استعدادا لشم النسيم ..رفع درجة الاستعداد بالمستشفيات الجامعية    سعر الدينار الكويتي اليوم الأحد 5-5-2024 مقابل الجنيه في البنك الأهلي بالتزامن مع إجازة عيد القيامة والعمال    وزير المالية: 3.5 مليار جنيه لدعم الكهرباء وشركات المياه و657 مليون ل«المزارعين»    وزيرة إسرائيلية تهاجم أمريكا: لا تستحق صفة صديق    تشكيل ليفربول المتوقع ضد توتنهام.. هل يشارك محمد صلاح أساسيًا؟    الاتحاد يواصل تدريباته استعدادًا لمواجهة الأهلي.. وأتوبيسات مجانية للجماهير    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في حادثي سير منفصلين بالشرقية    الإسكان: 98 قرارًا لاعتماد التصميم العمراني والتخطيط ل 4232 فدانًا بالمدن الجديدة    «الري»: انطلاق المرحلة الثانية من برنامج تعزيز التكيف مع التغيرات المناخية في الساحل الشمالي والدلتا    الإسكان تنظم ورش عمل حول تطبيق قانون التصالح في مخالفات البناء    استقرار ملحوظ في سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه المصري اليوم    العمل: توفير 14 ألف وظيفة لذوي الهمم.. و3400 فرصة جديدة ب55 شركة    ماكرون يطالب بفتح مجال التفاوض مع روسيا للوصول لحل آمن لجميع الأطراف    مسؤول أممي: تهديد قضاة «الجنائية الدولية» انتهاك صارخ لاستقلالية المحكمة    أوكرانيا تسقط 23 طائرة مسيرة روسية خلال الليل    رئيس الوزراء الياباني: ليس هناك خطط لحل البرلمان    قصف مدفعي إسرائيلي على الحدود اللبنانية    يصل إلى 50 شهاباً في السماء.. «الجمعية الفلكية» تعلن موعد ذروة «إيتا الدلويات 2024» (تفاصيل)    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    اتحاد القبائل العربية: نقف صفًا واحدًا خلف القيادة السياسية والقوات المسلحة «مدينة السيسي» هدية جديدة من الرئيس لأرض الفيروز    فيديو.. شعبة بيض المائدة: نترقب مزيدا من انخفاض الأسعار في شهر أكتوبر    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    كرة طائرة - مريم متولي: غير صحيح طلبي العودة ل الأهلي بل إدارتهم من تواصلت معنا    «شوبير» يكشف حقيقة رفض الشناوي المشاركة مع الأهلي    شوبير يكشف مفاجأة حول أول الراحلين عن الأهلي بنهاية الموسم    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الأحد في الأسواق (موقع رسمي)    الزراعة: حديقة الأسماك تستعد لاستقبال المواطنين في عيد شم النسيم    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    حدائق القاهرة: زيادة منافذ بيع التذاكر لعدم تكدس المواطنيين أمام بوابات الحدائق وإلغاء إجازات العاملين    التصريح بدفن شخص لقي مصرعه متأثرا بإصابته في حادث بالشرقية    السيطرة على حريق التهم مخزن قطن داخل منزل في الشرقية    وفاة كهربائي صعقه التيار بسوهاج    نجل الطبلاوي: والدي كان يوصينا بحفظ القرآن واتباع سنة النبي محمد (فيديو)    يعود لعصر الفراعنة.. خبير آثار: «شم النسيم» أقدم عيد شعبي في مصر    تامر حسني يدعم شابا ويرتدي تي شيرت من صنعه خلال حفله بالعين السخنة    سرب الوطنية والكرامة    الكاتبة فاطمة المعدول تتعرض لأزمة صحية وتعلن خضوعها لعملية جراحية    حكيم ومحمد عدوية اليوم في حفل ليالي مصر أحتفالا بأعياد الربيع    رئيس «الرعاية الصحية» يبحث تعزيز التعاون مع ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة    صحة الإسماعيلية تنظم مسابقات وتقدم الهدايا للأطفال خلال الاحتفال بعيد القيامة (صور)    أخبار الأهلي: تحرك جديد من اتحاد الكرة في أزمة الشيبي والشحات    وزير شئون المجالس النيابية يحضر قداس عيد القيامة المجيد ..صور    إنقاذ العالقين فوق أسطح المباني في البرازيل بسبب الفيضانات|فيديو    كريم فهمي: مكنتش متخيل أن أمي ممكن تتزوج مرة تانية    مخاوف في أمريكا.. ظهور أعراض وباء مميت على مزارع بولاية تكساس    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نلتقي بعد الثورة..مصر 2012


عبدالله كمال 25 سبتمبر 2010 3:00 م

كاريكاتير نشر في وقت سابق من العام الحالي في الولايات المتحدة ينتقد «حزب لا».. الذي يقول أنه لا يوجد أي شيء.. وتخيل من روزاليوسف لحزب لا في مصر.. قياسا علي نفس الكاريكاتير.. فلماذا إذا كان هذا الحزب موجوداً في الولايات المتحدة لا يتم التنبؤ بالثورة بينما حين يكون موجودا في مصر يتوقع البعض بسبب وجوده أنه سوف تقع ثورة ؟
«اهرب.. الوقت يمضي.. والثورة اقتربت.. ليس أمامك فرصة».. أتلقي هذه الرسالة بصياغات متقاربة من عناوين بريدية مختلفة خلال العامين الماضيين. غالبا ما يصلني هذا التحذير بعد مقال أنقض فيه دعايات معارضة.. أو أنتقد فيه رؤي الفوضي.. أو أسجل فيه موقفي المؤيد لقرار حكومي.. ما بين تلك الرسائل عادة ما تصل رسائل أخري تتضمن قدرا من الشتائم والإهانات بتعبيرات لا أشك لحظة في أن أصحابها ينتمون إلي جماعات سياسية بعينها.
لا أعتقد أنني أنفرد بهذا. ولا أظن أن تلك حالة شخصية.. إذ إن عدداً كبيراً من الصحفيين والسياسيين يتعرضون لهذا الضغط المعنوي.. والكثيرون، وبما في ذلك الكاتب، يتلقون علي صفحات الجرائد وعبر الشاشات، معاني مثيلة.. وأكثر صراحة.. تكتب في المقالات.. وتدون في المانشيتات.. في سياق حملات (اغتيال شخصية) تعرضت لها قائمة متنوعة من أصحاب المواقف وبما في ذلك برلمانيون واقتصاديون وكتاب ومثقفون.. واجهوا لوما منتظما وما يمكن وصفه بأنه (عقاب سياسي) علي ما يعلنونه من آراء.
