بينما تندلع شرارة ربيع عربى جديد من مدينة «سيدى بوزيد» التونسية ضد التيارات الدينية وعلى رأسها الإخوان المسلمون، لا يقدر الرئيس محمد مرسى خطر الغضب ضده، ربما أنه مقتنع مثل سلفه مبارك أن «مصر غير تونس».. إذ يواصل الرئيس الذى يحسب نفسه وجماعته على الثورة التيمن بأسلوب مبارك كأنه أحد تلاميذه أو مريديه.. ولعل مشاغبى شبكات التواصل الاجتماعى كانوا أكثر شفافية من نخبة استسلمت لأمل كاذب فى إمكانية نجاح د.مرسى فى تحقيق أهداف الثورة رغم يقينهم بأن التصويت له لم يكن إيمانا به وإنما كراهية فى منافسه على كرسى الرئاسة.. مشاغبو شبكات التواصل الاجتماعى أطلقوا على الرئيس اسم «محمد مرسى مبارك» قبل مرور أسبوع على انتخابه. الشبه بين مرسى ومبارك يكاد يصل حد التطابق، مع الإعلان عن الحكومة الجديدة.. فرغم أن اختيار رئيس حكومة ينتمى للثورة هو أقل وأبسط قرار يمكن لمرشح محسوب على الثورة أن يتخذه، فقد أجل القرار ثلاثة أسابيع ليفسح المجال لانتشار الشائعات، وعندما اتخذه فقد صدم به الجميع ورفع مؤشر الإحباط العام فى صعوبة خروجه من عباءة الإخوان.. د.مرسى اختار لرئاسة وزرائه الجديد وزيرا غير معروف ذا تاريخ متواضع وإنجازات أكثر تواضعا، ربما ميوله الإخوانية هى المبرر الوحيد لاختياره.
المشهد يذكرنا بما فعله الرئيس السابق حسنى مبارك عند اختيار رؤساء الوزراء إذ كان يترك الشعب حائراً لا يدرى من رئيس الوزراء القادم.. وكانت الصحافة تجتهد فى تقديم أسماء لعدة أيام ثم يفاجئ مبارك الجميع باختيار اسم بعيد عن الأذهان كأنه يستمتع بحيرة المواطنين.. فعل ذلك عندما اختار د. عاطف صدقى لرئاسة الوزراء عام 1986 وكان يشغل وقتها رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات.. وكانت الصحافة والرأى قد قدمت وقتها العديد من الأسماء ولم يخطر على بال أحد اسم صدقى.. حقيقة حقق صدقى نجاحات اقتصادية، ولكن ساعده فى ذلك أنه كان عارفا بما يدور فى الوزارات بحكم منصبه الذى يصب فيه كل مخالفات الهيئات والمؤسسات الحكومية، ولكن ما ساعده أكثر هو حرب الخليج وإسقاط جزء غير قليل من الديون عن مصر وزيادة حجم المساعدات بعد مشاركة مصر فى حرب تحرير الكويت.. ولكن النموذج الأبرز على تشابه طريقة الرئيس مرسى مع الرئيس المخلوع مبارك فى ترك المواطن يخمن ما هو رئيس الوزراء القادم ومفاجآته بما ليس فى الحسبان هو اختيار مبارك للدكتور أحمد نظيف - المحبوس حالياً - عام 2004 رئيسا للوزراء كان وقتها وزيرا للاتصالات ويرشحه بعض الصحف للخروج من الوزارة.. ثم فوجئ الجميع باختياره.. وكان وقتها مثل رئيس الوزراء الحالى يطلق عليه أصغر رئيس وزراء فى تاريخ مصر، إذ تولى المنصب وهو فى سن 52 عاماً.. ولم يكن أيضاً لديه خبرة سياسية مثل د. قنديل.. ولم يعمل فى وزارات اقتصادية.. وكل مؤهلاته أنه كان ضمن شلة جمال مبارك وقريباً من أفكارهم وسياساتهم.. وهكذا فإن الاختيار لم يكن للكفاءة وإنما للولاء.. الأخطر فى تشابه الأمر بين المخلوع والرئيس الحالى هو أن الاثنين لم يقدما مبرراً للشعب فى اختيار رؤساء الوزراء ولم يهتم مبارك أبداً فى أن يشرح للمواطنين أسباب اختياره لهذا الشخص رئيساً للوزراء ولم ندر لماذا تم اختيار عاطف صدقى وعلى أى أساس جاء د. كمال الجنزورى ومن بعده د. عاطف عبيد رغم ما كان يثار من أقاويل حوله ولا أحد حتى الآن يعرف على أى أساس تم اختيار نظيف رئيساً للوزراء د. مرسى أيضاً تجاهل أن يشرح للشعب أسباب اختياره للدكتور قنديل.. ولماذا تجاهل كل الأسماء البارزة التى كانت مطروحة.
