيش.
بجوارى شاب فى العشرينات ملقى على الأرض ورغم حالته الصحية السيئة من الاختناق بالغاز إلا أنه كان لديه إصرار أن يتحدث فى هاتفه، ولكنى فوجئت أنه يتحدث الإنجليزية ورغم سوئها وعدم طلاقته فيها كان يحاول أن يوصل رسالة للمتحدث معه بأن الطائرة التى تحلق جيش، ولكنى نظرت إلى أعلى لم تكن تابعة للجيش بل هى تابعة للشرطة ويتضح من شكلها ومكتوب عليها.. لم أعرف بالطبع من هذا الأجنبى الذى يهتم بهذه التفاصيل؟!
عدد المعتصمين وقتها فى شارع الطيران لم يكن كبيرا، كانوا شتاتًا هربوا متفرقين جراء إطلاق الغاز على اعتصام رابعة، تمكنت من العودة إلى شارع الطيران لمعرفة من أى مكان تطلق قنابل الغاز، فوجدت عددًا من المدرعات التابعة للشرطة تقف على نهاية شارع الطيران تقاطع شارع النصر محاولين صد هؤلاء المعتصمين الذين يرغبون فى العودة إلى المنصة.
دقائق وسمعت صوت تكبيروتهليل بحماسة وقوة إنه «النصرالعظيم» استولى المؤيدون على حافة تابعة للجيش وعربة مطافى وحاولوا تفكيك أجزاء منها، حزنت بشدة من هذا المشهد العراقى السورى الذى كنت أتابعه على الفضائيات الأجنبية، وتساءلت على ماذا يهتفون ويكبرون، ما النصر فى الاستيلاء على هذه السيارات التى تعتبر من ممتلكات أى مواطن مصرى ودافع لضرائبها، ما علاقة الله والنصر بهذه السرقة، وقبل أن يتهمنى أحد ويذكرنى بمدرعات الشرطة التى كانت تحرق فى محمد محمود، هرد عليه وأقول مفيش إنكار لها.. بس لم يكن هناك تكبير مصاحب لإحراقها، ولكن سحقا لسذاجتى، أى دولة أتحدث عنها وأى ممتلكات تؤول لنا جميعا، وبسرعة أجاب رجل عن أسئلتى محدثا صديقه فى الهاتف، وبكل السرور والفرح على وجهه وصوته يصرخ قائلا: استطعنا أن نأخذ سيارة جيش وعربة مطافى من أعداء الدولة المسلمة، ولسه هنوريك ياسيسى ياخاين.
واتضح هذا الأمر عندما توقفت المسيرة للرغبة فى المرور بأحد الشوارع الخلفية للوصول إلى أقرب مكان توجد به منصة رابعة العدوية، ثم هتف أحدهم قائلا: أريد عشرة شباب مزودين بطوب، وبالفعل فى التو واللحظة تجمع العشرة بمنتهى الدقة والهدوء، واكتشفت أنه يريد أن يقوم بعملية تموية بالاشتباك مع عدد من ضباط الشرطة الذين يقفون على ناصية أحد الشوارع التى تكشف خط سير المسيرة، ومن ثم أراد هذا الشاب المخطط الذى يبدو على بنيانه الجسدى القوة والصلابة واللياقة لدرجة تجعلك تتخيل أنه قائد كتيبة أو مجموعة، والذى لايمكن أن أنكر ذكاءه فى أنه يريد إلهاء هذه العناصر الأمنية بالاشتباك مع هؤلاء العشرة من الشباب الذين يلقون الطوب عليهم، فى الوقت نفسه تتمكن المسيرة من عبور الشارع دون إطلاق قنابل غاز عليها من الشرطة.
نجحت الخطة وبالفعل تسللت المسيرة من شارع إلى آخر، حتى تصل إلى شارع سيبويه المصرى وهو يمثل أحد الشوارع الخلفية الموزاية لشارع النصر عند المنصة مباشرة، ولكن من الملاحظ أنه أثناء الحركة بهذه الشوارع الجانبية تكاد تشعر أنك فى مدينة الأشباح، لا سكان، لا محلات مفتوحة، لا تجد سوى سيدة تتدلى من إحدى البلكونات تشاهد المسيرة وتعلق صورة المعزول، ليعلوا هتاف المؤيدين مقلدين هتافات ثورة 25 يناير التى لم يكن لهم علاقة بها بالأساس «يا أهالينا انضموا لينا .. مهللين الله أكبر .. والنصر لنا»، ولكن لم تكتمل فرحة المؤيدين أثناء سيرهم لتقف سيدة أخرى فى إحدى البلكونات تشير لهم بعلامة الهزيمة، فيستشيطون غضبا وينهالون عليها بالسباب، وينقطع التكبير ليحل محله الألفاظ الخارجة، وانطلق أحدهم قائلا لها «لو عايزين نجيبك من فوق يا معفنة ياكافرة هنجيبك»!!
