لاشك أن هذا الصدام الحقيقى هو الصدام الأول فى وزارة الثقافة مع وزارات رد الفعل ورجع الصدى وحفظ الجميل لوزارة فاروق حسنى، التى استمرت لمدة تناهز ربع قرن من عمر مصر قبل ثورة 25 يناير، ولم تتمكن من التخلص من سياساته ولا رجال حظيرته. كان فاروق حسنى قد كون علاقات صداقة مع عدد من رموز اليسار المصرى الهارب خارج البلاد لصدام مع السادات، أثناء فترة عمله فى باريس، مكنته من الاستعانة برموز مثل أحمد عبدالمعطى حجازى. كما نجح بعد دخوله الوزارة فى استعادة كرم مطاوع من العراق وأسماء كبيرة من الخليج، وضم لصداقته رموزا أخرى مثل محمود أمين العالم ومحمد عودة وبهاء طاهر وألفريد فرج وصلاح عيسى وغيرهم.
فقد كانت الدولة آنذاك ومع بداية التسعينيات فى حاجة لرموز اليسار الثقافية فى حربها ضد قوى الإسلام السياسى وقد منحته هذه المجموعة غطاءً ثقافيا ومصداقية، ألهت الكثيرين عن إقصاء لدور وزارة الثقافة الرئيسى فى العمل مع العقل العام، وازدهرت الضوضاء الثقافية والمهرجانات.
وبات المثقف المنتمى للعمل بقطاعات الوزارة شريدا.
ففى أكاديمية الفنون تأخر جيل كامل عن إنجاز أبحاثه العلمية، حتى صارت هيئة التدريس تخلو تقريبا من الأساتذة العاملين فى سن الخدمة.
فتم ندب وكيل كلية التربية النوعية د. سامح مهران ليترأسها.
كان هذا شأن كل قيادات الوزارة فى حالة انتداب يسهل التخلص منها بمجرد حدوث أى خلاف.
اختفت درجة وكيل الوزارة الأصلية وغابت عملية صناعة قيادات أخرى إلا من داخل الحظيرة، كما لم تقدم نجوما إبداعية لافتة من داخل المؤسسات.
فتم هدم المؤسسة الثقافية، وخلال ذلك جاءت الثورة وقطاع المسرح منهار والمسرح القومى محروق «مبنى ومعنى».
ضاعت الثقافة الجماهيرية فى ظلام بائس، انتهى قطاع الفنون الشعبية بتدمير فرقة رضا والقومية، وتحولت دار الأوبرا المصرية إلى دار عرض للفرق الأجنبية وتناست قرار الإنشاء كمركز ثقافى قومى، تمركز العمل الثقافى فى القاهرة، وظلت الأطراف محرومة وعملت العلاقات الثقافية الخارجية لصالح المحظوظين والمقربين.
حدث بالطبع إنجازات على مستوى البنية التحتية، وصدرت كتب مهمة وتألق المجربون فى المسرح، وأطلت ليالى مضيئة من الفنون الرفعية.
لكن حدث إقصاء للبشر وإهمال للموهوبين، وكان كل جاد منفصل عن حظيرة الخط لا يملك حق التعبير عن نفسه.
لقد كانت مؤسسة منهارة أما عن الفساد فحدث ولا حرج.
وظل الأبناء الشرعيون وغير الشرعيين لسدنة وكهنة الخطيرة هم الأكثر قوة والأوفر حظا داخل الوزارة حتى الآن، هم وآباؤهم اختصوا الثقافة المصرية بأن امتصوها تماما وطردوا معظم الشرفاء.
هؤلاء ساهموا فى تجريف الثقافة المصرية ونموا الخرافة، وإظلام العقل المصرى، ولا يزالون يعيدون إنتاج أنشطتهم المعزولة عن الجماهير وغير القادرة على تثقيف السلوك أو العقل العام فى مصر .
هؤلاء ساهموا عبر ربع قرن فى إخلاء الأطراف والأرياف وتجمعات المهمشين والفقراء فى المدن الكبرى لصالح تيار الإسلام السياسى، ما مكنه من أن يحصل كل شىء عقب نجاح الثورة .
لم يأت الصدام الآن مع وزارة تحاول أن تتجمل لكنها كانت مع د. صابر عرب قد خرجت من التأثير فى المشهد العام، اتهامات بالفساد المالى والإدارى وصلت للكسب غير المشروع فى أكاديمية الفنون، واتهامات ببيع تراث مصر عبر مشروع تطوير ورقمنة دار الكتب والوثائق القومية والمركز القومى للمسرح بحصول شركه .B.MI الأمريكية على وثائق وإبداعات تراثية خرجت من مصر لصالح أمريكا وإسرائيل، وذلك دون دفاع من أصحابها أو إطلاع الرأى العام على صحة الاتهامات من عدمها.
ثم اختفاء أخبار قضية حرق المسرح القومى، واختفاء لجميع ملفات الفساد وصمت تام لجهات التحقيق والرقابة فى حكومة الإخوان.
وبعد أن كان أهل الفساد وعملاء جهاز أمن الدولة المنحل، والمتهمون بالتعاون مع العدو الصهيونى من رجال الوزارة فى حالة هلع من الثورة المصرية، أخذوا كل الفرص لتسوية ملفات الفساد، وازدادوا قسوة وجنونا بالسلطة، فالحكم الجديد تجاهل كل مطالب المثقفين بتطهير الوزارة واستعادة دورها، وقد وصلت مطالبات رسمية بذلك لكل الأجهزة المعنية بما فيها ديوان رئيس الجمهورية.