من المثير أن هذا يجري في عصر اتسعت فيه مساحات حرية التعبير حتي بلغت حدا لا يمكن مقارنته «تاريخيا» بأي من مراحل مصر، ولا مقارنته «جغرافيا» بأي من الدول في الإقليم المحيط أو حتي في جميع أرجاء العالم، ولا يمكن مقارنته «سياسيا» و«قانونيا» بالحدود الواجبة علي حرية التعبير أن تلتزم بها في أي بلد ديمقراطي. ومن المدهش أن أول من استفاد من حرية التعبير هو ذلك الفريق الذي وجد أن عليه أن يحجبها عن الآخرين.. ملاحقا إياهم بأن عليهم أن يصمتوا.
بخلاف السعي إلي كتم الأصوات المناوئة لتوجهات الفوضي، وتشويه صورتها في إطار حملة منظمة ودءوبة، وإلي جانب كونها انطوت علي اغتيال مرتب، فإن تلك الأساليب كشفت النوايا المدبرة لأن يتم احتلال «ذهنية الرأي العام» برؤية واحدة.. تريد أن تغسله لصالحها.. وأن تعيد بناءه بحيث يستسلم لها، وفي ذات الوقت أظهر ذلك أن أعضاء هذا الفريق - علي شراستهم الإعلامية - لايثقون إلي حد بعيد في أنه يمكنهم خوض «نزال موضوعي» أو «سجال متوازن» ينتهي بأن يقنعوا الناس بما يريدون.. عمليا وواقعيا ومنهجيا هم يريدون ساحة خالية لهم.. في زمن التعدد.
- حملة رهيبة
لقد انبنت الخطة في مصر وفق منهج أمريكي اتبع في عملية نشر أشهر الأكاذيب في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. وليس هذا غريبا في ضوء «الارتباط البنيوي والعضوي» بين هذه المجموعات الاغتيالية في مصر وبين فريق المحافظين الجدد الذي روج أكاذيب مبررات حرب العراق في عام 2003. ذلك أن الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة الرئيس جورج بوش، والمنظمات غير الحكومية الأمريكية التي رفلت في نعيم محاباته وتمويل الجهات المتنوعة.. كان أن حجبت عمدا كل الآراء التي تقول بعكس روايتها لأوضاع العراق وما يخص سلاحه النووي المزعوم.. وصولا حتي إلي استحداث إدارة في البنتاجون تكون مهمتها نشر البيانات الملفقة والمعلومات المغلوطة بما يخدم أهداف السياسة.. ولم يكن ذلك المكتب موجودا لدي وسائل الإعلام المصرية المستحدثة أو الجماعات السياسية المختلقة في الفترة التي تلت عام 2005. ولكن ذات المنهج كان هو نفس الأسلوب المستعان به من قبل الجماعات والاتجاهات المصرية التي راحت تشن حملة رهيبة في اتجاه التبشير بقرب حدوث تغيير عظيم في وضعية حكم مصر ومستقبلها السياسي.
عملية اختراق عظيمة، من حيث التمويل، وشراء الولاءات، وتغيير اتجاهات العقول، وتوفير «حضانات الرعاية»، وبما في ذلك التدريب والتسفير والتحفيز، المصحوب بتعضيد إعلامي خارجي.. جرت لقطاع غير صغير من النخبة المصرية.. خصوصا في الأجيال الجديدة.. ولم يكن الأمر يحتاج إلا إلي بعض المال.. وأغطيته متوافرة وتوافرت تحت شعارات مختلفة.. وفي أوعية متنوعة.. لكي تلتئم طبقة جديدة من أصحاب الآراء الذين راحوا يروجون إلي نهاية ليس فقط النظام.. بل «نهاية الدولة» نفسها.. بأساليب عديدة وأدوات متعددة.
الرسالة الجوهرية في هذه العملية توزعت علي مراحل مختلفة. بدأت من عند نقطة (كفاية).. ثم الدعوة للتغيير.. ومن بعدها التسويق لما يسمي «فشل الدولة».. وصولا إلي أن الأوضاع سيئة بحيث لايمكن احتمالها.. وبموازاة ذلك أن هناك شعورا متناميا بالغضب.. وأن الغضب لابد أن يقود إلي ثورة.. ومن بعد ذلك - ملتصقا به - طرح التساؤل الشهير: لماذا لا يثور المصريون؟.. إلي أن بلغنا مرحلة التبشير بالثورة علي أنها قادمة لا محالة ويجب انتظارها.. وأن المشكلة لاتكمن في أن الثورة سوف تحدث ولكن في توقيتها.. هل هو القريب أم أنه الأقرب.. وفي شكلها ومن أين تبدأ؟
سوف نعود إلي هذا في مناطق أخري من المقال. لكن الملاحظة الأهم هنا هي أن الذين انخرطوا في ذلك.. وبما فيه عملية انتظار الثورة - سواء كانوا إعلاميين أو سياسيين أو حتي مثقفين متكاملي العقول - لايشترط فيهم أنهم جميعا ينتمون إلي منظومة الاختراق التي كلفت بالمهمة المعقدة والممتدة.. وإنما فيهم فئات عريضة راحت تردد ما تسمع دون تفكير وتتبني الرسالة دون مراجعة.. أو وظفتها لخدمة مصالح ذاتية.. أو في إطار تفاوضات ضيقة.. الجميع راح يصب مما لديه في نفس الماعون الذي استقر في قاعه معني أن الثورة آتية لا ريب فيها.. مسألة وقت!!!
- رسالة للأنظمة
تاريخيا، انفجرت هذه العملية إبان تولي جورج بوش رئاسة الولايات المتحدة، في عام 2000، حين ربطت إدارته بين موقف عدد من الدول العربية من الملف الفلسطيني وبين أدائها الداخلي، لقد كانت مفاوضات كامب ديفيد قد فشلت للتو.. رفض عرفات الرضوخ فيها للمطروح عليه.. ولم تقبل مصر أن تمارس عليه ضغطا بالنيابة.. وبالتالي صعدت المقولة المكذوبة التي ربطت بين بقاء تلك الأنظمة ودورها في حل المعضلة الفلسطينية الإسرائيلية.. وترويج معادلة لم تزل تتردد حتي اليوم مؤداها أن تلك الأنظمة إنما بقيت في مواقعها علي أساس أنها تحقق المصالح الأمريكية.. وأنها سوندت من أجل ذلك.. أما وإن هذه المصالح لم تتحقق فإنه لا مناص من التخلي عن تعضيد تلك الأنظمة وإسقاطها والبحث عن بدائل تقوم بهذا الدور.