أيضا لاحظت أن وقت الضرب للقنابل الغاز، وحالة الكر والفر التى تقع، وعند محاولة المتظاهرين اللجوء إلى مدخل إحدى العمارات للاحتماء فيه من الغاز، أرى سريعا حارس العقار يغلق الباب فى وجه المتظاهرين، فى حالة من عدم التعاطف معهم، عكس ما كان يحدث فى منطقة التحرير والاتحادية أثناء هجوم الداخلية كان لدى سكان العقارات تعاطف مع المتظاهرين وقضيتهم ويقدمون لهم جميع أشكال المساعدة.
بمجرد وصول المسيرة لشارع سيبويه المصرى الملاصق لمستشفى رابعة العدوية التخصصى، تستطيع أن تتخيل نفسك وقتها واقفا فى وسط ساحة معركة حقيقية، تحصينات من أجولة الرمال تملأ الشارع، شباب يتحركون كخلايا النحل يرتدى كل منهم صديرى واقيًا من الرصاص، تكبيرات بالنصر أو الشهادة، الأخوات المسلمات أيضا كان لهن دور كبير فهن يمسكن بمعاول الهدم والتكسير لبلاط الأرصفة ويعبئن الأكياس ليساعدوا إخوانهم المجاهدين.
يلاحظ أيضا أن أغلب الوجوه خاصة هذه الخلايا العاملة فىساحة المعركة كأنهم جنود وأنهم غير قاهريين بل من الأرياف والأقاليم، وهناك آخرون يمثلون القيادات ملابسهم نظيفة مهندمة - يهبطون من سيارات حديثة من وقت للآخر، يحملون الخل والمياه الغازية والأدوية والطعام ويوزعونها على المعتصمين ، ويطلبون من هؤلاء الصغار كسر جذوع الشجر من أجل إحراقها، وبسؤال أحدهم: لماذا يفعلون ذلك «قال لى عشان نعمى عيون الكفرة الشرطة والجيش ولا يتمكنوا من كشف عددنا، فالحريق والدخان هو بمثابة سواتر تغطية على وجودنا، تشتت من يطلق الرصاص علينا».
دخلت فى إحدى الخيام النسائية لأستريح من دخان القنابل، فوجدت نساءهم أكثر تطرفا وعدوانا من رجالهن، وجدت فى عيونهن الكراهية والشك فى ملابسى المختلفة عنهم، فأرتدى البنطال وهن يرتدين النقاب والخمار والجلباب، يجلسن وينظرن إلى يحنق شديد، لتنطلق إحدى الشابات قائلة «أين الحوينى وأبو إسحاق وحسان الخونة المتاجرين العملاء للسيسى، لماذا لم يتحركوا لإنقاذ شبابنا المسلم، هل ينتظرون سقوط آلاف الشهداء حتى يقولوا كلمة حق؟!» كانت عصبية، حزينة باكية خائفة، عيونها زائغة مثل حال أغلب السيدات بالخيمة، ولكن على الفور أحد الشباب يقف خارج الخيمة يهاجمها ويطالب: لا يصح أن نتكلم عن هؤلاء العلماء بهذه الطريقة.. «علماء» الكهنوت والتقديس وراء كل العبث الذى نراه، لتتأكد أنك أمام عقول مبرمجة حافظة، مستخدمة وتنفذ الأوامر بلا نقاش.
وقالت إحدى السيدات باكية «نحن لو كفار ولا يهود لن يضربونا بهذه الوحشية، يضربون من يريدون إعلاء كلمة الإسلام ويريدون حماية الدين، يريدون دولة علمانية كافرة وعايزين يعملوا إبادة للمسلمين، واستمرت السيدة فى الدعاء على الجيش والفريق السيسى، والانقلابيين الكفار.
كانت صديقتى فى حالة إعياء وكعادتها فى الابتسام دائما أريد أن أموت ولكن دون ألم، فردت إحدى السيدات وبقسوة، «اعقدى النية لله، عشان نحتسبك شهيدة»!، فقلت لها الله هو من يحدد، من يموت شهيدا ومن لا يموت، فنظرت لى بازدراء شديد قائلة «ربنا مش هيرمرم ويعتبركم شهيدات.....»، فلم أجد تعليقًا للرد على كلامها العدوانى المتطرف ونظرتها العنصرية لفتيات مسلمات أيضا مثلها ولكنهن لا يرتدين مثل ما ترتدى، باعتبارهن متبرجات فاجرات.. ولم أتمالك فى نفسى أن أقول سحقا للتطرف والجهل والحديث باسم الدين.
وأثناء تواجدى فى الخيمة جاءت إحدى السيدات تحمل عصيرًا وتمرًا وتأمر الصائمات بالإفطار، فاعترضت إحداهن، فردت عليها «لقد سمحوا لنا بالإفطار فنحن اليوم فى جهاد، ولا غبار على فطارنا.. سألت من الذى سمح، قالت شيوخنا على المنصة!