وعليه فقد استمر الحديث داخل الوزارة عن الثورة بطريقة احتفالية، ومن كثرة الادعاء صدق هؤلاء المنتمون للماضى بأنهم رموز الثورة الثقافية ولو كان أحدهم رمزا حقيقيا مثل أم كلثوم أو توفيق الحكيم أو نجيب محفوظ أو صلاح أبو سيف أو يوسف شاهين لتجمع حولهم الشعب المصرى، ولم يكن الموقف فى مصر على ما هو عليه الآن ولأنهم أنصاف آلهة بلا أتباع فهم لا يجيدون إلا صنع الفضائح الجنسية، فيخرج علينا رئيس أكاديمية الفنون بحكاية فضائحية عن هذا ال c.d مجهول المصدر.
ثم يأتى الوزير وفى استقباله من اللحظات الأولى فضائح وعداء وسخرية منظمة، جاء وقد أخفى هويته الثقافية منكرا ميوله لتيار الأخونة، ولكن ومع تصاعد الأحداث تتضح ميوله عبر فهم برنامج الحزب الذى رشحه للرئاسة وهو حزب التوحيد العربى المطالب بدمج القومية العربية داخل الهوية الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية.
وهو الخطاب التقليدى للقواعد الانتخابية وهو مماثل لخطابات تحرير القدس والدفاع عن الفقراء والمهمشين وهى الخطابات التى فارقتها جماعة المسلمين بمجرد الفوز بالحكم فى مصر.
بدأ الرجل حملة صدام جماعية، ما لم يعلن سياسة ثقافية واضحة.
ولم يدرس ملفات الفساد لعرضها واضحة على الرأى العام. وبدون خبرة سياسية بدا معزولا داخل الصندوق الذى جاء من خارجه، ومع لهفة فى التخلص من الجميع دون ظهير مساند من داخل الجماعة الثقافية فى حربه مع شبكة المصالح الراسخة بالإعلام.. فسبب سلوكه الحاد الذى بدا عدوانيا نتيجة عسكية، إذ ارتدى عدد من أفراد المجموعة- القديمة قناع الضحايا المنتمين والمدافعين عن الثقافة الوطنية، وهى منهم براء، فأعاد إنتاج تلك المجموعة لتصبح هى فى صدارة المشهد الثورى، وهم فى معظمهم من صناعة الأجهزة الأمنية فيما قبل ثورة 25 يناير، وقد استغل هؤلاء الفسدة فى معظمهم الشعور العام للمصريين بفشل حكومة الإخوان والتمرد عليها ليحمل علاء عبدالعزيز الفشل المتراكم من عام كامل، وليجد مصدر دعمه بعيدا عن الجماعة الثقافية إذ أعلن أحمد عارف المتحدث باسم جماعة الإخوان أنهم يثقون به لأنه يمثل الثقافة الإسلامية. ولتتحول عملية تطهير الوزارة من الفساد واحتكار مجموعة معينة لكل الفرص والإمكانيات، إلى نتيجة عكسية هى إعادة إنتاج شبكة المصالح وتقديمها للرأى العام فى صورة الضحية الثورية وهذا هو التضليل بعينه.
بالتأكيد يبقى بهاء طاهر وصنع الله إبراهيم فى دفاعهم عن الثقافة الوطنية حالة خاصة، وكذلك سيد حجاب وخالد يوسف وغيرهم وكثير من الفنانين الشباب مثل الثائر الحالم كريم مغاورى ورفاقه هؤلاء وأمثالهم يقفون على الخط المدافع عن الهوية الوطنية ولذلك كان يجب أن يطالبوا برحيل وزير من خارج الجماعة الثقافية وبرحيل رموز الفشل الثقافى معه، حرصا على عدم خلط الأوراق .
فكل الشرفاء بالتأكيد ضد احتواء فصيل واحد للثقافة المصرية.
فالثقافة المصرية هى المشترك الأساسى لكل قوى المجتمع المصرى.
ولذلك يبقى الخداع فى هذه الأزمة هو إدماج الثقافة الوطنية فى معادلة الاستقطاب السياسى بين القوى المدنية والدينية وجعل الثقافة المصرية هى أرض معركة بين الإبداع والدين، والإبداع من كبار موظفى وزارة الثقافة براء والدين أيضا برىء، فالوجه الحضارى للإسلام أكثر رحابة وإنسانية من هذه المعركة.
إنه استمرار للصراع التاريخى الكريه والذى كرس له النظام السابق بين المثقف ورجل الدين.
وهما فى حاجة للحوار لا الصراع إن كانا حقا معا ضد الفساد ومع الحق والخير والجمال.
لقد تم إدماج أزمة الثقافة المصرية فى الصراع السياسى العام.
ولا حل لها إلا فى 6/30 الجارى حيث سيخرج الشعب المصرى ضد الفشل السياسى لحكومة الإخوان، وضد مشروعهم الأممى المضاد للمشروع العربى القومى، والمضاد للثقافة الوطنية المصرية.
لأن الأقنعة ستسقط وسيلزم الموظفون الكبار منازلهم فى خوف على مكاسبهم، ولن يخرج د. علاء عبدالعزيز ضد حكومة هو أحد أعضائها.
وسيسقط هذا الالتباس وسيتم كشف هذا الصراع على حقيقته، لتظل معركتنا فى مصر ضد الفساد ولصالح الثقافة الوطنية معا.
أما الخسارة الحقيقية فتكمن فى أن الحديث عن المشترك الثقافى كمساحة للتوافق الوطنى بين الفرقاء السياسيين، قد أصبح الآن نوعا من السذاجة المفرطة.