استراتيجيا، الرسالة التي بلغت الدول المعنية هي أن عليها أن تقوم بما يخدم المصالح الأمريكية ومن خلفها المصالح الإسرائيلية.. وإلا فإنها لن تفقد المساندة الأمريكية - غير الموجودة أصلا لأنها لو كانت موجودة لسقطت الأنظمة بمجرد أن تقول الولايات المتحدة ذلك - وإنما سوف تجد نفسها في صراع علني وسري مع واشنطن، وفي خلفية ذلك إسرائيل، حتي تستجيب إلي المطلوب منها.
لقد كان المعني المباشر، والذي تم تجاهله في نفس الوقت، في هذه الرسالة، هو أن تلك الأنظمة التي تتعرض «للقصف السياسي الضاغط» تتميز بكونها تراعي المصالح الوطنية ولاتستجيب للمطالبات الأمريكية.. لكنها في ذات الوقت كانت تعني أيضا أن واشنطن - في عهد بوش - إنما أعطت «ضوءا أخضر» لجماعات موالية واتجاهات ممولة من جانبها.. لكي تقوم بما عليها.. وأن تنتقل من حالة (الخلايا الساكنة النائمة) إلي حالة (الخلايا الفاعلة المعلنة) في معاركها ضد الأنظمة نفسها وعلي أرض البلدان.
هذا «الزخم المخطط»، لم يحظ بطاقة جديرة بالرصد في البداية، ومن ثم جاءت بعد أشهر من انطلاقة عملية 11 سبتمبر الإرهابية الكبري التي أطاحت ببرجي التجارة العالمي في نيويورك، تلك العملية التي وجد فيها اليمين الأمريكي المحافظ مبررا كافيا لتجديد هجومه علي مجموعة الأنظمة التي تري الولايات المتحدة أنها مدينة باستحقاقات لابد أن تسددها إقليميا، ولذا فإن الرسالة التالية كانت هي أن هذه الأنظمة - التي وصفت بأنها تقهر شعوبها وسميت بالديكتاتورية - إنما هي السبب فيما جري في 2001، وأنها ضغطت علي الشعوب وقهرتها حتي انفجرت إرهابا في وجه شعب الولايات المتحدة.. الذي استدعي باستغلال الأمة إلي منصة النزال لكي يساند الإدارة في هجومها علي تلك الأنظمة المتهمة بأنها السبب في الإرهاب الذي أدي لمقتل الألوف من أبنائه.
أدت هذه العملية إلي أمرين جوهريين، الأول هو التغطية علي مسئولية الولايات المتحدة المباشرة في نشوء الإرهاب المنظم دوليا، وبما في ذلك دعمه لوجيستيا وماليا ورعايته في حضانة أفغانستان إلي أن تشكل تنظيم القاعدة. والثاني اختلاق أحد تبريرات الحرب علي العراق باعتبار أن نظام صدام حسين هو أحد أهم أيقونات الطغيان.. رغم أنه لا علاقه له إطلاقا بما جري في سبتمبر 2001 - وهو أمر لا ينفي أنه كان طاغية - فضلا عن توفير الغطاء السياسي العريض لحملة نشر الديمقراطية وقيم الولايات المتحدة في أنظمة الشرق الأوسط ومجتمعاتها.. حتي لاتبقي إلي الأبد (أرض الأحقاد).. فقد كان أهم تفسير راج لما جري في نيويورك هو أنه نوع من «الحسد والحقد» علي النموذج الأمريكي في الحياة.. وليس نتيجة للظلم والعدوان الأمريكي والمساندة الواشنطنية للصلف الإسرائيلي والاستيلاء التاريخي علي الأرض العربية.
- تسديد فواتير
الجماعات التي تلقت «الرسالة الأولي» استوعبت وفق ما هي تدربت عليه «الرسالة التالية»: (الغطاء الأمريكي المفترض للأنظمة قد سقط).. ولم يسأل أحد نفسه إذا كان هذا الغطاء هو أساس وجود الأنظمة - ولا أقول مؤقتا شرعيتها - فلماذا لاتمضي الولايات المتحدة «البوشوية» في تعيين أنظمة بديلة لينتهي الأمر.. وتبدأ تلك الدول المنساقة والمنقادة أمريكيا عصرا جديدا بدون كل هذا الصخب وكل تلك الجهود المتواصلة منذ سنوات؟ كما لم ينتبه الكثيرون وبما في ذلك الفرق السياسية التي تساند المجتمعات العربية في رغبتها في أن تحافظ علي استقلالها وحرية قرارها وألا تقبل الإملاءات.. إذ بدورها، راحت تتجاهل أن معني هذا الكلام هو أنه مطلوب من الأنظمة تسديد فواتير بعينها.. فإن لم تفعل.. فإن أصحاب الضغوط لايقوون علي قلبها.. وإنما يمكنهم أن يلجأوا إلي أساليب أخري ممتدة لكي تظل الضغوط قائمة.. ولكي تستمر عمليات التأليب.. في إطار معادلة ابتزاز معلنة ولم تجتهد حتي في أن تخفي وجهها أبدا.
المرحلة التالية منحت زخما أكبر للخلايا التي كانت نائمة، إذ بقدوم الغزو الأمريكي للعراق، واحتلاله، وإسقاط نظامه وهدم دولته بالمساواة بالأرض، تشجعت الجماعات ذات الميول الأمريكية أو المرتبطة بالولايات المتحدة مباشرة، وكشفت عن وجهها، وراحت تردد مقولات أمريكية مختلفة حول التغيير القادم في الإقليم الذي سينسف الأنظمة القائمة.. وأن وقتا طويلا لن يمر قبل أن تسقط أنظمة أخري علي طريقة ما جري في بغداد.. لقد وصل الأمر حد أنه لم يعد من المخجل أن يتباهي مثقفون وسياسيون بولائهم السافر للولايات المتحدة.. والذين لم يكن أي منهم يسير علي منهج أحمد جلبي العميل الأمريكي الأشهر في العراق.. راح يقدم نفسه عمليا علي أنه «جلبي» هذه الدولة أو تلك.
