أصيب معظم المصريين بالصدمة والإحباط الشديد وصل إلى حد الثورة والانتفاضة مرة أخرى على غرار ما حدث فى يناير من العام الماضى ضد حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك ونظامه الفاسد، فما إن نطق المستشار أحمد رفعت رئيس المحكمة الجنائية التى تحاكم مبارك وأبناءه ووزير داخليته ومساعديه الستة للأمن بحكمه التاريخى فى قضية قتل المتظاهرين وقضايا الكسب غير المشروع المتورط فيها حسنى مبارك وأبناؤه والهارب حسين سالم امتلأت الميادين فى القاهرة والإسكندرية والسويس ومعظم محافظات مصر بالغاضبين والمعارضين لهذه الأحكام والتى لا تتناسب والجرم الذى ارتكبه هؤلاء المذنبون فى حق الثوار ونهب ثروات مصر. اللهو الخفى وراء كافة الاحداث بلا منازع
وزاد الناس دهشة وحيرة عندما جاءت فى مقدمة الحكم وحيثياته أن المحكمة لم تجد الأدلة الكافية لإدانة المتهمين وإنزال أقصى درجات العقاب لما اقترفوه من ذنب وذلك بسبب عدم تعاون أجهزة الأمن القومى فى تقديم الأدلة الكافية، لأن قانونها يمنعها من العمل بالداخل.. ولكن ماذا عن لجان تقصى الحقائق التى شكلتها لجان المجلس القومى لحقوق الإنسان ومجلس الشعب للتحرى وإظهار الحقيقة وتقديم المتهمين على مثل هذه المجازر للعدالة بدءا من ثورة 25 يناير مرورا بأحداث جسام مثل موقعة الجمل وحرق المجمع العلمى ومجلس الوزراء ووزارة الداخلية وشارع محمد محمود وكذلك أحداث ماسبيرو وأخيرا مجزرة بورسعيد التى راح ضحيتها أكثر من 74 شهيداً سالت دماؤهم الطاهرة فى استاد بورسعيد.
وبالرغم من أن كل تقارير تقصى الحقائق قد قدمت إدانات واضحة لعدد من المسئولين إلا أن قرارا لم يصدر فى هذا الصدد وهو ما دفع الشعب للاعتقاد بأنه لا خير من وراء لجان تقصى الحقائق وهو ما جعل من تفاقم الأمور أمراً طبيعياً على خلفية تشكيل لجنة تقصى الحقائق، بل وتسرب القلق إلى عدد من المراقبين للشأن السياسى.
وبرغم أن بعض تقارير لجنة تقصى الحقائق التى صاحبت ثورة 25 يناير حول أحداث العنف قالت إن الشرطة المصرية استخدمت «الرصاص الحى» ضد المتظاهرين فى أحداث 28 و 29 يناير كما اتهم التقرير أيضا كلاً من علاء وجمال مبارك نجلى الرئيس السابق، وصفوت الشريف، رئيس مجلس الشورى السابق، ومرتضى منصور، المحامى، ورجل الأعمال إبراهيم كامل، بالضلوع فى التخطيط ل«موقعة الجمل» والتى أصيب فيها وقتل العشرات من المتظاهرين بميدان التحرير إلا أن هذه التقارير من الواضح أنها كانت حبراً على ورق، لأنها رصدت أيضا فى تقرير أحداث ماسبيرو تربص فلول النظام السابق لاسترداد مواقعهم من خلال الانتخابات القادمة، ورغبة أطراف مستفيدة من الانفلات الأمنى فى الحيلولة دون عودة أجهزة الشرطة لاستئناف دورها المهنى فى الضبط الاجتماعى حيث إنها استخدمت القوة المفرطة والقنابل المسيلة للدموع، على نحو أحدث كثيراً من حالات الاختناق، وقد لاحظ أحد باحثى اللجنة إطلاق ما يقرب من مائة قذيفة مسيلة للدموع فى أقل من ساعتين ، ويجمع مسار الأحداث بين مشهدى الترتيب المسبق، والتفاعل العفوى، وكذلك افتعال أزمة غير مبررة فى احتفالية تكريم بعض أسر الشهداء، والاقتحام غير المبرر للمسرح، ومحاولة جذب المعتصمين الباحثين عن القصاص من أمام ماسبيرو لمسرح الأحداث.