وبما أنه يوم الجهاد، والفطار جائز، فصوت المرأة لم يعد عورة، وأصبح جائزا أيضا، لترى فتاة تجوب داخل ساحة المعركة تحمل ميكروفونا وتهتف إلى الجهاد، وتطالب الحضور بالتكبير والهتاف إسلامية إسلامية رغم أنف العلمانية.. بالروح بالدم نفديك يا إسلام... لتجد نفسك أمام «جهاد» القرن 21 من فيلم «واسلاماه رابعة العدوية».
وأثناء السير إليها كان يوجد مصابون بالخرطوش والحى والاختناق، لكن الملاحظ أن فى سيناريو المعتمصين كانوا حافظين له بعد سقوط أحد الضحايا، هو اهتمامهم بتصويره أكثر من إنقاذه، منتهى الاستغلال والرخص واللاإنسانية، وتسمع هتاف أحدهم «عايزين تصوير، فين الجزيرة خليها تصور».. لتكون المتاجرة هى العنوان.
والغريب أن الحاضرين يتعاملوا مع المنصة على أنها كعبة، فعندما سألت أحدهم هل استطاعت قوات الأمن الوصول لها، صرخ هاتفا : لن يتمكن الكفرة من الوصول إليها، سنقطع أيديهم لو اقتربوا منها، فشيوخنا يتحدثون من عليها، وهتاف وتكبير فجأة يقوم به المعتصمون، وعندما سألت عن السبب قال أحدهم «أهلنا ينتقمون لنا فى كل مكان والصعيد وهيحرق الانقلابيين، وحرقنا أكثر من قسم فى حلوان والتبين»، وأنه سيكون يوم النهاية للانقلاب، مؤكدا لى فى كلامه لو المسيحيين هما اللى كانوا منظمين الاعتصام ده فلن يكن يجرؤ من الاقتراب لهم، ولا قتلهم لأنه خائن وعميل، ختم كلامه وهو مبتهج بنشوه هذا الانتصار قائلا «هيه لله ..هيه لله، إسلامية إسلامية رغم أنف العلمانية».
مرت الدقائق والساعات لتصبح الرابعة عصرا واستمر الكر والفر من قنابل الغاز المسيل للدموع وسقوط الضحايا، قررت أن أبتعد عن عالم الاعتصامات الإرهابية من هؤلاء المغيبين الذين يقفون بعقولهم إلى ماقبل التاريخ، وقررت أن أخرج من الاعتصام وبحزن شديد ولأول مرة أشعر أن مصر فى طريقها للحاق بسوريا بكل المشاهد الماسأوية من تفتيت وضياع الوطن، لأننى أدركت أن فض اعتصام رابعة العدوية والنهضة، ليس هو النهاية، وأن الشعب المصرى هيرتاح عندما يستطيع أن يسير فى شارع النصر بسهولة، فإذا استطاعت المدرعات فض الاعتصام من على أرض الواقع، من يستطيع فض هذه العقول ويمحوا ما تم زراعته فيها منذ سنين من أفكار معادية للسلام والمواطنة.
فض الاعتصام هو البداية ولكن النهاية لم تأت بعد، لأن رابعة العدوية والنهضة لم تكن سوى تجسيد مادى لأفكار اتخذها أصحابها مذهبًا وعقيدة، ودون إلقاء اللوم عليهم لوحدهم بل على الجميع، فهم يرون أن المعركة قائمة وسعداء فى الاستشهاد من أجلها لأنهم يحمون الإسلام والدين ويطالبون بتطبيق شرع الله ضد الدولة الكافرة، التى ايدت الانقلاب وقضت على حلمهم فى وجود رئيس ينتمى إليهم، هذه الدولة الكافرة تتمثل فينا نحن كقوى مدنية ومسيحيين وشرطة وجيش والمجتمع بأكمله، بالنسبة لهم أصبح عدوا يكنون له كل الكراهية والعنف.
خرجت من الاعتصام تتملكنى مشاعر يائسة حزينة مليئة بالخوف والحزن والاشمئزاز من هذا الواقع الذى ندفع ثمنه اليوم من فساد حكام سابقين أفقروا وجهلوا المجتمع وجرفوا التربة الثقافية والاجتماعية والسياسية واستسلموا لهؤلاء الإرهابيين، لنصبح أمام مشهد يكون فيه الاختيار بين سوادين «يا قاتل.. يا مقتول»، زاد من وحشة وجلال الموقف غياب المواصلات والطرق المقطوعة داخل مدينة نصر، واختفاء سكانها بكل تأكيد وراء أبواب منازلهم فى خوف وقلق أيضا، فلم أجد سوى طيارة تابعة لخطوط مصر للطيران فوق رأسى نظرت إلى أعلى وتساءلت: هل لو حملتنى هذه الطائرة إلى أى بلد لمدة عشرين أو خمسين عاما وعدت إلى مصر ثانية ستكون مدة كافية التأمت فيها جراح الاختلافات، وتنتهى فيها المتاجرة بالدين، وتعلم المصريون كيف يعيشون فى دولة أول مبادئها المواطنة والمساواة.. أم لا؟!