كان هذا كلاما خطيرا جدا، ليس علي مستوي تأثيره العام والفعلي، لأن جلبي نفسه قد تلاشي بعد أن انقضي دوره واحترق أمره، ولكن علي أكثر من مستوي آخر:
- كسر محظور التضحية بالولاء الوطني لصالح الولاء للأجنبي.. وهي مسألة لها أبعاد عميقة في الثقافة العربية.. خصوصا المصرية.. حيث يوجد تاريخ ممتد من التخوف من التدخلات الأجنبية.. وهكذا عرفت ظواهر شرعنة الخيانة والمباهاة بالمطالبة بالتدخل الأجنبي واستدعاء الغزو والتجرؤ علي طرح فكرة أنه لا مانع إطلاقا من أن تنفذ التصورات الأجنبية في بلدان العرب.. ولو كان ذلك عسكريا.
- تزامن هذا مع دعايات مروعة وعنيفة حول أن العراق إذا كان الأول فإنه لن يكون الأخير.. وأن الأدوار التالية سوف تأتي إلي كل من سوريا، والسعودية، أما مصر فهي كما وصفت (الجائزة الكبري).. ووقف وراء هذه الدعايات - في ظل صمت لا ينفيها من قبل الإدارة الأمريكية - فريق معلن من المحافظين الجدد.. الذين راحوا يواصلون دعم وتحفيز جماعات محلية مختلفة.. مع تصعيد مباشر في الحملة الإعلامية الأمريكية المستغلة للطاقة التي وفرتها عملية العراق.
- إذا كان المطروح ذهنيا علي الرأي العام هو الحد الأقصي المخيف من التهديدات المفترضة.. أي الغزو العسكري علي شاكلة ما جري في العراق.. فإن البديل الذي طرح بعد ذلك هو عملية (دمقرطة) الأنظمة العربية.. وإعلان خطط أمريكية لتغيير صياغات المجتمعات.. وتصدير الأشكال السياسية الوافدة عليها.. تحت المسمي العريض (مبادرة الشرق الأوسط الجديد).
وتدافع الضغط المهول من الخارج ومن جماعات مأمورة في الداخل.. وقد تزايدت مبررات هذا أمريكيا مع إصرار مصر علي ألا تشارك في أي عملية عسكرية ضد العراق.. أو منحها أي شرعية سياسية.. أو مساندة من أي نوع.. بل والتحسب من النتائج الخطيرة التالية لهذا الغزو - ما اتضحت صحته فيما بعد - فضلا عن إصرار القاهرة علي أن «منشأ الإرهاب» هو الإحساس بانعدام العدالة في العلاقة بين الشرق والغرب.. وأن هذا منبته هو الظلم المتجذر في الملف الفلسطيني.. وأنه لا استقرار في المنطقة بدون تسوية عادلة ودولة فلسطينية مستقلة.
لقد فجر «تمسك القاهرة بمواقفها المبدئية إقليميا» تحديا مكتوما مع إدارة الرئيس بوش.. ما نمي رغبة قوي وتيارات في الإقليم وخارجه في أنه يجب تنفيذ خطة تحجيم مصر.. وشغلها بذاتها.. ودفعها إلي الانهماك الداخلي.. ما يؤدي إلي خفوت تأثير هذه الدولة التليدة في محيطها.. بحيث لا تسقط كما تروج أغلب التصورات المثارة إعلاميا.. وإنما أن تقيد.. وتطوق.. بحيث تكون قائمة ولكن دون أن تتمكن بسبب معاناتها المتخيلة من أن تمارس نفس التأثير الفعال في الشرق الأوسط.
- خلال نصف قرن
عملية (تقليص مصر).. ومن ثم تقليص قوي إقليمية عربية أخري بالتبعية.. كان لها أكثر من هدف أبعد من الظاهر مباشرة.. ومنها:
-ألا تنفرد مصر بكونها القوة الإقليمية الأبرز سياسيا.. وأن يتم اختلاق أو تشجيع أو تحفيز مجموعة من القوي الإقليمية الأخري.. بما في ذلك تعضيد تصورات لدي دول عربية لا تساندها المقومات الاستراتيجية.. بحيث تضع نفسها بدورها في طريق مصر.. أو أن تتخيل ذلك.
- أن تجد مصر أن عليها أن تستجيب إلي المطروح إقليميا ولو هدد مصالحها العربية، ولو هدد المصالح العربية.. سواء كان علي مستوي الصياغات التي يمكن أن يتم الانتهاء إليها في العراق أو في فلسطين أو في لبنان.. أو في السودان الذي ينتظر استفتاء قد يؤدي إلي التفتيت بين جنوب وشمال ثم يمتد إلي تفتيت يشمل الشرق والغرب.
- إنه إذا ما تم الوصول إلي تسويات مختلفة في الملفات المتنوعة إقليميا، خصوصا الملف الفلسطيني، لايتيح هذا لمصر أن تتفرغ لعملية بناء داخلي قوية علي المستويين الاقتصادي والاجتماعي.. وإنما أن تبقي قيد الانشغال بملفات معقدة داخليا وحدوديا وعرقيا وطائفيا وبما في ذلك حتي مائيا.. بحيث لا تمثل تهديدا محتملا لإسرائيل علي مدي نصف القرن المقبل.. وهو ما سبق أن أشرت إليه من قبل في مقال نشرته في مارس الماضي.
الخطة المعقدة، والتي أصر علي أنها مرتبة، لايمكن القول أنه كانت هناك مائدة اجتمع حولها البعض وقرروا ما عليهم فعله تجاه مصر.. ولكن يمكن القول أننا كنا بصدد عملية وفرت السبل لأدوات مجهزة قامت هي بدورها.. في أحيان بالإملاء المباشر.. والتوجيه المخطط.. وفي أحيان أخري بدون ذلك.. عملية تشبه لاعب بلياردو.. صوب رأس العصا إلي مجموعة من الكرات المتراصة.. فتفرقت علي قطعة الجوخ الخضراء.. وحين قام بهذا التصويب فإنه لم يكن يعرف حدود العلاقات التي سوف تنشأ فيما بعد.. ولكنه كان علي يقين بأن هذه البعثرة العشوائية سوف تحدث تفاعلات مختلفة تحقق أهدافه.. ولامانع من إضافة عامل من هنا أو عامل من هناك لتحقيق مزيد من البعثرة.