هذا فى الوقت الذى أكد فيه تقرير لجنة تقصى الحقائق، بالمجلس القومى لحقوق الإنسان، حول أحداث «محمد محمود ومجلس الوزراء» على استخدام الأعيرة النارية الحية فى قتل وإصابة المتظاهرين، وإصابة رجال أمن، وحدوث 64 حالة وفاة، بينهم 20 بطلق نارى من مسافة نصف متر، وعلى مستوى أفقى، بينما أصيب 4500 شخص آخرين وأيضا أدان التقرير استخدام الخرطوش خلال الأحداث، وذلك بعد تشخيص الإصابات التى تحصلت عليها اللجنة خلال زياراتها للمستشفيات، وكما انتشرت أحد المقاطع الفيلمية التى يظهر فيها الملازم أول محمد الشناوى، وهو يحمل بندقية خرطوش، وقد أحيل الضابط المذكور إلى النيابة العامة للتحقيق وصدر قرار بحبسه احتياطيًا على ذمة التحقيق، لكن لم يثبت للجنة استخدام مكونات سامة وغازات أعصاب ضمن مكونات القنابل المسيلة للدموع التى أطلقت على المتظاهرين.
والسؤال الذى تطرحه «روزاليوسف» الآن: ما الذى قدمته هذه اللجان بعد إظهار هذه النتائج؟ وهل واجهت هى الأخرى صعوبات فى جمع الأدلة أم هى لجان صورية تم تشكيلها لتهدئة ثورة الرأى العام فقط؟ وهل توصلت إلى الفاعل الأصلى أم أنه مازال اللهو الخفى؟ ولماذا لا تعلن للرأى العام نتيجة ماتوصلت إليه؟ وهل تعتبر هذه اللجان فاشلة أم مظلومة؟! حاولنا أن نستطلع بعض آراء أعضاء اللجان الذين شاركوا فى إعداد هذه التقارير حيث قال لنا فى البداية حافظ أبوسعدة رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان إن لجنة تقصى الحقائق فى أحداث 25 يناير تم الأخذ بها خاصة أنه فى هذه الفترة لم تكن هناك سلطة تنفيذية ولا نيابة عامة للتحقيق أما فى بقية الأحداث كانت النيابة موجودة وهى مازالت تقوم بدورها خاصة أنه لم تصدر أية محاكمات حتى الآن.
وأضاف أن لجان تقصى الحقائق فى الأول والآخر دورها استرشادى وليس ملزماً لجهات التحقيق مطالبا بضرورة صياغة قانون ينظم لجان تقصى الحقائق حتى يصبح من شأنه دراسة الحوادث أو الجرائم أو أوجه التقصير ذات الآثار العامة من الناحية الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التى تقع، وتنبئ عن وجود مشكلة تجب معالجة أسبابها والحيلولة دون تكرارها مستقبلاً.
وأضاف أن الحكم الذى صدر على الرئيس السابق يعتبر عبقرياً فى ظل غياب الأدلة حيث تم الاعتماد على تقرير لجنة تقصى الحقائق فى ذلك الوقت لاستشهادها بشهود العيان ولكنها لم تستطع إثبات الفاعلين الأصليين فى قتل المتظاهرين خاصة أن القانون الجنائى يعتمد على ضرورة وجود أدلة يقينية دقيقة، أما بخصوص براءة مساعدى وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى فوفقا للمادة 63 من قانون العقوبات الواردة فى باب الأحكام العامة فإنه لا جريمة إذا وقع الفعل من موظف أميرى وذلك فى الأحوال أولا: إذا ارتكب الفعل تنفيذا لأمر صادر إليه من رئيس وجبت عليه طاعته أو اعتقد أنها واجب عليه، ثانيا: إذا حسنت نيته وارتكب فعلا تنفيذا لما أمرت به القوانين أو ما اعتقد أن إجراءه من اختصاصه، وعلى كل حال يجب على الموظف أن يثبت أنه لم يرتكب الفعل إلا بعد التثبت والتحرى وأنه كان يعتق مشروعيته وأن اعتقاده كان مبنياً على أسباب معقولة.
بينما قال الناشط السياسى جورج إسحاق مؤسس حركة كفاية وعضو المجلس القومى لحقوق الإنسان إن لجان تقصى الحقائق تنتهى وظيفتها عند تسليمها إلى لجنة حقوق الإنسان فى الأممالمتحدة والمجلس العسكرى ومجلس الوزراء وإلى جهات التحقيق المختصة وبالتحديد النائب العام مضيفا أن الوضع لم يعد يحتاج لكلام مرسل وأن المجلس القومى لحقوق الإنسان شكل لجان تقصى حقائق فى كثير من الأمور دون جدوى.