ربما يحمل د. قنديل من الشهادات ما يؤهله لذلك علاوة على عمر مناسب جدا لحجم المسئولية الملقاة على عاتقه .. لكن أزمة مصر الاقتصادية تجعل شخصية قنديل غير مناسبة للمرحلة الراهنة التى تواجه تحديات اقتصادية مخيفة، وأزمات مالية مرتبطة بالسياسات النقدية وأسعار الفائدة، ومشاكل الدين المحلى والخارجى، وتصنيف مصر الائتمانى الذى أصبح فى أدنى درجاته وهو التصنيف الذى ترتبط به كل المنح والقروض الدولية .. هذه الأزمات تتطلب أساتذة اقتصاد وتخطيط أو سياسيين رفيعى المستوى من طراز د. البرادعى مثلا.
وكان من المفترض أن يصارح الرئيس مرسى الشعب بمفاوضاته أشخاصا آخرين.. وهل رفضوا أم أنه هو الذى لم يجدهم مناسبين فى الوقت الحالى لتولى المنصب.. وكان عليه أن يشرح للشعب لماذا لم يأت برجل اقتصادى واستبعد كل خبراء المال والأعمال؟.. والأهم أنه لم يقل للشعب ما هو خطاب تكليف الوزارة.. وما هو المطلوب منها خلال فترة توليها المسئولية.. مع توضيح أن قنديل هو الشخص المناسب لتنفيذ البرنامج.. اختيار وزير الرى لهذه المسئولية الجسيمة وهو البعيد عن الملفات الاقتصادية ورغم أهمية تخصصه أيضاً جعل العديد من الخبراء يطرحون تساؤلاً كان يطرح أيام مبارك: هل الكفاءة أم الولاء؟
المفكر الاستراتيجى مصطفى حجازى قال إن: «اختيار قنديل لرئاسة الوزراء يعنى أن مرسى غير قادر على أن يتجاوز أنه الرئيس الإخوانى إلى أنه الرئيس المصرى «الأوسع» ولايزال يتعامل على أنه رئيس لحزب الحرية والعدالة».
د. قنديل أكد أن الكفاءة ستكون المعيار الوحيد لاختيار وزرائه، لكن يبدو ذلك بعيدا عن الواقع فى ظل محاولاته التوفيق بين القوى السياسية وتمثيل الأقباط والمرأة فى الحكومة. فمسألة المحاصصة الحزبية لن تجعله يختار الأفضل وإذا كان نصيب حزب الحرية والعدالة هو الأبرز يليها حزب النور ثم باقى الأحزاب والقوى الأخرى فإن كل حزب هو الذى يقدم الأسماء المرشحة وهنا لن يكون لرئيس الوزراء دور كبير فى الانتقاء وإنما عليه الاختيار بين أسماء محددة.. وهو ما يذكرنا بما كان يفعله مبارك عندما كان يضع حصصا للقضاء ورجال الجيش والشرطة وأساتذة الجامعات مما كان يضيق مجال الاختيار أمام رئيس الوزراء.. المجال سيكون أكثر ضيقاً أمام د. قنديل إذ إن عليه أن يختار من بين ما تقدمه الأحزاب من أسماء وليس أمامه مجال لطلب تغييرهم أو استبدالهم بغيرهم أكثر كفاءة.. كما أن تمثيل المرأة والأقباط سيكون أيضاً على طريقة نظام مبارك.. ولهذا فإن الأقرب هو استمرار الوزيرين القبطيين وكذلك الوزيرتان الموجودتان فى الوزارة الأخيرة.