- المؤسسات أولا
ما الذي يميز مصر؟.. ببساطة: مركزيتها، وحدة أراضيها، سيطرة مؤسساتها. بالإجمال قوة الدولة. إذن كانت الأهداف الأهم والمستمرة حتي اليوم، حتي بعد أن مضي عصر بوش، هي أن تهدم هذه الدولة.. وأدواتها.. الصحيح بالطبع أنه لايمكن توقع أن يقبل الشعب المصري الضخم والهائل أن يتعرض لغزو كذلك الذي تعرض له العراق.. لكن هذا لاينفي إطلاقا أنه يمكن تنفيذ خطة مستمرة لطحن أدوات هذه الدولة العريقة.. «الطحن بالطعن» في المصداقية.. وخلق فجوة بين هذه الدولة ومؤسساتها وبين الرأي العام المصري.. ما قد يؤدي إلي إحساسه بالعداء نحوها.. وما يؤدي إلي غضبه منها.. ليس لكي تسقط تلك المؤسسات.. ولكن لكي تبقي مقيدة ومضغوطة.. تسير علي الحبل بدون حرية.. لا هي تقدر علي الفعل.. ولا هي منعدمة التأثير.
إن قراءة بسيطة ورصداً مبسطاً للمهام التي نفذتها جماعات في الداخل وفي الخارج.. مدعومة «بأمواج إعلامية عاتية».. تحولت حينا إلي «تسونامي».. يمكن أن يثبت هذا بدون بذل جهد كبير. ففي غضون السنوات القليلة الماضية جري ما يلي: هجوم مروع ومتتالٍ علي وزارة الداخلية - إحداث ارتباك واسع النطاق في مصداقية واستقلالية مؤسسة القضاء - شن الحملات العنيفة علي وزارة الخارجية واتهامها بالعجز والتقصير وفقدان التأثير - الهجوم العنيف متتالي المراحل علي المؤسسة الدينية متمثلة في الأزهر الشريف - النقد الحاد والتشويه المنظم للمؤسسات الصحفية القومية - انتقاد مصداقية الجهاز الإداري في الدولة بحيث يتم تصويره علي أنه غير عادل تجاه من يحتويهم من فئات المجتمع وغير نزيه بل وفاسد تجاه المجتمع كله - التشويه المنظم والدقيق جدا للحزب الذي يملك الأغلبية ولديه النفوذ الشرعي في مختلف قطاعات الدولة اعتمادا علي أغلبيته البرلمانية - الطعن في شرعية المؤسسة البرلمانية وتصويرها علي أنها «بيت الداء والفساد» ما يؤدي إلي الطعن في شرعية القانون ومن يشرعونه.
لقد اختلط الحابل بالنابل، ذلك أنه لا يمكن القول بأن أيا من تلك المؤسسات تخلو من سلبيات أو نقائص، لكن العملية المنظمة التي واجهتها.. كل منها.. في مراحل مختلفة.. لم تكن تعمد إلي تحقيق إصلاح للسلبي وتحويله إلي إيجابي.. وإنما كان قصدها من المنفذين إعلاميا وسياسيا هو تضخيم كل خطأ بصورة مهولة.. وبقصد هدم المؤسسة بالكامل.. وإفقادها مصداقيتها.. ومن المذهل أن الكثيرين انجرفوا في هذا الاتجاه.. حتي الذين لم يكن لهم دور في المخطط.. فالعدوي سرعان ما انتقلت.. والقيم الغازية سرعان ما نفذت سهامها.
إن الدولة المصرية، بصفتها عريقة، متماسكة، قادرة، تفرض الاستقرار، راعية لكل فئات المجتمع، توفر الأمن، تضمن العدل، متسعة الدور، معروف ما هي طبيعة الأيام معها ويطمئن الناس إلي مستقبلهم تحت جناحها.. صارت في إطار تلك الحملة ونتيجة لها: ظالمة، فاسدة، جبارة، معذبة، ضعيفة، لاتضمن الاستقرار، تستمع إلي المنافقين وليس إلي صوت الناس، مسئولوها منعزلون.. وبالتالي فإن الغضب منها مبرر.. والصبر عليها لايوجد له سبب.. ولابد أن يثور عليها الشعب.. بحيث يدمر بيديه ما لم تقم بتدميره قوي الغزو الخارجي التي لم تأت ولن تأتي.
- العقد الاجتماعي
السؤال هو: هل بقيت الدولة المصرية تتفرج خلال تعرضها لتلك الحملة معروفة الأسباب والنوايا؟.. في الإجابة عن هذا نرصد التالي:
- تزامن هذا المخطط مع عملية تطوير وتحديث وإصلاح كانت قد بدأت فعليا في عام 2000.. وقبل تلك المتغيرات.. وانتقلت إلي مرحلة أوسع في عام 2002. ثم تبلورت قوتها الدافعة من خلال مبادرة الرئيس مبارك بتعديل الدستور وطريقة انتخاب الرئيس في 2005. وصولا إلي تعديلات الدستور في 2007. - عمليا، ووفق المعلن من الدولة، فإنها كانت - ولم تزل - ترسم خطوط «دورها المجتمعي الجديد» في إطار التعديلات الدستورية وما يمكن وصفه بأنه «العقد الاجتماعي الجديد».. بمعني أوضح فإنها كانت تتلمس من خلال التفاوض الاجتماعي حدود هذا الدور الذي «يحفظ التوازن ويبقي الاستقرار ولا يمنع التطوير».. وبالتالي تقوم بتحديث مؤسساتها وتضع لها معادلات جديدة.. لاتنفي دورها، ولكن أيضا لاتجعلها محتكرة لكل الأدوار.
- بصورة ما، استفادت الدولة من كل تلك المتغيرات السلبية التي تفاعلت في المجتمع، لكي تخضع مؤسساتها للاختبار المتدرج، ولكي تدربها علي التعامل مع عصر الأنواء العاتية، بدءا من تحمل الحملات المكثفة وطريقة التعامل معها.. وصولا إلي التفاعل الإعلامي في ظل واقع جديد.
-أدركت الدولة أن أحد أهم التحديات التي تواجهها هي بلوغ حد النكوص عن الحرية التي هي فتحت أبوابها علي مصراعيها.. ودفعها إلي اتخاذ إجراءات عنيفة.. تطيح أولا بالمكتسب الذي بذلت جهدا في ترسيخه وإحداث انتقال إليه.. وتمنح بها ثانيا من يدعون أنها دولة طاغية خنجرا لكي يصوبوه إلي صدرها.. ومن ثم فإنها - أي الدولة - استوعبت بحكمة تحسد عليها وهدوء أعصاب لافت كل هذه التفاعلات لدرجة أثارت طمع العابثين.. وصورت لهم أن الدولة علي وشك الانهيار وأنها سوف تغلق أبوابها غدا.