وقال بانفعال: لسنا جهة تحقيق ولكن دورنا الرئيسى هو تسجيل الوقائع من موقع الأحداث بالصوت والصورة مع سماع آراء شهود العيان وتسجيلها بعناية ودقة مضيفا أن مثل هذه التقارير يتم اعتمادها فى الأممالمتحدة بحصولها على مؤشر قياس لمعرفة مدى دقتها ونحن حريصون على أن نصبح فى المؤشر الأول حتى لا نفقد مصداقيتنا.
وأكد أننا نحتاج لتعديل تشريعى للبرلمان يمكنه من محاسبة الوزراء محاسبة حقيقية وسحب الثقة من الحكومة واعتبر أن ذلك البرلمان هو برلمان ما بعد الثورة مشيرا إلى أن برلمان الثورة لم يظهر بعد.
واتهم المجلس العسكرى بالمسئولية عن سحل المتظاهرين وامتهان كرامة المرأة فى أحداث مجلس الوزراء ومحمد محمود مؤكدا أنه لابد من محاسبة المجلس العسكرى على أعماله التى ارتكبها فى حق المواطنين المصريين ولا كلام عن خروج آمن من السلطة.
وقال إن أجهزة الأمن هى المسئولة عن طمس الأدلة والبراهين فى جميع الأحداث التى مررنا بها منذ قيام ثورة 25 يناير بدءا بأحداث قتل المتظاهرين يومى 25 و28 يناير وأحداث موقعة الجمل ووزارة الداخلية وأحداث شارع محمد محمود وماسبيرو حتى مذبحة بورسعيد وبالتالى فلجان تقصى الحقائق قامت بدورها على أكمل وجه ولكن جهات التحقيق هى التى تماطل فى تقديم الأدلة والبراهين على اتهام الجناة وبالتالى تخرج الأحكام فارغة من أى إدانة للجناة الحقيقيين.
ومن جهته قال ناصر أمين رئيس المركز العربى لاستقلال القضاة والمحاماة: إن تقارير اللجان استرشادية وليست ملزمة، فالمجلس القومى لحقوق الإنسان ليس لديه أية سلطة لإصدار قرارات تنفيذية، ودوره كمنظمة مجتمع مدنى يقتصر على الرقابة، وإعطاء توصيات إلى الجهات المعنية لتنفيذها، وأنه لا سبيل للاتهامات بأن المجلس يتقاعس عن أداء دوره.
وأشار إلى أن اللجوء إلى القضاء الدولى يستلزم الانتهاء من درجات التقاضى وصدور حكم نهائى مضيفا أن المتاح لمصر فى القضاء الجنائى الدولى يعتمد على نوعين من الإجراءات جزء خاص بالأممالمتحدة ومجلس حقوق الإنسان والجزء الثانى له علاقة بالاتحاد الأفريقى، حيث يمكن تقديم شكوى للجنة الأفريقية لحقوق الإنسان أو لمجلس الأممالمتحدة وهذا يقتضى استنزاف جميع أشكال الطعن بصدور أحكام نهائية وباتة بحيث يجوز لأى متضرر أن يتقدم بشكوى لهاتين الجهتين.
وأوضح أن مصر غير موقعة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية وهو ما يعنى عدم استطاعة المتضرر اللجوء إلى الجنائية الدولية لمحاكمة من ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية.
وقال إنه لا توجد رغبة حقيقية لمحاسبة أو معاقبة أى من أفراد النظام السابق تجاه الفترة الماضية وبالتالى هى التى جعلت تقارير لجان تقصى الحقائق لا تأخذ بجدية مما انعكس على تقارير المجلس القومى لحقوق الإنسان التى أصبحت بلا قيمة.
وأوضح أن منظمات المجتمع المدنى ليست جهات تحقيق فهى لا تمتلك الأدلة الكافية لإثبات تورط المجرمين فى أى من الأحداث التى مررنا بها فهذه مسئولية المؤسسات القضائية والتنفيذية التى للأسف لم تتحرك حتى الآن وسعت إلى تأجيل المحاكمات.
وأشار إلى أن الحكم الذى صدر ضد مبارك كان نتيجة واضحة جاءت متوافقة مع الطريقة التى أديرت بها القضية منذ بدايتها والتى شابها تدمير الأدلة والثوابت وعدم دقة إجراءاتها وغياب النصوص العقابية الموجودة فى قانون العقوبات المصرى والتى تعاقب على الجرائم ضد الإنسانية التى حدثت أثناء ثورة 25 يناير.
أما محمد الدماطى وكيل أول مجلس نقابة المحامين ومقرر لجنة الحريات بالنقابة فقال لنا: مادام نظام الدولة القائم حاليا مستمراً فى عدم إطلاق المعلومة عن أى قضية حدثت بل ويتعمد إخفاء الحقيقة بمحاولته طمس المعلومات فإن قاضى التحقيق لن يصل إلى أى نتيجة أو دليل إدانة لأى متهم فى النظام السابق.