تشابه الرئيس مرسى مع الرئيس المحبوس لم يقتصر على طريقة اختيار رئيس الوزراء.. فهناك أوجه أخرى للتشابه، فقد ظهر مرسى لأول مرة فى عباءة مبارك أثناء خطابه الأول كرئيس للجمهورية.. عندما اعتمد فى ألفاظه وجمله على كل ما يثير العواطف الساذجة، فقد واصل منهج دغدغة المشاعر مثلما كان يفعل مبارك، الاختلاف أن مبارك كان يركز على مشاعر الأبوة والإحساس بالأمن المرتبط بوجوده، الاستقرار، السلام، التاريخ العسكرى، أما الرئيس مرسى، فافتتح خطابه الرئاسى الأول الذى استمر لنصف الساعة وكأنه يستطلع هلال عيد الفطر وليس خطابا سياسيا رسميا موجها لجميع المصريين، وانتقل بعد ذلك إلى تحية أهله و«عشيرته» ثم ركز على دماء شهداء الثورة والمصابين والثوار وميدان التحرير بشكل مبالغ فيه، لكنه لم يجرؤ على إصدار قرار بالإفراج عنهم.. كما كان يفعل مبارك فى خطاباته وحديثه عن التضحية والدماء والحروب والديمقراطية وما شابه، بينما يمنح أجهزته الأمنية مطلق الحرية فى إذلال الشعب.
د. مرسى غازل الموظفين على طريقة مبارك بعلاوة سنوية 15٪ التى كانت القرار الوحيد الذى صدر بسرعة، ربما لأن توقيتها كان محددا أصلا قبل قدوم الرئيس.. القرار لم يحقق للرئيس الشعبية التى راهن عليها، ربما تناسى أن هذه العلاوة ليس لها أى معنى طالما أنه ليس هناك شىء فى مصر اسمه الرقابة على الأسعار، فالمصريون حصلوا على 30٪ علاوة فى عهد مبارك ومع كل علاوة يزيد فقرهم! ومع ذلك فإن د. مرسى لم يقل من أين سيأتى بموارد لهذه العلاوة فى ظل الظروف الاقتصادية التى نمر بها وهو هنا مثل مبارك الذى لم يصارح أبدا شعبه بكيفية الحصول على موارد لتغطية العلاوات.
وواصل د. مرسى العزف على النغمة ذاتها بزيادة المعاشات. وزيادة معاش الضمان الاجتماعى 100 جنيه ليصبح 300 جنيه بدلاً من 200 جنيه ليستفيد منها 5,1 مليون مواطن.. كما شكل لجنة من القضاء العسكرى والنائب العام ووزارة الداخلية لحل مشكلة المعتقلين والمحبوسين على ذمة الأحداث التى أعقبت ثورة يناير فى أسرع وقت ممكن لمن لم يثبت فى حقه أى جريمة جنائية. وأمر بتكثيف التواجد الأمنى لتحقيق الاستقرار والأمن فى سيناء وباقى ربوع مصر.
حتى الثوار الذين حياهم مرسى أكثر من 4 مرات فى خطابه الأول، مازال آلاف منهم فى السجون، مرسى الذى فشل فى الإفراج عن المعتقلين عسكريا بدون تبرير حقيقة فشله تاركا الغموض يسيطر على المشهد مثله مثل سابقه الذى اعتقد البعض أنه ثقيل السمع وضعيف الكلام.. وعلى الرغم من انتظار الثوار لقرار الإفراج عن المعتقلين، حكمت المحكمة العسكرية على 24 من معتقلى أحداث العباسية بأحكام مع وقف التنفيذ وسجن صحفية. وهو هنا يسير على نهج مبارك فى الوعود التى لا تنفذ أبدا، والحديث عن وقوف المواطن أمام القضاء الطبيعى فى الوقت الذى كانت فيه المحاكم العسكرية يقف أمامها المواطنون فى قضايا عديدة.
مرسى يسير على خطى مبارك عندما صرح «أنه قادر على الرد على كل من يتحدث عنه بالقانون» فقد نسى مرسى كل مصائب ومشاكل مصر وأضاع وقته فى البحث عن عبارات مبارك الشهيرة «الرد بالقانون» القانون الذى لم يتحرر بعد، والذى استغله مبارك ليقمع معارضيه وربما كان مرسى ضحية هذا القانون فى وقت مضى.. مرسى البطىء لم يستطع الإفراج عن الصحفية شيماء عادل إلا بعد عدة أيام من اعتقالها فى السودان، رغم أنه كان بوسعه أن يفرج عنها فى ساعات نظرا لسيطرة الحكم المتأسلم على السودان.