لقد كان المقصود - ولم يزل - هو الاستفادة من هذا «المرجل» في ترسيخ معادلات جديدة في مناخ مختلف.. حتي لو كان فريق من المتواجدين علي الساحة يستهدف أبعادا أخري غير معلنة.. وأن التجربة سوف تكسب المؤسسات صلادة وقدرة.. وفيما بعد أن تنتهي تلك المرحلة دون أن يهتز الاستقرار فإن هذا سوف يجعل البلد قادرا علي اجتياز أي عبء مماثل ببساطة.. ما يحول الخطة الشريرة إلي تمرين سياسي حاد وقاسٍ ومفيد.
- تفهمت الدولة أن عملية التطوير الاقتصادي التي تقوم بها وتحرز ثمارها لايمكن أن يتم الفصل بينها وبين مناخ الحرية السياسية وحرية الإعلام، وأن هذا الانفتاح في اتجاه الاقتصاد لابد أن يكون مرتبطا بانفتاح موازٍ آخر، في اتجاه السياسة، خصوصا أن هناك سلبيات متوقعة لعملية الإصلاح الاقتصادي.. لابد لها من متنفس.. يؤدي إلي كشف العواقب الاجتماعية للتطوير الاقتصادي.. بدلا من أن تبقي مكتومة وتفاجئ الجميع في لحظة غير مرئية.
- علي عكس كل القوي السياسية والجماعات المختلفة فإن الدولة هي أهم طرف كان ولم يزل يدرك أن كل تلك المجريات الصاخبة في مصر ليست لها جذور اجتماعية حقيقية.. وأن تركها تواصل ما تقوم به هو في حد ذاته ضمانة لكشف هويتها بين فئات الرأي العام.. والملاحظ في هذا السياق أنه حين كانت تقع أزمات من نوع مؤثر تقوم تلك الجماعات باستغلالها والتبشير بأنها سوف تسفر عن كارثة.. فإن الدولة كانت تتدخل بما ينبغي أن يكون.. إذا كان هذا يمس التوازن الاجتماعي والاستقرار العام.
- لاشك أن ترك هذه التفاعلات بلا قيد قد أظهر للرأي العام في مصر ما هي طبيعة التوجهات المطروحة عليه.. ومن يعمل من أجل صالحه ومن يعمل ضد وطنه.. كما كشفت حقيقة وحجم القوي المتصدرة للشاشات والصفحات بل والمظاهرات.. وهل فيها حقا من يمكن أن يمثل بديلا للدولة، ولا أقول لحزب ما.
- لابد أن الدولة كان في وعيها الكامل أنها تواجه إلي جانب العبث الداخلي المستغل لأجواء الانفتاح السياسي والإعلامي، مخططات أعمق تمثل تحديا للأمن القومي.. سواء علي مستوي العلاقات بين عنصري المجتمع.. أو علي مستوي تأليب مشكلات عرقية لم نكن نسمع بها.. ولابد أنها فصلت إلي حد بعيد بين هذا العبث وبين تلك التحديات المختلفة.. وحين كانت تجد أن هناك خروجا عن هذه القاعدة فإنها كانت تتدخل علي الفور.. وتذكر العابثين وأصحاب الأدوار بأن هناك خطوطا حمراء.. وأنها حتي لو كانت تسمح بكل هذا الذي يجري فإنها لايمكن أن تقبل مايؤدي إلي الإخلال بالتوازن والاستقرار والأمن.
لا أعتقد أن كثيراً من المتفاعلين في الداخل بدوافع وتخطيط الخارج قد استوعب هذه الحقائق، ولا أظن أن غالبيتهم قد انتبهوا إلي حقائق مختلفة.. منها أنهم جميعا.. حتي لو كان فيهم من هو مدفوع من الخارج.. إنما يتفاعلون أمام أعين الدولة المصرية وتحت غطائها.. وأن المنبت الشرعي لما يقومون به يقوم في الأساس علي أسس دستورية ابتدعتها الدولة، وأن هذه الدولة هي نفسها التي تمكنت من أن تفوت ضغوطا مهولة لإدارة الرئيس بوش، إلي أن ذهبت في غياهب التاريخ، ولا أعتقد أن فيهم من تصور أن الدولة المصرية التي حاولت قوي مختلفة تقليص دورها إنما حافظت علي مكانتها.. وأبقت الاحتياج إلي مقوماتها الاستراتيجية إقليميا ومن خلال شبكة علاقات واسعة في مختلف أنحاء العالم.. وأجزم أن فيهم من لم يستوعب أنه أداة في يد من لايعرف.. وفيهم من لايفهم أن دوره قد انتهي.
- الذين ينتظرون الثورة
بل إن بعضا من هؤلاء راح يعتقد أنه قادر علي تفجير ثورة في البلد.. وأنها قيد التجهيز.. وأن المجتمع علي شفا حفرة من حريق اجتماعي هائل.. وأن تغييراً ضخماً سوف يجري في لحظة.. وأن الناس ضاقت.. وأن النظام كما يصورونه قد فقد الشرعية.. وضاعت هيبته.. وعلي هذا الأساس يقيمون الاحتمالات.. ويروجون السيناريوهات.. وينتظرون الأنصبة والغنائم التالية. بإيجاز ينقسم العابثون علي الساحة الآن إلي مجموعة من التصنيفات:
-أصحاب الولاء الخارجي الذين اكتشفوا أنه قد انتهت قوتهم الدافعة ومساندتهم عبر الحدود.. غير أنهم يلقون بالورقة الأخيرة.. لعل هذا يؤدي إلي حفظ دور لهم.. أو استنهاض من كانوا يساندونهم.
- مجموعات أيديولوجية محدودة ذات طابع يساري وفوضوي.. من طبيعتها - حتي لو كان فيها من لديه ولاء خارجي - أن تجد نفسها في عداء مع الواقع المجتمعي.. وسوف تبقي موجودة.. وكانت كذلك منذ نشأت في بدايات القرن الماضي.. وهي تؤمن بالتثوير.. ولاتري له بديلا سياسيا.