واعتبر أن كل تقارير لجان تقصى الحقائق سواء التى قام بها المجلس القومى لحقوق الإنسان أو مجلس الشعب أو منظمات المجتمع المدنى أو حتى التى قمنا بها فى نقابة المحامين فهى نوع من إبراء الذمة حيث تحاول الوصول إلى الحقيقة ولكن لا يتاح لها المعلومة وهذا ما أدى بالطبع إلى ما وصلنا إليه من سلسلة البراءات التى حصل عليها رموز النظام السابق حتى إن العالم ينظر الآن إلى البراءات على أنها تشمل وجه النظام بأكمله وليس للأشخاص.
وأضاف: إذا استمرت عملية حجب المعلومة عن الرأى العام فإن هذا سوف يقودنا إلى طريق مسدود وسوف ندخل فى نظام استبدادى آخر.
وتوقع أن تختفى الأدلة فى موقعة الجمل برغم تسجيل لجنة تقصى الحقائق كل أحداث الواقعة ولكن سلطات التحقيق لن تجد الأدلة التى تقدم بها الجناة للعدالة.
بينما وصف الدكتور فؤاد عبدالمنعم رياض أستاذ القانون بجامعة القاهرة والقاضى السابق بالمحكمة الدولية لجرائم الحرب محاكمة مبارك بنقطة البداية لدولة مصر الحديثة قائلا إن تقارير لجان تقصى الحقائق مجرد تقارير استرشادية وليست ملزمة فإذا كانت الحكومة فاسدة ورئيس الدولة متورطاً فى ارتكاب أى جريمة فلا تعنيه مثل هذه التقارير حيث كنت ضمن اللجنة التى كشفت ما حدث فى نجع حمادى قبل الثورة وتم رفض نشر التقرير.
وأضاف: أننا فى المجلس القومى لحقوق الإنسان كنا نرسل كل التقارير التى قمنا بها سواء فى أحداث ماسبيرو أو محمد محمود أو مجلس الوزراء إلى النائب العام ثم إلى رئيس الدولة ممثلا فى المجلس العسكرى ثم إلى المجلس الدولى لحقوق الإنسان وبالتالى فى حال عدم الأخذ به فهذه ليست مسئوليتنا وإنما من اختصاص جهات التحقيق.
وأشار إلى ضرورة الابتعاد عن المبالغة فى التناول الإعلامى لنتائج اللجنة موضحا أن قرارات اللجنة تعرض على النيابة التى تتخذ الإجراءات المناسبة عندما تتأكد من الأدلة الجنائية المطلوبة وأكد أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته.
وقال إن الفترة الزمنية لأى لجنة تقصى حقائق دولية تستغرق وقتا طويلا لإثبات التهم بشكل لا يقبل الشك وبعيد عن التلفيق، وهو ما ألقى على اللجنة عبء العمل السريع والدقيق، لافتا إلى مشاركته فى لجنة تقصى الحقائق التى شكلتها المحكمة الدولية والخاصة بالرئيس الصربى والتى أنهت عملها فى عامين كاملين.
وقال إن اللجنة قدمت تقريرها النهائى إلى مكتب النائب العام واتهمت فيه كلاً من الرئيس السابق محمد حسنى مبارك -بصفته الرئيس الأعلى لجهاز الشرطة - ووزير الداخلية السابق حبيب العادلى بالمسئولية الجنائية عن قتل المتظاهرين، وبالفعل تم الأخذ بالتقرير كدليل إدانة فى أحداث قتل المتظاهرين فى أحداث 25 يناير و28 يناير.
أما د. درية شرف الدين عضو المجلس القومى للمرأة، والتى كانت من ضمن أعضاء لجنة تقصى الحقائق فى أحداث ماسبيرو فقالت لنا: برغم أن المفوضية العليا لحقوق الإنسان أشادت بما سجلته اللجنة من شهادات عن أحداث ماسبيرو ولكن للأسف لم يؤخذ بهذا التقرير وتم وضعه فى الأدراج.
وتساءلت: لا نعلم لمصلحة من يتم إخفاء الحقائق ولا تتم الاستعانة بمثل هذه التقارير الخطيرة التى تسجل كل لحظات ما حدث بالصوت والصورة مع سماع شهود العيان فهى تعتبر دليلاً واقعياً من مسرح الأحداث عن كل جريمة ارتكبت فى مصر خلال الفترة الماضية.