محمود التهامي روزاليوسف الأسبوعية : 31 - 07 - 2010 رغم مرور نحو خمسة وثلاثين عاما على عودة الحياة الحزبية إلى الشارع السياسى المصرى، بعد غياب طويل امتد من عام 1952 إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضى، إلا أن وجودها الفعلى وتأثيرها العملى على مجرى الأحداث فى البلد لا يزال محدودا للغاية. كان قادة ثورة يوليو قرروا بعد نجاحها فى الاستيلاء على السلطة إلغاء الأحزاب السياسية فى مصر بزعم أنها فاسدة وأنها ساعدت على تفشى الفساد والإفساد فى صراعها على السلطة بالتقرب من الملك أو من الإنجليز المستعمرين، مما أدى إلى تدهور الأمور وقيام الثورة. السبب المباشر فى الإسراع باتخاذ الثورة ورجالها لقرار حل الأحزاب السياسية ثم إلغائها نهائيا هو ما تردد وقتها من مطالبة قادة الأحزاب خاصة مصطفى النحاس باشا زعيم الوفد لرجال الثورة بالعودة إلى ثكناتهم وترك مسئولية الحكم للمدنيين مما أدى إلى نشوب خلاف داخل جماعة الضباط الذين قاموا بالثورة فأيد بعضهم مطالب السياسيين، ورفض البعض الآخر بحجة عدم انتهاء المهمة بمجرد الإطاحة بالملك. انتصر التيار المعارض للسياسيين بقيادة جمال عبدالناصر وأطاح بمن سواه، وبدأ التفكير فى اتجاه التنظيم السياسى الواحد الذى يضمن استمرار السلطة فى أيدى النظام الجديد وعدم تسربه من بين أيدى رجاله، ليحل محل النظام الحزبى متعدد الأطراف. هذه الخلفية التاريخية ضرورية لفهم ظروف إلغاء الأحزاب فى مصر، وضرورية أيضا لتفسير أسباب عدم فاعلية النظام الحزبى حين عاد بعد غياب طويل. الأحزاب حين صدر قرار حلها فى ظروف إعادة ترتيب الأمور فى البلد بعد الإطاحة بالملك كان قرار سلطة مطلقة لا معقب على قرارها، وواجه المحتجون على القرار تهمة العداء للثورة وما أدراك ما هذه التهمة التى كان يترتب عليها إهدار حقوق وآدمية وربما حياة من تعلق فى رقبته.حين صدر القرار السياسى من الرئيس السادات فى منتصف السبعينيات بإعادة التعددية للحياة السياسية وإلغاء التنظيم السياسى الواحد القائم على تحالف قوى الشعب العاملة واستبعاد الرأسمالية الوطنية، كان أيضا قرارا فوقيا من سلطة مطلقة لم يجر التمهيد له بالقدر الكافى الذى يسمح بزراعة الفكرة زراعة سليمة عن قناعة من الرأى العام. بالطبع هرول الجميع إلى حزب الرئيس باعتباره الامتداد الطبيعى للتنظيم السياسى الواحد وبقى خارجه من تعين عليه القيام بالدور المقابل أى المعارضة الحزبية، لكن سرعان ما انقلبت اللعبة إلى حقيقة وبدأت الاختلافات تتعمق وتتخذ شكلا عدائيا أكثر منه تنافسيا مما أدى إلى ضياع واختفاء الأرضية المشتركة بين الأحزاب، فانقلب الرئيس السادات فى أواخر حكمه على الأحزاب المعارضة التى سمح بتشكيلها نظرا لانقلابها على الاستراتيجية التى اختارها ونفذها لإدارة سياساته الخارجية والداخلية. من هنا تبرز نقاط مهمة ذات تأثير كبير على الحياة الحزبية، وما آلت إليه أحوالها فى الآونة الأخيرة، النقطة الأولى أن القوة القهرية التى صاحبت إلغاء الأحزاب فى مراحل الثورة الأولى، ثم تأليف التنظيم السياسى الواحد القائم على فكرة استبعاد غير المؤيدين لتوحيد الفكر مع الزعيم أدت إلى عزوف الكثيرين عن التفكير أساسا، ودفعت الذين يفكرون إلى انتهاج سياسة انتهازية للحصول على المنافع من التنظيم السياسى الواحد بصرف النظر عن مدى الاقتناع بأفكاره. النقطة الثانية أن هذا الجفاف فى الفكر السياسى المتنوع أدى إلى اضطراب فظيع حين انفتح فجأة الطريق إلى الأحزاب من جديد، ولم تنجح التنظيمات السياسية الوليدة فى الاستمرار على اتفاق مع الحزب الرئيسى الحاكم بحكم وراثته للتنظيم الواحد على خطوط سياسية عامة تصب فى مصلحة الوطن وهى استراتيجية ضرورية لكى يتمكن الرأى العام من التفاعل مع فكرة التعددية بعد غيابها الطويل. لم يكن أمام الأحزاب الجديدة إلا العودة بسرعة إلى أيدولوجيات قديمة ،اليسار تحوصل حول الأفكار الاشتراكية التقليدية التى تجاوزتها الدول الاشتراكية ذاتها، الوفد عاد إلى الأفكار الليبرالية التى تجاوزها المجتمع المصرى، الجماعة المحظورة عادت إلى استخدام الدعاية الدينية للترويج لحلمها القديم بالاستيلاء على السلطة. النقطة الثالثة كانت اتفاق التنظيمات السياسية على مطالبة الحزب الحاكم بنصيب من التركة السياسية التى استولى عليها لوحده من وجهة نظرهم، وبالتالى كانوا ينتظرون أن تهديهم الحكومة مكاسب سياسية مجانية فى الانتخابات المختلفة مكافأة على مشاركتهم فى العملية التعددية، لكن النظام لم يوافق ولم يقتنع بذلك واكتفى بتوزيع منافع محدودة اتخذت الطابع الشخصى. الملاحظة الأخيرة الأكثر أهمية من وجهة نظرى هى غياب كل ما سبق الإشارة اليه من تحركات عن الشارع والجمهور، فقرار إعادة الأحزاب لم يكن فى وسعه إعادتها إلى الشارع لأن الشارع كان ولا يزال معلقا بمصالحه مع الحكومة أيا كان اسمها حزبيا أو غير حزبى، والإعداد الفكرى لاستقبال الحياة الحزبية لم يحدث ولا يزال يتعثر حتى الآن، ما عاد إذن ليس حياة حزبية وإنما أعيدت الأنوار إلى مقار ولافتات وصحف تحمل أسماء الأحزاب دون أن تكون قادرة على التحرك بجدية لجمع تأييد لها من الجماهير. فى ضوء هذا العرض الموجز لتطور حركة الأحزاب فى مصر نستطيع القول إن الدرب الذى تسلكه الأحزاب المصرية حتى الآن لا يوصلها إلى شىء فى المنظور القريب نظرا لغياب العامل الأساسى الذى يمكن أن يحقق لها جماهيرية.فى رأيى لايمكن تحفيز الشارع للانضمام إلى الأحزاب على جناح العداء للحكومة التى تمسك بزمام المصالح مع الجميع، لكن التعامل على أساس المنافسة معها فى الأساليب التطبيقية على قاعدة من المبادىء والسياسات المشتركة يمكن أن يطمئن المواطنين إلى أن انضمامهم للأحزاب لن يؤدى إلى الإضرار بمصالحهم بصورة أو بأخرى.