- جماعة الإخوان المروجة لمشروع الدولة الدينية، باعتبارها تستغل أية أجواء يمكن أن تستفيد منها في أي مرحلة.. سواء كان ذلك مثلا إبان مرحلة ضرب الإرهاب لمصر في التسعينيات.. أو خلال مرحلة التفوير والدعوة للثورة والدعاية للفوضي في المرحلة التي توازت مع الحراك السياسي المتولد عن تعديلات الدستور.
- مجموعات من الشباب المندفع والطموح الراغب في حدوث تغيير.. لايعرف شكله.. وليست لديه تصورات بشأنه.. والمتحمس بطبعه.. وهي تنتمي إلي جيل وجد معاناة اجتماعية.. ولديه شغف بالمفاهيم العصرية والحقوقية.. لكنه لم يجد من يستوعبه.. فذهب إلي جماعات سياسية مستجدة.. وعبر عن نفسه في مدونات الإنترنت حيث تجد غضبا واضحا.. وربما تخبطاً.. سوف يتخلص منه الكثيرون بمزيد من النضج.. وبمد الأيادي إليهم لاستيعابهم في المؤسسات السياسية الشرعية.. وهي الأحزاب.
- وينتمي إلي كل هؤلاء فريق من الإعلاميين، والصحفيين، سواء مباشرة أو من خلال الارتباط المعنوي، وفيهم إعلاميون ومثقفون أصحاب وجهين.. سياسي و«إعلامي أو ثقافي».. هؤلاء بدورهم هم الذين يمنحون كل تلك المجموعات زخما لايعكس حقائق اجتماعية.. ويُبقي تلك الظواهر معلقة في الهواء الطلق بلا جذور.. وإن أحدثت صخبا.. وإن كان لها دوي.. وحتي لو كان لها صدي خارجي مفتعل لأسباب مفهومة.
إن كل هذه المجموعات تدين في وجودها إلي الظاهرة الإعلامية التي أتاحها عصر الرئيس مبارك، وإلي مناخ الحرية والتعددية الذي وفره، وفي ضوء أنها تعتبر ما تتمتع به حقوقاً مكتسبة لا تقتضي الإقرار بحقائق مصدرها ونشوئها، ولأنها تأمل في أن تكون اللحظة الآنية هي الفرصة الأخيرة في إثبات ما بشرت به، ودعت إليه، فإنها تعتقد أن عليها أن تخوض الفصل الأخير من المعركة علي أمل أن تؤدي الاستحقاقات السياسية في الفترة المقبلة (الانتخابات البرلمانية ثم الانتخابات السياسية) إلي توتر هائل يحقق لها فرضية وقوع الثورة.
- لماذا تأخرت؟
إن السؤال هنا هو: لماذا تقع الثورة في أي مجتمع؟ هل تنتج الثورة عن التحريض؟ هل تؤدي إليها عمليات الإغضاب الإعلامي والدعايات السياسية الحادة؟
لا أنكر أن كثيراً مما جري في السنوات القليلة الماضية قد أدي إلي تعكير صفو ذهنية الرأي العام.. وإلي (لخبطة) في كيمياء الناس.. ولاشك أن الحملات التي تعرضت لها المؤسسات أدت كذلك إلي بعض ظواهر التجرؤ علي السلطة.. لكن هذا كله لايؤدي إلي ما يعتقد أولئك.. فالتجرؤ يمكن أن يقضي عليه الحسم في لحظة.. والذهنية تعود إلي صفوها بأي مناسبة بسيطة.. وكما عكرتها أجواء تسعدها أجواء أخري.. ومثال ذلك الاندفاع الحاشد وراء منتخب مصر في بطولتي أفريقيا عام 2008 و2010. والكيمياء تعود إلي اعتدالها حين يتوازن الإعلام.. ويتلقي المشاهد والقارئ رسالة لاتقصد دفعه إلي الاكتئاب.
الثورة تحدث حين يكون هناك خلل اجتماعي رهيب.. والأنظمة تتغير حين تفقد شرعيتها.. والدول تنهار حين تنعدم مقومات قوتها.. والإدارات تتبدل حين تفقد ضرورتها.
الذي لايمكن أن يفهمه المسوقون للثورة هو أن الدولة المصرية، بوضعها الحالي، أيا ما كانت الملاحظات علي أداء مسئول أو أكثر هنا أو هناك، تمثل ضرورة للمجتمع، وهي - بطبيعتها وقدرة إدارتها وحكمة قياداتها - تلبي مقتضيات العقد الاجتماعي المبرم بينها وبين الناس دون إخلال ببنوده.. وقد كتبت في الأسبوع الماضي عن الأسلوب الذي تمكن به الرئيس مبارك من أن يحافظ علي مصالح ومقتضيات العناصر الثلاثة للبلد: حماية الحدود - صون مصالح الناس - حفظ الدولة وتحديثها مدنيا.
إن في مصر فقرا، هي لاتنفرد به عن غيرها من دول العالم، بما في ذلك الدول الغنية، ولكن هذا الفقر لايعني أن قطاعات عريضة من الناس - ولا أريد أن أقول أفرادا - ينامون بدون تناول وجبة طعام.. وفيها عشوائيات سكنية تناطح بوجودها مساكن فاخرة.. ولكن ليس فيها قطاعات مهولة من الناس لاتجد مأوي وتعيش في الطرقات مشردة.. ويتعرض الأداء العام لأزمات من حين لآخر.. ولكن هذا لاينفي أنه يتم التعامل معه بسرعة وبقدرة تثبت أن الدولة تستطيع أن تلبي بنود العقد الاجتماعي.. ويمكن في ذلك متابعة طريقة التعامل مع أزمات الرغيف ومن ثم أزمة توزيع المياه وبعدهما أزمة توزيع الكهرباء.. علما بأنه لم يكن أي منها ليبلغ صداه الحاد بدون التكثيف الإعلامي المتعمد والمحرض في أحيان كثيرة.
هذه الدولة قادرة - وبدون أدني شك - علي أن تحافظ علي توازن اجتماعي، ساع إلي العدالة، وأن تضمن أن طريق الصعود الطبقي ليس مسدودا.. حتي لو واجه عثرات في بعض الأحيان وبدا صعبا.. ولديها الاستطاعة في أن تنمي تأثيرها الإقليمي المعبر عن الطموح الشعبي العام والأدوار التاريخية للدولة المصرية.. وأن تكون هي مصدر الثقة في أن التغيير والتطوير لايمكن أن يحدث إلا من خلالها وبإرادتها وفي التوقيت الذي تراه مناسبا وبحيث يلبي الاحتياج العام والضرورة الأكيدة.