حتى إنه لم يستطع فعل نفس الشىء مع المحامى أحمد الجيزاوى المعتقل فى السعودية الذى ربما يُحكم عليه بالإعدام قريبا، ذلك دون أى تدخل مباشر للرئيس، بل إنه كان ضمن الوفد الذى زار السعودية لترضية نظامها أثناء انفجار الأزمة، كأنه يؤكد أنه لن تكون هناك كرامة لمصرى فى السعودية، وهو هنا يذكرنا بقضية الطبيب المصرى الذى تم جلده عندما أثار قضية الاعتداء جنسيا على طفله.. وحوكم بدعوى القذف فى حق مواطنين سعوديين رغم ثبوت الاعتداء على ابنه ووقتها وقف مبارك مكتوف الأيدى رافضا التدخل.. المملكة كانت أول دولة زارها الرئيس محمد مرسى.. الرسالة ذاتها أكدها مبارك فى مناسبات كثيرة منها قتل السفير المصرى فى العراق والتضحية بمصريين لمعتقل جوانتانامو، استهانته بالنعوش المصرية الطائرة من العراق إلى مصر والتى علق عليها مبارك ببرود قائلا: «إيه اللى وداهم هناك»؟
ومن المشاهد التى أكدت عدم وجود مبرر لهذا البطء هو القرار الرئاسى السريع بعودة البرلمان المنحل.. رغم أنه قرار لم ينتج عنه أى شىء لصالح البلاد، لكن ربما شعر مرسى أنه نسى شيئا مهما من كتالوج مبارك وهو إهدار الأحكام القضائية، ولحسن الحظ لاحظ مرسى هذا الإغفال وعاد لمسار المخلوع بنجاح، فقد تجاهل مبارك كل أحكام محكمة النقض ببطلان انتخابات عدد من أعضاء مجلس الشعب وحتى فى حكم المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب عام 1990 لم ينفذه، لكن لجأ إلى استفتاء لحله.
قبل انتخاب مرسى رئيسا وعد الشعب أنه إذا أصبح رئيسا سيصدر قرارات سريعة من شأنها إصلاح مشكلات يومية مثل رغيف العيش والطاقة والنظافة، ربما انتخبه البعض عندما صدقوا أنه يستطيع حل هذه المشكلات تحديدا.. لكن بعد وصوله للكرسى بدا أنه كان يقصد أن مشكلة النظافة ستحل بيد الشعب، وليست الدولة ومؤسساتها وموظفيها الذين يحصلون على رواتب تقدر بالمليارات شهريا وشركة النظافة التى تعاقدت معها الدولة منذ سنوات.. حمل مرسى مشكلة النظافة على الشعب الذى انتخبه، ذلك مثلما كان مبارك يحمل مشكلة الازدحام للشعب على أساس أن خلفته كثيرة، مرسى تحجج بأن المصريين مخلفاتهم كثيرة، كما كان رده على انقطاع الكهرباء بدعوة المصريين لاستخدام القلة والمراوح الورقية.. نفس الردود المحبطة التى تستدعى سخرية مبارك من ضحايا العبارة.
سياسة مرسى الخارجية لن تتغير كثيرا عن سلفه، فزيارته للسعودية كأول جولة خارجية فى عهده تدل على أنه لا يسعى لأى تغيير فى خريطة مبارك السياسية، السعودية كانت حليفا لمبارك فى معظم فترات حكمه وربما مازالت.. كما أن علاقة مصر بواشنطن كما هى لم يتغير منها أى شىء بعد زيارة هيلارى كلينتون، مازالت أمريكا تعامل مصر على اعتبار أنها السمسار الأكبر فى المنطقة، فقد أعلنت الخارجية الأمريكية دعمها لمرسى بنفس حماستها فى دعم مبارك، وزيارة مرسى للبيت الأبيض بعد شهرين ستوثق ذلك الدعم.. أما السياسة من إسرائيل وحماس فيكفى أن نذكر ما قاله فى خطابه بجامعة القاهرة بعد حلفه اليمين.. عن السلام الشامل والعادل.. وهى الجملة التى ظل مبارك يرددها طوال 30 عاما دون أن تتحقق.