ويفترض في الثورة، إذا ما فرضنا جدلا أن هناك أوضاعا اجتماعية حاسمة وخطيرة تقود إليها، أن تقودها قوة اجتماعية وفئة سياسية يثق الناس في قدرتها ومكانتها وإمكانية أن تلبي لهم طموحات حادة واحتياجات واجبة.. وهذه الفئة غير موجودة.. وهذه التلبيات غير قائمة لأنها بالفعل ملباة، ولو كان عند الحد الأدني.. وهذه الأوضاع غير موجودة.
- سيناريوهات إضافية
وحتي مع إدراك العابثين لهذه الحقائق.. فإنهم يأملون في حدوث سيناريو من الثلاثة التالية:
- أن يؤدي تسويق سيناريو الثورة وتوتير الناس إلي إقناعهم بأن هناك أمرا قادما لاشك في ذلك.. ومن ثم توقعه.. والتفاعل معه نتيجة لوقوع أي حدث ما من أي نوع.. يؤدي إلي انجراف الجماهير ناحية الفوضي وقتها - وفق ما تتخيل هذه السيناريوهات - سوف تخرج تلك المجموعات لقيادة الناس والاستيلاء علي الأوضاع.
هذا سيناريو هش. يقوم فرضا علي أن لدي الناس اقتناعا قائما بحتميته. ويستند في الأساس إلي أن الرسالة الإعلامية التحريضية سوف تستمر في غيها لفترات أطول وبما يؤدي إلي هز الاستقرار.. كما يفترض أيضا أن الرسالة الإعلامية البديلة خالقة التوازن سوف تبقي محجوبة أو متكاسلة عن الوصول إلي الناس.. ناهيك عن أن هذه وقتها لن تكون ثورة وإنما فوضي بلا هدف تلقي بالبلد في جب الضياع الحقيقي.. أو ضياع من نوع ملتحف بالدين يدخلنا في حالة حماس.
-أن يؤدي التحفيز والحديث المتكرر إلي قيام مؤسسة من مؤسسات الدولة بأخذ زمام المبادرة وإحداث الثورة التي تتحدث عنها تلك المجموعات.. وبالتالي وقوع ما تأمله.
وهذا سيناريو أنا مضطر، مع شديد الأسف، لأن أصفه بأنه (عبيط).. وليس حتي ساذجا.. أولا لأنه وقتها لن يكون «ثورة» وإنما علي أقل تقدير «انقلاب» ضد الديمقراطية والدستور.. وقد انتهي هذا العصر، وثانيا لأنه يفترض أن أيا من مؤسسات الدولة بتكوينها الاجتماعي المنتمي للطبقة الوسطي وعقيدتها الإيديولوجية يمكن أن تتحالف مع تلك المجموعات العابثة والمأجورة خارجيا مفهومة الأهداف.. كيف تتحالف مؤسسة في الدولة مع مجموعات خائنة تعمل ضد ا لدولة؟! وثالثا لأن كل المؤسسات تعرف دورها الشرعي والوطني ولأنها من مقومات حفظ الشرعية.
لقد جري توقع هذا السيناريو مع مؤسسة القضاء.. وقد أثبتت مجريات الأمور، كما يعرف الجميع، أن هذا غير سليم.. وأن القطاع الأعرض والأشمل في المؤسسة ليس علي استعداد لأن يتم العبث به بسبب مواقف بعض الأشخاص ذوي المصالح والأهداف.
-أن تؤدي تفاعلات الانتخابات البرلمانية المقبلة إلي حدوث مشكلة كبري.. تسفر عن غضب عام.. وانهيار في الشرعية.. ما يستدعي تدخلات دولية بصورة ما.. ومن ثم وقوع سيناريوهات مثل ما جري في إيران.. أو ما جري في بعض دول أوروبا الشرقية.
وهذا أيضا كذلك سيناريو هش.. ليس فقط لأن هناك حرصا حقيقيا علي نزاهة الانتخابات المقبلة.. وإدارتها بشكل عادل وشفاف ومعبر عن اتجاهات الناس.. حيث لايوجد تحدٍ حقيقي يواجه الدولة.. فالأغلبية تحت مظلتها.. وغير الشرعيين يعملون وفق قوانينها بغض النظر عن نواياهم ضدها.. وإنما كذلك لأن مصر ليست دولة دينية مثل إيران.. ولأن مصر ليست خارجة من نير حكم شيوعي قاهر كما هو الحال في دول أوروبا الشرقية.. التي يحلو للبعض أن يقارن بها.. علما بأن الفورة التي وقعت في إيران بعد الانتخابات انتهت إلي لا شيء علي المستوي الداخلي ناهيك عن أنه لا توجد أي عوامل يمكن أن تدفع الأمور الانتخابية إلي هذا الوضع الحاد.. مع العلم بأنه لا يوجد بتاريخ مصر أي خلفيات تقود إلي هذا الشكل من التفاعلات العنيفة.
إن دولة مرتبطة بشعبها وتخلص لعقدها الاجتماعي معه، وتستند إلي الشرعية الموثوقة، وباعتبارها ضامنة الاستقرار الذي لايريد المصريون له بديلا.. سوف تعبر العام الحالي والمقبل بمنتهي الهدوء.. وفق أسس القانون.. وتستقبل عام 2012 باستقرار يؤكد أن كل تلك الدعايات للثورة كانت مجرد نكتة كبيرة وثقيلة الظل.. وسوف يكون هذا في حد ذاته ثورة حقيقية قادتها الدولة ونقلت بها المجتمع إلي مايريد.. لأنها هي التي فجرت التغيير في المجتمع، ولأنها هي التي قادت إليه.
عبد الله كمال
يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الآراء المتنوعة على موقعه الشخصى
www.abkamal.net
أو موقع روزاليوسف:
www.rosaonline.net
أو على المدونة على العنوان التالى:
http//alsiasy.blospot.com
أو على صفحة الكاتب فى موقع الفيس بوك أو للمتابعة على موقع تويتر:
twitter.com/abkamal
البريد الإلكترونى
Email:[email protected]
واقرأ أيضا: الجماعة مكشوفة وإن اختلف المفكرون
وأيضا .. د. وحيد ومستر حامد
Design and Development by Microtech


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.